info@suwar-magazine.org

الجمهور ووعيه.. الحالة السورية نموذجاً

الجمهور ووعيه.. الحالة السورية نموذجاً
Whatsapp
Facebook Share

 

 

"ما إن ينضمّ الفرد إلى الجمهور حتى يصبح مقاداً بغريزته وبالتالي همجياً، وهو عندئذ يتصف بعفوية الكائنات البدائية وعنفها وضراوتها وممارساتها وبطولاتها، إن الفرد المنخرط في الجمهور هو عبارة عن حبة رمل وسط الحبات الرملية الأخرى التي تذروها الرياح على هواها"

                                                 سيكولوجيا الجماهير – غوستاف لوبون.

 

 

لا يمكننا فهم اللحظة التي يشكل فيها مجموعة من الأفراد جمهوراً، مالم نفهم مختلف الأسباب التي قادتهم ليجتمعوا على تأييد فكرة واحدة أو العمل من أجل تحقيق هدف واحد، يمكننا أنا وأنت ومجموع البشر الذين نعرفهم ولا نعرفهم أن نشكل جمهوراً حتى وإن كنا غير مجتمعين في مكان واحد سواء كانت تجمعنا فكرة واحدة أو حب معين أو هدف واحد، الجمهور ليس بالضرورة تجمعاً لأفراد في مكان واحد فقد تجد تجمعات بشرية كبيرة في الشوارع لا تصلح تسميتها بالجمهور بينما قد يكون هناك خمسون شخصاً في منازلهم يتابعون حدثاً واحداً على التلفاز يمكنهم نفسياً تحقيق صفات الجمهور.

 

تختلف الأسباب التي تجمع أفراداً معينين ليصبحوا جمهوراً لشيء مشترك بينهم، يؤمنون به أو يشجعونه، إن كان فنياً أو سياسياً أو رياضياً وهذا لا يعني بأنهم كأفراد متشابهون، فكيف يتشكل وعي الجمهور بحدث أو بفكرة أو نوع من الفنون وما العوامل التي تؤثر في تشكيله؟

 

لا تقلُّ دراسة نفس الجماهير صعوبة عن دراسة نفس الأفراد، فلا يمكننا بسهولة رصد الأسباب والعوامل التي جعلت مجموعة من الأفراد يؤمنون بفكرة دون غيرها، ويرفضون أو يعادون كل ما هو نقيض لها، يمكننا تتبع ذلك في مواقف الجماهير السياسية، حيث نرى مجموعة من البشر يحتفلون بنصر تراه مجموعة أخرى اضطهاداً وظلماً، كيف تنقلب المفاهيم بين فئة وأخرى وما الأسباب التي تغذي هذا التناقض.

 

الإعلام ودوره:

 

قديماً لعب الدين دوراً أساسياً في التأثير في الجماهير وتسييرها لتحقيق هدف ما، أو لتأييد حدثٍ ورفض حدث آخر، حتى أن بعض أشكال الفنون حوربت تحت ذرائع دينية، في أماكن أخرى كانت السلطة الاجتماعية هي المحرك الأساسي للجماهير وقوتهم، بعد ذلك اختلف الأمر كثيراً حيث بدأت الجماهير تقود الثورات ثم التطور الصناعي وظهور وسائل الإعلام.

 

 

أدركت السلطات منذ زمن أنها وبسيطرتها على هذه الوسائل تستطيع برمجة المجتمع التي تحكمه والسيطرة على أفكاره وتوجيه رأيه بما يخدم مصالحها ووجودها، وعملت السلطة في كل مكان على خلق إعلام يسهّل عليها التأثير على عقول الناس وتوجيه سلوكياتهم، مستفيدة من أن الرأي العام لا ينشأ نتيجة تحليل الجماهير وتفكيرهم بل كنتاج لما يتلقونه بشكل مستمر.

 

اللغة:

 

 لطالما كانت اللغة الوسيلة الأساسية لتشكيل وعي الجماهير عبر الخطابات التي تشكلها بطرائق مختلفة، يمكن لزعيم رأي بخطابه أن يجعل العشرات ممن يتبعونه يؤمنون بذات الرأي، وغالباً ما يستخدم كلمات لا تحمل منطقاً كافياً أو تحليلاً دقيقاً لما يحدث بل مجموعة من الشعارات الرنانة التي تمس الجماهير وتجعلها متحمسة لفكرته.

 

استخدم هذا الأسلوب في تشكيل وعي الجماهير بشكل عميق من قبل السلطات السياسية، وإذا تحدثنا عن سوريا بشكل خاص، فلقد مورس هذا النوع من الخطابات لما يقارب الثلاثين عاماً أو أكثر، لم يكن أمام المشاهد السوري سوى قناتين تلفزيونيتين " الأولى والثانية" ميزتهما الأساسية بأنهما رسميتان تتبعان للسلطة بكل ما يتم بثه عليهما، إن استثنينا رجال الدين، والملتقيات والمنتديات الثقافية والتي لم تكن موجودة أساساً، فلم يكن أمام الفرد في سوريا من مصدر لثقافته ومعرفته بالعالم إلا عبر هاتين القناتين، كانت البرامج التي تعرض عليهما مدروسة بدقة، استحواذ سلس على عقل المشاهد عبر تلقيه بشكل مستمر لخطاب واحد بصور متعددة، إن كان من خلال الدراما أو الموسيقا والفنون التي تعرض أو الأخبار السياسية وموقف السوريين مما يحدث في العالم.

 

 بقي لعشرات السنين عدد كبير من الشعب يستمع لنفس الخطابات يومياً، جمهور تشكل وعيه دون معرفة منه، وبدأ بترديد شعارات لا تعنيه شيئاً ومصطلحات لا يفهمها لكنه يعرفها جيداً. أكثر ما يميز هذه البرامج أنها وضعت لهدف تشكيل رأي عام يدعم السلطة، ولكنها لا تحمل المحتوى العلمي والدقيق لما تناقشه هي فقط عبارات وحشو لمفردات لا معنى لها وتفتقر للحقيقة.

 

الصورة:

 

أصبحت الصورة تعادل في تأثيرها أي خطاب سياسي أو ثقافي، وخاصة بعد ظهور وسائل التواصل الاجتماعي الذي عزز من تكثيف الصورة كإحدى الوسائل للتأثير الفعال على عقل المتلقي، واستطاعت بحضورها أن تفرض سلطتها، وتعطي اليقين والمصداقية لبعض الأحداث.

 

غالباً ما ترافق الخطابات التي تلقى على مسامع الجماهير صوراً تزيد من ترسيخ الكلمات وأثرها، تستخدم الصورة سياسياً بطرائق عدة، كأن تنشر صور الزعيم السياسي في الشوارع والأماكن العامة وتصبح جزءاً يومياً من رؤية الفرد أينما توجه كتوكيد بصري محتوم، تستفز هذه الصور الكثير من الأفكار في عقل المشاهد، فهي تعزز مدنيّته  وقوته في ذات الوقت، حيث يبدو متحضراً في بدلته الرسمية وأنيقاً فيما تدل حركات يديه ونظراته على المجابهة والتهديد، تستخدم الصورة لتغيير الفهم وإزالة الشكوك حول شخص الزعيم أو توكيد حضوره، وتختلف دلالتها حسب الحالة السياسية وتوجهات الرأي العام.

 

اقرأ أيضاً:

 

كيف فقدنا قدرتَنا على التعبير؟

 

هناك أيضاً تلك الصور المرافقة للأخبار والريبورتاجات المصورة والتي تزيد من مصداقية وتأثير ما يقال، حتى أن الصورة أصبحت تستخدم كوسيلة إعلامية منفردة بعد أن أثبتت قوتها في الفاعلية، يمكن للصورة أن تكون مؤثرة حتى دون خطاب، عبر استخدام لغة جسدية معينة للزعيم تؤجج مشاعر الجماهير الحماسية، وتجعله مغرماً بشخص يمثل جزءاً غائباً في لاوعيه.

 

الحالة السورية كنموذج:

 

في الأيام الأخيرة شاهدنا جماهيراً في مناطق من البلاد تحتفل بالنصر، مجموعات من البشر يجمعهم هدف واحد هو الاحتفال، لا يمكننا محاكمة هؤلاء في تلك اللحظات، المحاكمة تكون برصد عملية تشكل الوعي لديهم والذي جعلهم يجتمعون في لحظة ما ويمارسون فرحهم على العلن، فيما يجلس آخرون في منازلهم محبطين ومدهوشين، كلّ تشكل وعيه بطريقة ما تتناسب مع بيئته وما تلقاه منذ صغره، قد يكون هناك بعض الأفراد الذين يفتقرون لوعي خاص بهم، هؤلاء يمكن التحكم بهم والالتفاف حولهم بسهولة فيما يبقى جزء آخر يستطيع تحليل الوقائع ويصبح جمهوراً مناقضاً.

 

 إحدى الوسائل الأساسية التي استخدمتها السلطة في بداية الحراك هو الإعلام المضاد، عمل مستمر لتحويل الحراك إلى مؤامرة من قبل العالم استطاعت به قلب الموازين إلى حد ما وكسب تأييد الكثيرين ممن يشعرون بأنهم مستهدفون بانتمائهم ومكانتهم، لكن ّالجمهور الذي وجد نفسه دون وعي منه مؤيداً لرأي دون آخر هو نفسه الذي قد ينقلب يوماً ما حينما يحركه وعيه وإدراكه لذلك تبقى الجماهير مصدر خوف، وهذا ما جعل السلطة تكثف من جهودها لإبقائه لا واعياً وتزيد وسائل السيطرة عليه.

 

لا يمكن المراهنة على جماهير تشكل وعيها بالإكراه وباستحواذ قسري مورس يومياً عليها، جماهير خرجت بلادها من تحت سلطة الاستعمار الخارجي لتجد نفسها مستعمَرة داخلياً عبر لاوعيها وروحها الجماعية وعواطفها، الاعتياد على حالة إن كانت في حياة الأفراد أمر يصعب التخلص منه بسهولة ولكن الجماهير تستطيع مجتمعة فعل ذلك وقلب الواقع في لحظة واحدة عندما تدرك بوعيها خطأ ما كانت تؤيده وتسير خلفه، يمكن للجماهير أن تصبح هي المتحكمة وصاحبة الرأي والقوة وأن تفرض سلطتها وتقرر مصيرها، بإدراكها الوسائل التي تشكل وعيها بشكل يومي وعدم الانجرار والتصديق بشكل كامل لما تسمعه أو تشاهده.

 

هناك منظومة مصنوعة بدقة وإحكام لتشكيل الرأي العام للجماهير والتأثير به بشكل متطرف، التشكيك وتحليل الوقائع هي الوسيلة لفهم الأحداث وسياسات السيطرة خاصة وأننا حين نصبح جزءاً من جمهور ننجر بعواطفنا وسلوكياتنا للتماثل معه دون وعي منا.

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard