info@suwar-magazine.org

الكتابة بأنفاس متقطّعة (بندقية أبي) تخترق ألبوم صور برمّته

الكتابة بأنفاس متقطّعة (بندقية أبي) تخترق ألبوم صور برمّته
Whatsapp
Facebook Share

 

تكاد تكون رواية "بندقية أبي" للسينمائي الكردي هنر سليم (منشورات مؤسّسة "باس" وترجمة سعيد محمود، 2015)، صوراً سريعة تلتقطتها وترتبها وترصفها كلمة كلمة حتى تبلغ ألبوماً، تمرّر عينيك عليها سريعاً فتغدو فيلماً، وتنظر إليها بتؤدة فتغدو ألبوماً لتدريب الذاكرة.

 

ثمة من يجري وهو يحكي، ويحكي ويحكي، يجد القارئ نفسه وسط الحكاية وكأنه جاء في منتصفها، ثم يجتاز الغلاف الأخير، ولا يزال ثمة من يحكي ويحكي ويحكي وكأنّك افتقدت كلاماً لاحقاً أيضاً.

 

ثمة كتابات تتمنّاها أن تصل بك إلى سدرة ما، لكنّها لا تفعل ذلك، بل تقذف بك على قارعة الطريق، تضيع وسط الحكاية، فما بالك وأنت جزء منها، بالنسبة لقارئ خبِر ما خبره الروائي تغدو القراءة تمريناً للذاكرة. بالنسبة لقارئ غريب/ حصيف تجدها كوة جيدة للاطّلاع على حيوات الآخرين التي لا تشبه سوى الأفلام المحبوكة بعناية.

 

الحكاية/ الفيلم

 

لا أعرف لِم يكتبون عن حياة المؤلّف على أغلفة كتاباتهم، أو يصدّرون بها هذه الكتابات، هذه البدعة أكاد أجزم أنّها صرف بدع الغرب الكثيرة، التي تسوّق الكتابة بالكاتب، حيث تفسِد السيرة الذاتية للمؤلّف متعة القراءة الجمالية العالية، تُشظّي خيالك وتداخِل ما بين الخيال والسيرة الذاتية، فكيف بها وهي سيرة ذاتية؟!

 

كم كنت أودّ قراءة هذه الرواية دون أن أعلم أنّها للسينمائي هنر سليم، كم كنت أودّ أن لا أبحث عن عينيه وسط مشاهداته الدقيقة، عن كاميراه، عن فريق عمله وهو يحاصر الممثلين عن بعد.

 

لكن فلنعترف أنّ هنر سليم قد نجح في نصب شراكه والإيقاع بنا، لنعيش سلسلة الحياة آنها، هذه الحياة التي تشبه سرديات الجدّات في مستقبل الأيام، يكاد القارئ يظنّها بعيدة لدرجة التأريخ لأيام خوالي بعيدة، فيما هي بين ظهرانينا، فالطاغية الذي تسبّب في آلام شعوب بأكملها لم يمت إلا قبل سنوات قليلة.

 

ومع أنّ سرد هنر سليم يقحمنا إلى قدسية المقاتلين أحياناً، إلا أنّه يدخل بهم إلى واقعية الواقع، فهم ليسوا فقط صلبي الإرادة، وإنما هم بشر يلينون، ويرتطمون بأحلامهم أحياناً، وهذه صورة أبيه (عامل الشيفرة الخاص بالجنرال بارزاني) التي تتوسّط الكتاب بين انتقالة وأخرى.

 

الطفل الراشد والسلحفاة الجريحة:

 

تتنقّل مشاهدات الكتاب بأعين طفل تتوسّع قزحيته مع عمره، ينقل إلينا ما يشفّ من مشاهد، يحملها حتى وإن كانت محشوة بالبارود، فمن ذا الذي يجرؤ على حمل عينيه المغروزتين في الحكاية؟

 

الحياة في العراق/ كردستان هي أشبه بالعيش وسط الضوضاء التي يخلّفها مسير الهاربين من جحيمها، كانت ولا تزال هذه البلاد عصيّة على الخروج من عنق الزجاجة هذه، أقلّه بالنسبة إلينا نحن الذين ننظر من خلف نهر دجلة إليها.

 

بهذه الجملة "حرب أو سلام، الحياة تستمر" يحاول الراوي أن يحرّك دولاب الحياة، لكنّ الأمر أصعب من مجرّد الاستمرار، فحين تستمرّ وهي تعتصر أصابعك بين رحاها تمشي بتثاقل وبطء، تمشي كأيّ سلحفاة جريحة.

 

في أحد المشاهد السردية، وحين تنتقل العائلة إلى مكان جديد، تخترق قطرات المطر السطح الطيني لتنزل وتعكّر محاولات النوم البائسة للعائلة، فتحاول الأم أن تضع تحت كلّ خيط مطر إناء، فيتداخل المطر مع عناصر الشرّ، حيث الشرّ هو كلّ من لا يحمل السلاح معك، وكلّ ما يقضّ عليك مضجعك، ابتداء من الظلم، وانتهاء بخيوط المطر.

 

وتقترن لفافة تبغ الوالد دوماً بكظم الغيظ والألم، حيث يشعِل الحكايات، حكاية، حكاية، ويتراءى خلف نهر دجلة من يحكي ويحكي ويحكي، وحين تسمع تظنّ الكلام مجتزءاً، فيما هو حكاية بلا تقديم ولا منتهى، عبارة عن غلاف بداية ونهاية، فيما هي أطول من ذلك بكثير، لكن ثمة نيران شبّت بها من لفافة التبغ.

 

حكاية الانكسار

 

تضجّ الرواية بالانكسارات وسط تاريخ العراق الحديث، وبخاصة في مرحلة تسلّم حزب البعث السلطة، وثورة الكرد بقيادة مصطفى البارزاني، والضجيج الذي لم يكن لينتهي في الجبال، وسط أخذ ورد في تبادل دور القوى الدولية التي تحكي سيرة المنكسرين في الشرق الأوسط.

 

وينقل الطفل "آزاد" كلّ التناقضات السياسية الدولية حيال أحداث المنطقة، لتغدو مرآة لما يجري الآن في سوريا، وذلك عبر مذياع أبيه، الذي ينقل كلّ التناقضات، لكنّ الأب لا يزال ملتصقا به، حيث المذياع هو المقابل الموضوعي لكلّ الانكسارات التي يعيشها، ولا يستطيع أحد أبناءه بصوته الثوري عبر إذاعة تمثّل صوته أن تجبره على الانكسار حتى النهاية.

 

فترى المذياع يقول: (سرت ضجّة بأنّ العراق وإيران على وشك توقيع اتفاقية ضدّنا، وبموافقة كيسنجر)، (يستمع والدي بدقة إلى صوت أمريكا التي كانت تدعونا بمناضلي الحريّة، بعد ذلك يأتي دور إذاعة موسكو التي كانت تدعونا بالمتمردين السوقيين ضدّ صدام حسين بطل الاشتراكية)، (على مذياع أبي، راديو موسكو يندّد بالانقلابيين (حزب البعث)، ويعتبر الجنرال برزاني محرّر الشعب، لكن إذاعة صوت أمريكا تقول: أنّ الكرد متمردون وقطّاع طرق!

 

وأخيراً ليس ثمة مشهد واحد لتتوقف عنده، وإنما ثمة مشاهد عديدة تدع القارئ يقف أمام المرآة، ويتأمل في جراح العالم التي لم تشطب وجهه بعد، وسأترك للقارئ هذا المشهد التي تختصر جزءاً من الحكاية:

 

(في منتصف الطريق، أشار إليّ أبي أن أتوقف. كان متعباً، وجلس كي يرتاح. لفّ سيجارة، وللمرة الأولى، لاحظت بأنّه تقدّم في السن. كنت متأثراً جداً بتضحياته هو وأمي، لقد تخلّى عن آخر حلي أمي الذهبية كي أستطيع متابعة دراستي. تابعنا سيرنا. قلت له وأنا أضحك: (أبي، لقد غيّر الموظف تاريخ ميلادي لأنّه يعرف أنّك عامل الشيفرة الخاص بالجنرال).. وقد نظر إلي وقد أضاءت وجهه ابتسامة صغيرة، ثم ابتلع لعابه، وبقي صامتا برهة طويلة.

 

وقال بنعومة (لم أعد أريد أن تصير قاضياً أو محامياً، فقط أريد أن يحصل آزاد ابن شرو سليم ملاي على شهادة جامعية).

 

توقف ونظر في عيني مباشرة، ثم أضاف: هل تعدني بذلك؟ قلت له: نعم أعدك.

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard