info@suwar-magazine.org

هؤلاء يشترون العقارات في سوريا

هؤلاء يشترون العقارات في سوريا
Whatsapp
Facebook Share

 

هؤلاء يشترون العقارات في سوريا

نحو 86 ألف عقد بيع قيمتها 4 ألاف مليار ليرة بستة أشهر في بلادٍ منكوبة

 

من يشتري العقارات في سوريا حاليّاً؟ هو سؤال لقراءة واقع سوق منتفخ، ويخفي الكثير من التناقضات الاقتصاديّة، ويحمل في طيّاته خفايا سياسيّة كجزء من الأثمان الباهظة للحرب السوريّة. وفكرة أنّ العقار يمرض لكنّه لا يموت، لم تعد كافية، لتبرير واقع العقارات، فهناك مستجدّات عدّة، نقلت هذا السوق إلى الواجهة، ودفعت به ليكون حاملاً قويّاً للمحافطة على قيمة مدّخرات الناس، ويحقّق ربحيّة كبيرة، وتعويماً قانونيّاً لمصادر الأموال المشبوهة. هذا السوق المتورّم، والذي بلغ عدد عقود البيع المسجلة فيه ما يقارب 86 ألفاً خلال أيار إلى تشرين الأول الماضيين وبقيمة 4 ألاف مليار ليرة، أي ربع الناتج المحلّي الإجمالي، تحوّل إلى قبلة لكلّ من يريد العمل بالظل، أو المتوجسين من المساءلة.

 

توصّلت (صُوَر) إلى أنّ ثلاث فئات من السوريّين تشتري العقارات في البلاد حاليّاً، وهم الفاسدون من المسؤولين الحكوميّين، والمغتربون بمختلف تصنيفاتهم، ومحدّثو النعمة الذين شكّلوا ثروات طائلة من استغلالهم لتداعيات الحرب في سوريا. إضافة إلى قوى خارجيّة لها استطالات متعدّدة أبرزها بعض الفصائل العسكريّة الإيرانيّة المشاركة في الحرب السورية 2011-2021.

 

أموال ضخمة

 

يثير حجم سوق العقارات المتنامي شهية التساؤلات: من أين تأتي كلّ هذه الأموال التي تضخّ في سوق مريض؟ إذ وصلت القيمة الرائجة لعقود البيع منذ أيار الماضي ولغاية 12 تشرين الأول المنصرم إلى 3728.8 مليار ليرة، حسب وزارة المال، فيما الوسطي اليومي للقيمة الرائجة في أخر أسبوع هي 50.5 مليار ليرة بمعدل نمو أسبوعي 7.3 بالمئة. وتوزّعت القيم الرائجة على المحافطات حيث أتت دمشق أولاً بنسبة 25.7%، تلاها ريف دمشق 23.4%، ومن ثمّ حلب 17.6%، واللاذقية 10.2%، وطرطوس 7.7%، وحماه 6.5%، وحمص 5.8%، ودرعا 2.3%. مع الأخذ بالحسبان أنّ فترة الصيف تعدّ الفترة المثلى لبيع وشراء العقارات في سوريا، وذلك لارتباطه بعودة المغتربين الذين عادة ما يقضون إجازتهم الصيفية القصيرة في البلاد، وتتهيّأ لهم ظروف مواتية لتملّك العقارات.

 

 

العقار لا يموت

 

يحدّد الخبير العقاري ماهر مرهج نشاط سوق العقارات بسببين اثنين، أولهما يعود لانخفاض قيمة العملة السوريّة مقابل الدولار، وتشديد العقوبات على التعامل بالدولار مما دفع الناس لحفظ مدّخراتها في العقار بدلاً من الدولار، وخصوصاً السوريّين المغتربين. موضّحاً أنّ جميع السوريّين لديهم ثقافة أنّ العقار يمرض ولكنّه لايموت، وهو في تضخّم مستمر ويحقّق أرباحاً مع الزمن. إضافة لسعر الفائدة المنخفض في البنوك وتشدّدها في إعطاء السيولة للمودعين، ممّا شكّل مخاوف لدى المودعين من وضع مدّخراتهم في البنو،ك وأودعوها في الملاذ الآمن وهو العقار.

 

ويرى المقاول مرهج في حديثه لـ (صُوَر) أنّ السبب الثاني لنشاط هذه السوق يعود لضعف فرص العمل، والتجارة والاستثمار في كلّ المشاريع بدءاً من الصغيرة والمتناهية في الصغر، وحتّى المتوسطة بسبب غلاء حوامل الطاقة، وغياب بيئة العمل والتجارة وضعف القوة الشرائية للمواطنين، ممّا يؤثر على حركة الأسواق، ويضعف فرص الاستثمار الصغير والمتوسط في العمل. ويشير مرهج إلى القوانين المالية والضرائب والبيروقراطية ومخلّفات الحرب من حواجز ورشاوي وصعوبة نقل والتي أدّت إلى هروب الناس من العمل الحرفي والتجاري، وكنز مدخراتهم ورأسمالهم في العقار وخصوصاً السكني، وذلك لسهولة الاستثمار فيه بالإيجار وغيره.

 

واجهة لغسل الأموال

 

سوق العقارات في سوريا هو أبرز سوق يعبّر عن حال اقتصاد البلاد، سوق بلا نواظم وبلا ضوابط، وتستحوذ عليه فئات مقتدرة ماليّاً، وينظّم نفسه بلا قوانين ويخفي كلّ النواقص التي يحتاجها الاقتصاد كالشفافيّة والحوكمة والأرقام والحجم والكتلة النقديّة المتداولة.

 

والتفسير الذي اعتمده وزير مالية النظام كنان ياغي في تموز الماضي بأنّ "سوق العقارات هو الوجهة الرئيسيّة لغسل الأموال"، مُرجعاً السبب إلى "غياب المراقبة أو المساءلة"، ووصفه خلال جلسة لمجلس الشعب حركة بيع العقارات بأنّها "ظاهرة غير صحيّة"، يكشف أيّ تفسير ياغي، جزءاً من جبل الجليد المغمور، ويلامس في مقاربته بعض ما يجري في هذه السوق ومخرجاتها. لكن مع بدء تطبيق قانون البيوع العقارية الصادر في آذار 2021، أظهرت وزارة المال بعض الأرقام والمؤشرات المثيرة للانتباه التي تفسّر ما يجري في هذه السوق. إذ بلغ عدد عقود البيع خلال الفترة من 3 أيار إلى 12 تشرين الأول الماضي 85518 عقداً بمعدّل نمو إسبوعي 10.7 بالمئة، فيما وصل الوسطي اليومي لعدد عقود البيع المنفّذة في أخر إسبوع 1658 عقداً.

 

ووفقاً لوزارة المال توزّعت عقود البيع إلى 25.1% بريف دمشق، 13% في اللاذقية، 12.5% في حمص، 12.2 في حلب، 11.1% في دمشق، 9.5% قي حماه، 7.7% بطرطوس، 4.9% في السويداء، و 3.3% في درعا.

 

ملاذ مخفي

 

تعدّ قضية رئيس الوزراء السوري السابق عماد خميس، بزعمه أنّه تعرّض لعملية احتيال أثناء شرائه منزلاً بقيمة 1.2 مليار ليرة بدمشق، اختزالاً سهلاً لشرح مفهوم ماذا يفعل المسؤولون السابقون بأموال الشعب المنهوبة؟ هم لا يريدون شركات أو مصالح في العلن لذلك تبقى العقارات هي المطرح الأكثر حضوراً لديهم، والملاذ الآمن لإخفاء ما يلزم إخفاؤه، ليس عن عين الرقابة والسلطة بل عن أعين الناس.

 

 أيقظت قضية خميس الأسئلة في الوجدان السوري ودفعت من جديد نحو إعادة المطالبات السابقة بضرورة وقف نزيف نهب المال العام. اعتاد مسؤولون سوريون كثر من منظومة الفساد على تجميد أموال النهب في العقارات، وكان لهذا الجانب الدور الأبرز في رفع أسعار العقارات دائماً، وحرمان المواطن من ذوي الدخول المتوسطة أو المحدودة من امتلاك المنزل. وتجاوز كبار المسؤولين حدود المعقول، إذ تحوّلوا من شراء العقارات في سوريا إلى شرائها في عواصم عربيّة وأجنبية. لكن بقي الرابط المشترك بين كلّ فاسدي سوريا هو رغبتهم في تجميد أموال الفساد بالعقارات، وليس تسييلها في مشاريع استثمارية، وذلك تهرّباً من أي مساءلة متوقّعة، إضافة إلى أنّ العقار السوري هو ملاذ آمن لا تنخفض قيمته السوقيّة على الإطلاق، ويستعيد عافيته حتى ولو طال مرضه.

 

البيع مقابل السفر

 

تسعى أسر سوريّة كثيرة إلى بيع ممتلكاتها، وأبرزها العقارية، بهدف تأمين مبالغ مالية طائلة لزوم سفر أبنائها من الشباب، للتخلص من واقعهم المزري. ويثير مرهج قضيّة "هروب الكثير من المواطنين والهجرة خارج الوطن"، نظراً "لصعوبة الظروف المعيشية وقلّة الدخل"، ما أتاح عروضاً للشقق السكنية والبيوت "بأسعار رخيصة"، وهي فرصة لمن يملك سيولة نقديّة كبيرة لشرائها، وعرضها لاحقاً بأسعار أغلى، وفقاً للخبير والمقاول مرهج.

 

يدفع الظرف الاقتصادي المعقّد الناس لبيع ممتلكاتها بأبخس الأثمان، ولكثرة العرض، يتحكّم أسياد السوق العقاريّة بالأسعار، وما يعلن لا يمتّ للواقع بصلة، فهناك حالات ابتزاز علنيّة، يقودها سماسرة العقارات، إذ لا يوجد في البلاد مستثمرون عقاريّون بالمعنى الحقيقي للكلمة. ويشتري السماسرة العقارات إلى الذين جمعوا ثروة خلال سنين الحرب بالطرق غير المشروعة، ويبحثون عن ملاذ آمن لأموالهم المتآتية من أعمال غير نظيفة. يضاف إليهم المغتربون الذين يشترون العقارات بسبب فارق أسعار الصرف بين الليرة السورية والعملات الأخرى، إذ تبدو فرصة هؤلاء أكثر قوّة في شراء عقارات من السابق، ومردّ ذلك انهيار قيمة الليرة السوريّة، ورخص تكلفة العقارات مقارنة بدخول السوريّين المقيمين بالخارج على اختلاف تصنيفاتهم.

 

 

مئات الملايين

 

الأسعار الخياليّة للعقارات في سوريا لا تتناسب مع وضع بلاد ترزح تحت وطأة حرب مستمرة منذ 10 سنوات، لكنّها تتواءم مع القاعدة العقاريّة السوريّة الدائمة "العقار يمرض لكنّه لا يموت"، فالدمار احتمال قائم بأيّة لحظة، وارتفاع المخاطر هنا مسألة أكثر من واردة، ومع ذلك ثمّة تلهّف واضح في عمليات البيع والشراء.

 

لم تعد عشرات الملايين ثمناً لشقّة سكنيّة مساحتها 100 متر مربع رقماً كبيراً، بل في رقم مئات الملايين وأزيد في المدن الرئيسية سعراً طبيعياً، أمام فقدان الليرة السورية قيمتها السوقية. لكنّ المعادلة المتناقضة هي في تغوّل الفقر إلى حدود مهولة مقابل بذخ وترف عقاريّين فوق التصُوَر. الحاجّة الماسة لشراء رغيف الخبز تتناقض مع عمليّات بيع لعقارات بالدولار وليس بالليرة. وللدلالة على حجم هذه السوق المهولة، لا بدّ من اعتماد تفسير وزير مال النظام الذي يقدّر قيمة العقارات التي تباع سنويّاً بنحو 8 ألاف مليار ليرة، وذلك بالاستناد إلى أرقام قانون البيوع العقاريّة، فيما القيمة الوسطيّة لثمن العقار في سوريا 116 مليون ليرة.

 

أثمان الحرب

 

إنّ بيع العقارات السوريّة لقوى خارجيّة هو ليس انفتاحاً اقتصاديّاً أو تشجيعاً على الاستثمار، هو بالدرجة الأولى قضية سياسية، فضلاً عن كونه مسألة سياديّة بامتياز. ولا تُعفى الدولة من مخاطر تقديم التسهيلات وفتح الأبواب ولو مواربةً لتغلغل قوى ما، تثير الشكوك في أهدافها المخفيّة من خلف رغبتها الجامحة في تملّك العقارات تحت غطاءات متعدّدة. وتُتّهم إيران والفصائل العسكريّة المنضوية تحت قيادتها في سوريا بأنّها سعت من خلال تملّكها للعقارات في مناطق معينة إلى إحداث تغيير ديمغرافي في البلاد، باتت معالمه واضحة ومآلاته معروفة في إطار مشروع إيران التوسعي وخلق كنتونات داخليّة مؤيدة لها ونشر سلوكيّات محدّدة.

 

هذا لا ينفي إطلاقاً أنّ التوزّع السكاني في سوريا بالأساس قائم على الإنتماءات الدينيّة والقبليّة والعائليّة، وهو مشكلة معقّدة ومركّبة في آن واحد، لم تُطرح لمعالجتها مشروعات تنويريّة فكريّة وثقافيّة وسياسيّة، بل تعامل معها النظام السوري وفقاً لمبدأ المصالح المتبادلة وتركها قنبلة موقوتة قابلة للانفجار عند اللزوم.

 

وإن كان من الصعوبة البالغة، إثبات شراء إيران أو أيّ نظام أو قوى خارجية أخرى للعقارات في سوريا وذلك لسبب بسيط جداً، هو أنّ ملكية العقارات المشتراة لا تُسجّل إلّا بأسماء سوريّين موالين لهذه القوى، وذلك للتهرّب من أيّ تذمّر أو شكوى شعبيّة بهذا الصدد. ولا تخفى ألاعيب كهذه على السوريّين، والنفي القاطع الذي نسمعه ليس بالضرورة أن يكون دقيقاً، هنا المسألة متشابكة ومعقدة لكنّها تأتي ضمن سياق أثمان الحرب الباهظة.

 

البلاد المريضة

 

سوق العقار نشط في سوريا المريضة، وهو ما يؤسّس لقواعد اللعبة العقاريّة في الفترة القادمة والتي لن ترحم الفئات المسحوقة المقدّرة نسبتها ب 90% من عدد السكان، فضلاً عن بقاء العقارات وجهة رئيسيّة لتبييض الأموال، إذ سيبقى (الهوامير) هم المستحوذين على سوق حجمه يعادل نصف الناتج المحلي للبلاد المنكوبة.

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard