info@suwar-magazine.org

"خليكي بالبيت" لا تبقي في البيت.. عن تطوّرات مفاهيم المجتمع للوجود النسوي

"خليكي بالبيت" لا تبقي في البيت.. عن تطوّرات مفاهيم المجتمع للوجود النسوي
Whatsapp
Facebook Share

 

 

سأبدأ من مفهوم الجندر وهو عبارة عن بنية اجتماعية من الأفكار التي تعرّف الأدوار، ونظم الاعتقاد، والمواقف، والصور، والقيم، والتوقّعات للرجل والمرأة.

 

وهي تسهم بشكل كبير بعلاقات القوّة، ليس فقط بين الرجل والمرأة، لكن بين المجموعات أيضاً، وهذا ينتج الكثير من المشاكل الاجتماعية، الثقافات المختلفة التي لديها أفكار مختلفة حول الجندر، وحول ما هو المناسب للرجل وللمرأة القيام به، وما يجب أن يكون عليه.

 

لا يختلف الجندر من ثقافة لثقافة فقط بل أيضاً يمكن أن يتغيّر مع الوقت أو من الممكن أن يتغيّر في ثقافة ما خلال وضع أزمة. ممّا يجعلني أخوض مفارقة ضمن سؤال، ما هو الفرق بين الجندر والجنس؟

 

الجنس يشير إلى الاختلافات البيولوجيّة الطبيعيّة بين الرجل والمرأة، والكثير من هذه الاختلافات واضحة وثابتة، حتّى في وجود بعض الاختلافات البيولوجيّة عبر الطيف. بينما الجندر هو مبني على أساس المثل الثقافيّة والنظم الاعتقاديّة والصور والتوقّعات حول الرجولة والأنوثة في مجتمع معيّن.

 

ومن هنا سأدخل بموضوع كيف أصبح بقاؤنا في البيت شرطاً ضامناً لبقائنا على قيد الحياة، إنّه نوع من الصراع السلبي الذي لا يتطلّب أن نخوض معركة في عالمنا الخارجي، فلم نعد مثل جدّنا البدائي الذي يصارع في البريّة ويبتكر صناعة الحجر والسهم، تساعده عضلات وعظام قويّة، ثمّ يعود غانماً إلى كهفه بل كلّ ما في الأمر هو التزامنا بالسكون داخل بيوتنا الصغيرة.

 

وهذا الأمر يعود بنا إلى مدن أوروبا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر حيث كانت أبخرة المصانع تعلو ومئات الشركات وبيوت المال التي تحوي الآلاف من الرجال الرأسماليّين، بينما كان العمّال يشغلون الشوارع والمعامل والمكاتب ومحطات النقل وساحات المحاكم في دأب وكدّ، تدفعهم مبادئ الحريّة والعمل والتقدّم، ولأغراض تنظيم هذا المجتمع الحديث اقتصاديّاً واجتماعيّاً تمَّ تقسيم العمل والتخصيص، حيث تمّ اعتماد مبدأ الفضاءات المنفصلة حسب النوع الاجتماعي أي الجندريّة بمفهومها الذي شرحناه بداية، فالنساء للبيت والرجال للعمل خارجه، حيث ذكاء المخاطرة والقسوة والضجيج وعوادم الدخّان وساعات عمل طويلة كادحة ممّا لا تتحمّله النساء باعتبارهنّ أجساد هشّة وقليلات خبرة.

 

في تلك الظروف أصبح البيت بمثابة مكافأة وجنّة أنثويّة على الأرض تضع شروطها ونموذجها المثالي في الطبقة العليا، ومن بعدها الطبقة الوسطى في توسّعها، وفي مرحلة ما بعد أن تراكمت الثروات وأصبح التاجر والصناعي متحرراً من فكرة الزهد لأجل الادّخار متحوّلاً إلى متعة الإنفاق، أصبحت أناقة البيت وزينته ومساحته ومستوى ثقافة وتعليم الزوجة وعدد خدمه، وقدرة الزوجة في السيطرة على هؤلاء الخدم قيد المكانة الاجتماعية والتصوّرات التي تفرضها الطبقة المهيمنة المنتمي لها السيد ربّ البيت، وكلّ ذلك قبل أن تتمدّد الديمقراطيّة والثورات والنزعات الفرديّة والحركات الاجتماعية مثل "النسويّة" لتحرّر المزيد من المجتمع، وتفتّت تلك السلطة الهرميّة.

 

اقرأ أيضاً:

 

تجلّيات المرأة في الأغنية العربية

 

وعندما نتجه نحو عالمنا العربي وحتّى النصف الأول من القرن العشرين، نرى بأنّه لم تتنازل النُخب الحديثة رغم ليبراليتها عن البيت الآمن والجنّة الأنثويّة، وكثيراً ما توجّه الخطاب العام حتّى من تلك النسويّات إلى النساء بوصفهن ملكات لبيوتهن، يتوقّف عليهنّ توفير سبل الراحة وهدوء الحياة ونجاح الرجل والأولاد ومن ثمّ رفاهية وصلاح الأمة، كما من صميم مسؤوليتهنّ حتّى لو كنّ من العاملات، أن يعتنين جيّداً بأنفسهنّ وبأطفالهنّ، كي يُسعدن رجالهن الكادحين ويعوّضنهم عن العمل الشاق، حدّ أن خصصت وسائط الثقافة الجماهيرية مساحات واسعة للمساهمة في تحسين هذا الدور الاجتماعي الملزمات به لإنقاذ مفهوم البيت الآمن.

 

إلى هذا الحد سوف نتساءل عن مدى جدّية الحدود الفاصلة بين الخاص والعام، وعن مدى براءة هذا الدفاع عن البيت باعتباره العمود السليم ووجهة اللجوء الآمنة حين يشتدّ بنا الخطر من نزعة الاستبداد والتسلّط والقهر التي يصنعها المجتمع بتناقضات نُظمهِ الاجتماعية والاقتصاديّة إلى من هو أدنى وأضعف، حيث يصبح البيت هو المختبر الصغير لما يحدث في عالمه المحيط ويتشكّل بمحدّداته وتحوّلاته وعندَ المواجهة يكشِف عن حمولاته الهشّة المتراكمة فيتحوّل طابعه الأنثوي من جنّة إلى وصمة وعلامة تخلّف فلا يعود دالّاً على الراحة قدرَ دلالته على الخضوع مع العجز والهشاشة.

 

لذلك لن نستغرب كيف أنّ البيت شكّل مركز صراع بين القوى الرجعية في الثمانينيات من جهة، والنسويّات وجماعة التقدميّين من جهة أخرى، حيث يرفع الرجعيّون على نحو أيدولوجي عدائي شعار "عودوا إلى البيت" في محاولة لإقصاء النساء من المجال العام، وإعادة إنتاج سلاسل التبعيّة الذكوريّة كي ترد النسويّات على ذلك التخلّف مثل "أمينة شفيق" بكتاب "المرأة لن تعود إلى البيت".

 

ولن نندهش أيضاً كيف أصبحت مقولة "من الأفضل أن تعودي إلى البيت" جزء من الثقافة العامّة التي تواجهها النساء حين يخفقن في تأدية عملهن المكلّفات به، فتتقلّص مساحة وجودهن الأنثوي إلى المطبخ، والأسوء من ذلك حين تتحوّل البيوت إلى سجن حارس للشرف فقط.

 

 لذلك سنُسقِط ما تكلّمنا به عن الأزمنة السابقة على واقعنا الحالي وسنتكلّم عن المرأة السوريّة بالأخص من حيث دورها البارز في تنشيط حقوقها وحقوق نساء أخريات وإبراز دورها الفعّال في المجتمع الذي تنخرط فيه وكيف أنّها تكافح في العمل، ولا تقلّ عن مكانة الرجل من حيث التحمّل لضغوط ساعات العمل وضغوط بيئة العمل ومشقّة الحصول على ترقية في مكان عملها، ومن حيث قدرتها على تحمّل معاناة الوصول إلى مكان عملها من خلالها تأمين وقود سيارتها أو من خلال انتظارها لوصول الحافلة. هي لا تختلف عن الرجل وليست ملزمة بأن تبقى في البيت على مقولة الكثيرين فهي ناشطة حقوقيّة وهي باحثة وهي مدرّسة لأجيال كُثر، وهي مربية فاضلة وهي عاملة نشيطة مرهقة بنهاية يومها، وهي أمّ مستقلة في منزلها تنجز مهام تنظيف منزلها والطبخ دون أيّ نقصان وهي امرأة محاضرة ضمن جمعيّات خيريّة وجمعيّات إنسانيّة، وهي مراسلة أخبار خلف الشاشات تنقل الصورة والخبر في الحرب السوريّة، وهي مديرة في قطاع عملها وهي تمارس موهبتها وتفتتح ناديها الخاص ومركز تدريبها لليوغا وهي تفتتح متجرها الخاص، وتغلق جرار محلها بيديها دون حاجتها لرجل يمارس سلطته الذكورية عليها.

 

إنّ المرأة السوريّة موجودة في شتّى المجالات وقوّتها الفكرية تعادل قوّة الرجل البدنية التي لطالما كانت الحجّة الأضخم في أن تبقى المرأة في البيت، ويظهر هو للعالم الخارجي على أنّه المعيل الوحيد لعائلته والبطل الحقيقي لاستمرار الحياة.

 

مقولة "خليكي بالبيت" لا يحقّ لأحد فرضها على المرأة حين تكون قادرة على مواجهة العالم بفكرها، وأناقة حضورها ولا يحقّ لأيّة أيديولوجيّة بأن تحدّد معايير نشاط المرأة، وسقف طموحها أو تواجدها ضمن المجتمع.

هذا القرار بين أيدي كلّ امرأة تطمح بأن تحقّق ما هي عليه أو ما هي تطمح بالوصول إليه.

 

وعلى ذلك نذكّر بأنّ الجندريّة كمفهوم هي تقوم على فهم سلوك البشر لذواتهم وليس لذوات غيرهم، لذلك لا يحقّ لأيّ رجل بأن يفرض الهويّة الجندريّة المناسبة له على أيّ امرأة يتواجه معها في الحياة سواء كانت والدته أو أخته أو زوجته أو حتّى صديقته.

 

فلكلٍّ مساحته الخاصة في التعبير عن ذاته، وكيف يطلق ذاته ضمن مجتمعه وفقاً لما يمتلكه من مهارات في التواصل الاجتماعي، وفي العمل وضمن المجتمع بالعموم.

 

ومن خلال هذا السرد عن بيوتنا الآمنة، وكيف تطوّرت مفاهيم المجتمع للوجود النسوي في الحياة بشكل عام نصل إلى أنّ جميع المفاهيم التي نتكلّم بها لا يمكنها أن تحقّق جوهرها الحقيقي إن لم يتمّ التعامل معها بشفافيّة الطرح وشفافيّة التنفيذ، لأنّه يمكن لأيّ شخص موجود ضمن مجتمعه بأن ينادي بالجندريّة والنسويّة والمساواة الحقيقيّة بين الرجل والمرأة، ويعود بعد إلقاء محاضرته إلى منزله لممارسة وظيفة ربّ المنزل الرجعي حيث لا يوجد عليه هنا أيّ رقيب أو محاسب.

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
آخر المقالات
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard