تجلّيات المرأة في الأغنية العربية
تعتبر الموسيقى إحدى الأدوات الثقافيّة في المجتمعات والتي تعبر عن الفترة الزمنيّة التي تنتج فيها، ومجموع القيم والأفكار التي يفرزها مجتمع معيّن. عندما نتحدّث عن الفن عموماً، وعن الموسيقى خصوصاً كواحدة من أهم المؤثرات اللغويّة والخطابية على البشر، لا يمكننا الفصل بينها وبين السياق السياسي والمجتمعي الذي ينتجها أو الذي تُنتج في ظله، فهي عبارة عن امتزاج لنصوص مكتوبة وملحّنة وفق رؤية معينة شكلتها مجموعة من القيم الموسيقية والفكرية التي تتداولها الأجيال في هذا المجتمع، وإذا اعتبرنا أن بداية الأغاني كانت عبارة عن انتقال لقصص شفهيّة انتقلت من جيل لآخر، فكيف يمكننا رصد صورة المرأة في هذه القصص والحكايات، وما التغيير الذي حصل في بنية الموسيقى وأفكارها، وكيف تناولت الأغنية العربية المرأة، وما الأفكار التي أثمرتها الأغنية النسائية؟
صورة المرأة في الأغاني العربية:
إذا ما تحدثنا عن الأغنية في القرن العشرين، ومدى تأثيرها في تكوين الصورة المجتمعيّة والثقافيّة للمرأة، نجد أنفسنا أمام نماذج متعددة، فهناك اختلاف بين صورة المرأة في أغنية يؤديها رجل وصورتها في أغنية تؤديها امرأة، في المبدأ لا يمكننا الفصل بين الأغنيتين فهما تعبران عن مرحلة واحدة، ضمن سياق ثقافي واحد وأُطر اجتماعية ثابتة فالمرأة المنتظِرة الوفية التي تحب الرجل والوطن بنفس الشغف والقوة، وتحمي هذا الحب كجزء من كيانها ووجودها هي ما أفرزته الأغنية في القرن العشرين، حيث تبدو المرأة في أغاني الرجال امرأة مكتملة المواصفات الجمالية، غالباً ما تتم مقاربتها بجماليات الطبيعة، وهي الأنثى الحريصة على حبها الخجولة والمعطاءة كاملة الأوصاف والمحاسن، المغناج والكثيرة التدلل، التي تخطف قلب الرجل وتجعله هائماً بحبها، وما حدث أنّ النساء تماهين مع هذه الصورة وظللن في سعي متواصل للوصول لهذه الصورة المثالية بالنسبة للرجال.
أمّا المرأة في الأغنية النسائية فقليلاً ما كانت تختلف عن تلك التي في أغاني الرجال، كان هناك تجارب فنية لنساء في العقود الفائتة أثّرت عميقاً في الموسيقى العربية، وبقيت حاضرة بقوة حتى وقتنا هذا، وبين وصول المرأة للجماهيريّة والنجاح الفني والتعامل معها كرمز، وأهمية ذلك على صعيد إثبات النساء لقدراتهنَّ ومكانتهنَّ وإحراز تقدم على طريق حريتهنّ، وبين الأغاني التي غنّتها هذه النساء، والأفكار والقيم المطروحة فيما يخص المرأة يكمن التناقض، إذا ما تناولنا أغاني أهمّ النساء الموسيقيات في القرن العشرين، وقاربنا صورة المرأة في أغنياتهنّ، سنجد تناقضاً في أحيان كثيرة حيث تصوَّر المرأة وفيّة مستكينة لحب الرجل، وسعيدة ومكتملة به رقيقة ولا يمكنها العيش دونه، وقويّة بوجوده وحبه لها في وقت واحد، وهي ذاتها المرأة التي تمجّد الوطن وتقف إلى جانب الرجل في حبّه لوطنه والمحاربة من أجله، والتي تمتلئ بحبه حتّى وإن غادرها، وتبقى وفيّة له، رغم الخيانة محتفظة بذكرياته، وهذا يبدو في الأغاني التي غنتها السيدة فيروز (بكرة أنت وجاي رح زين الريح خلي الشمس مراية والكنار يصيح)، والمرأة في بعض أغانيها مصيرها مرتبط بالرجل، لا تعرف نفسها إن كانت مقيدة أو حرة بحبها له (حبسي أنت حبسي وحريتي أنت) حياتها محكومة بانتظار لحظات السعادة برفقته وحبه (نطرتك ع بابي وع كل البواب، كتبتلك عذابي ع شمس الغياب)، فيما تُظهر أغنيات أخرى المرأة قويّة مكتفية بذاتها لها أهميّتها في الصعاب التي يمرّ بها الوطن ولا ينفي ذلك رقّتها وأنوثتها، وهي قادرة وحدها أن تثبت أهميّة وجودها، لتبدو أكثر قوّة ومطالِبة بحقها بالحب والعيش ضمن الحلم الذي رسمته لنفسها ولحبها، حزينةً في آن وسعيدةً في آن أخرى ملاحقةً لقلبها وحبها، وقاسيةً غير غفورة في حال الخيانة والبعد وتعبِّر أغنية السيدة فيروز (تمرق علي امرق ما بتمرق لا تمرق مش فارقة معاي) عن ذلك، فيما يبدو هذا التوجه بشكل أوضح في أغاني السيدة أم كلثوم (واتغيرت شوية واتغيرت.. ومش بإيديا، وبقيت أطوي حنيني إليك وأكره ضعفي وصبري عليك) أو أغنيتها حب إيه (انت ما بينك وبين الحب دنيا، أما نفس الحب عندي حاجة تانية) والتي تعبر عن الفروق العاطفية بين المرأة والرجل، والحب في مفهوم كل منهما.
كانت هذه الأغاني ذات تأثير كبير في تشكيل وعي النساء ونظرتهنَّ الذاتية، ولا زالت تواظب الأجيال على سماع هذه الأغنيات وتتمثّل بها عاطفيّاً وإنسانيّاً، تختلف الطريقة التي غنّت بها النساء فبعضهنَّ تحكي قصصاً في أغنياتها تصور حياة النساء ويومياتهنَّ وأحلامهنَّ، فيما أخريات يغنين القصيدة التي تصف حالة عاطفيّة معينة، وهناك سمة أساسيّة تميز أغنياتهنَّ بأنّها إسقاط للتوجّه الثقافي والسياسي للسلطة السياسية، حيث أنّ أكثرهنَّ يُعتبرن منتميات سياسيّاً للسلطة التي ظهرن في فترة حكمها، كانت الأغنية الوطنيّة شيئاً أساسيّاً ضمن فنهنَّ وحيث لا يمكننا الفصل بين السياسة والثقافة ضمن مجتمع، فغالباً ما كانت تصوَّر المرأة وفق الرؤية والاتجاه المجتمعي الذي تفرضه السياسة حينها، وبما أنّها من الأغاني العاطفيّة بشكل كبير، فيمكننا اعتبار أنّها أثّرت في النساء العربيات وفي حالة النضج لديهنَّ وكيفية تعاطيهنَّ مع الرجل ضمن العلاقة العاطفيّة، والحالات المختلفة التي مررن بها، بالإضافة لتكريس صورة محدّدة للمرأة وانفعالاتها العاطفية.
الموسيقى والوعي بالذات:
للأغنية وظائف اجتماعيّة متعددة فمنها الأغاني المختصّة بالطقوس الدينية وأغاني المناسبات والأعياد، وأغاني الاستماع الخاص، وهي التي يعتبر حضورها يوميّاً في حياة الأفراد، يرتبط النوع الأخير بشكل أساسي بالعاطفة وتبدلاتها داخل الفرد، وبحسب ذلك يتمّ التوجه للاستماع لنوع معين من الموسيقى، تعتبر فترة المراهقة لدى الفتيات من أكثر المراحل حساسية حيث يتشكل وعيهنَّ بأنفسهنَّ وصفاتهنَّ النفسيّة والجسديّة، وتكون المشاعر في هذه المرحلة عاطفيةً شديدة القوة والتأثير عليهن، ويزداد تواتر الاستماع للأغنيات، ويؤثر ذلك على هويتهنَّ ورؤيتهنَّ لذواتهن، تتميز الأغنية العربية والتي عاصرتها الأجيال السابقة بطغيان الصورة الكلاسيكية للمرأة كتابعة للرجل والتي تتبدل حالتها وسعادتها وفقاً لحبه لها أو رفضه، امرأة تربط وجودها وسعادتها بقبول الرجل وحبه لها، وهذا يشكّل هويّة معظم النساء العاطفيّة في المجتمعات العربيّة، ويكرّس الصورة النمطية للنساء كمتأثرات وتابعات للرجل ومشاعره وأفكاره، ونأخذ مثالاً على ذلك أغنية "أصالة" (رفقاً بمن عنهن قيل استوصوا خيراً بالنساء) والتي سببت جدلاً كبيراً حين صدورها أو أغنية نانسي عجرم (ياطبطب ودلع يا يقلي أنا اتغيرت عليه)، وبالرغم من ظهور الأغاني الحديثة والتي كسرت الصورة النمطية للأغنية النسائية العربية، حيث ظهرت مغنيات كثيرات يخرجن عن التقليد القديم للأغنية النسائية إلّا أنّ هذا التغيير كان شكليّاً أكثر من كونه جوهريّاً، أصبحت الأغاني أكثر انفتاحاً وذلك فقط من خلال الفيديو كليب والذي تظهر فيه المغنيات بلباس مختلف عن المغنيات قديماً في حالة تمرّد على الجسد وضوابطه، لتذهب الأغنية باتجاه الاستعراض الجسدي وتكريس جسد المرأة كموضوعة جنسيّة عاطفية لجذب الرجل وإثارة اهتمامه فيما بقي الكلام الذي يغنّى ضمن نفس التوجه العاطفي مع تغييرات طالت الكلام المغنى وقيمته أو الخطاب الذي تتضمنه الأغنية، وغالباً ما يكون القائمون على إنتاج وإخراج هذه الأغاني هم رجال يكرّسون صورة تناسب الذوق الذكوري العام والثقافة السائدة لصورة المرأة بالنسبة للرجل وضرورة تحرّكها وفقاً لرغباته وما يشتهي.
الأغنية النسوية:
ظهر في السنوات الأخيرة نوع جديد من الأغنية، وهو نوع يعتمد على طرح أفكار مجتمعية ونسويّة ضمن قالب موسيقي، ينتمي لهذا النوع عدد من الأسماء الفنيّة والتي أصبحت معروفة للمتلقّي مؤخّراً، منهن مريم صالح ودينا الوديدي ورانيا العدوي وغيرهن، ويمكننا اعتبار أغنية "العرس" التي أدتها ولحنتها كل من دينا الوديدي ومريم صالح الأغنية الأشهر والأكثر تأثيراً وانتشاراً، فهي تتحدث عن الزواج القسري وتأثيره على المرأة (قيدتني بالقيد ليلة عرسي قصفتني ودريتني، وأخضر النوار على عودي)، وتأتي أغنية رانيا العدوي "جسد للفرح" في سياق مكمل حيث تطرح إشكالية جسد المرأة في المجتمع وارتباط الشرف به وتكريسه كموضوعة جنسية (أنا مش جسد للفرح أنا مش قضية غزل أو عار وجسم وشرف)، مغنيات يتحدّثنّ عن الحرية والخروج من عباءة التقاليد المجتمعية الخاصّة بالمرأة ومحاربة حالة الخوف والتعامل مع الجسد بحريّة وانفتاح وإبقاء تبعيّته للنساء أنفسهنّ، يتميز هذا النوع من الأغاني باعتماده على الكلمة أو الرسالة المراد إيصالها بالإضافة للحن، فيما لا توضع المقدرات الصوتيّة للمغنيّة كأولوية في معظم الحالات، وهذا ما يجعل منه غير معروف كباقي أنواع الأغنية، وغير مستساغ بالنسبة للكثيرين وخاصّة الذين يتناولون الأغاني والموسيقى كشكل فني يشترط وجود مقدرات صوتيّة مميزة وأداء متكامل، ويعتبرون هذا الفن أساسيّاً للتعبير عن الحالة العاطفية ويعتمدون الأغنية الطربيّة للتعبير عن ذواتهم ووجودهم، وبمقارنة بسيطة بين الأغنية النسوية وبين الأغاني التي تصنّف استعراضية نجد أنّ الأخيرة أكثر انتشاراً وتداولاً، وهذا يدلّ على طبيعة المجتمع وأفكاره وميوله، فما زالت الكفّة راجحة لصالح الرجل في تنميط المرأة ووضعها في قوالب مجتمعيّة، وحتّى فنية تناسب رغباته.
هنا تظهر أيضاً التسلسلات الهرميّة الثقافية، فلكلّ نوع من الموسيقي مريدوه ومحبوه، وتَعتبر الغالبيّة أن الذوق الموسيقي دلالة على ثقافة المرء ومكانته الاجتماعيّة، هناك أنواع موسيقيّة طاغية، وهي التي تُغَنَّى للجميع، ويمكن لأيّ فرد الاستمتاع بها وإحساسه بأنّها تمثله، وهناك أنواع أقلّ تداولاً كالأغنية النسويّة وهي التي تبدو وكأنّها تُكتب وتُغنّى لفئة بعينها وتستهدف جمهوراً محدّداً من المستمعين يمتلك ذات الميول والرؤية التي يمتلكها صانعو الأغنية، والسؤال هنا هل جميع الأغاني تُكتب بهدف نشر أفكار معيّنة، أو لتكريس خطاب مدروس مسبقاً، أم أنّ الموضوع هو فقط صناعة موسيقيّة تناسب الأذواق الجماهيريّة والاتجاه الثقافي الموجود؟
كيفية صناعة الموسيقى:
غالباً ما تتحكّم شركات الإنتاج بصناعة الموسيقى وقدرة المغنّي على الوصول للجماهير، وهنا يتوجّب على الموسيقي أو المغنّي اختيار النوع الذي يُقارب رغبات المجتمع وذوقه، ويجعله نجماً له حضوره على الساحة الفنيّة، يمكننا أخذ الأغنية السوريّة الدارجة "الشعبيّة" كمثال وهي الأكثر إنتاجاً وانتشاراً حاليّاً، فهذا النوع لا يمثّل غالبيّة المجتمع ولا تُؤخذ حالة النساء وضرورة تحريرهنَّ من القوالب النمطيّة بعين الاعتبار بل تشوّه صورتهنَّ وتظهرهنَّ كموضوعة جنسيّة بحتة، أو كأداة للمتعة والتغنّي بالبطولات الرجوليّة، هي أغنية لا تحمل من المعاني والأهداف ما يجعلها قابلة لأن تصنّف موسيقى، أغنية تخدم الاتجاه الثقافي الذي تفرضه السياسة في سوريا، وتجرّد المجتمع من تجربة موسيقيّة استثنائيّة تنتمي له وينتمي لها، وهم ذاتهم هؤلاء يتغنّون ببطولات الوطن، وأمجاده وتصدّرهم الشاشة السوريّة الرسميّة كفنانين لهم حضورهم وأهميّتهم، لا يمكننا إغفال بعض المحاولات الفرديّة التي يقوم بها مغنون شباب أو مغنيّات، ولكنّهم غالباً ما يعيدون إنتاج أغان تراثيّة بأشكال جديدة بعيداً عن الابتكار.
الأغاني أداة ثقافيّة قوية جداً يمكنها أن تكون مؤثرة وعاملاً لإلهام وتغيير حياة الكثيرين، ولا يمكننا الفصل بين المجتمع والثقافة والفن، فالتأثير هنا متبادل والموسيقى أحد المؤشرات التي تكشف عن بنية مجتمع معيّن وطريقة تفكيره وقيمه، من المهم أن يرافق الموسيقى الموضوعة لأيّة أغنية كلام ذو قيمة ثقافية ومجتمعية، يحمل مفاهيم ورؤى متجددة عن أيّ موضوعة يتحدث عنها، فهو عامل أساسي من عوامل نضج الأفراد بالمجتمع وتشكيل هويتهم وصورتهم عن أنفسهم.