info@suwar-magazine.org

هكذا يهمَّش العلم ويتدهور التعليم في سوريا

هكذا يهمَّش العلم ويتدهور التعليم في سوريا
Whatsapp
Facebook Share

 

1-مقدمة:

 

الميدان التعليمي في سوريا بقطاعيه المدرسي والجامعي يعاني اليوم، كبقية ميادين المجتمع السوري، من الآثار الكارثية للصراع العنيف الذي دام في سورية قرابة عقد من الزمن، ولم ينته بشكل كامل حتّى اليوم بعد.

 

وهذه المادّة التحليلية تتناول أحد جوانب المشكلة التعليمية في سوريا، فمستوى التعليم الذي لم يكن في حالة مرضية قبل انطلاقة الانتفاضة السورية، وكان بدوره يعاني من مفاعيل الفساد المستشرية في الدولة والمجتمع، تراجع اليوم بشكل حاد حتى قياساً بما كان عليه وضعه قبل عام 2011.

 

تتعدّد أسباب تدني مستوى التعليم في سوريا قبل وبعد عام 2011، وأحد هذه الأسباب كان ثانوية دور العالم وهامشية قيمته المرتبطة بذلك، وهذا ما كان بدوره ناجماً عن الفساد المرتبط بالاستبداد، وكلاهما كان متفشيا في سوريا ما قبل 2011، وهذه المشكلة تفاقمت وتضاعفت حدتها كما أسلفت الإشارة في سنوات الصراع المدمرة في سوريا.

 

وهذا هو الموضوع الذي تتناوله هذه المادة، التي تسعى لبيان انعكاس تدنّي أهمية العلم في المجتمع السوري على تردي سوية التعليم فيه.

 

2- العلم والمجتمع بين حاجات التقدم وحاجات التخلف:

 

 في كل مجتمع من المجتمعات هناك دوماً علاقة ارتباط وثيقة بين الوضع الاجتماعي العام لهذا المجتمع وحاجات هذا المجتمع ومكانة العلم وسوية التعليم فيه.

 

فمثلاً لو أخذنا مجتمعاً رعوياً سيكون من بديهيات الأمور القول أنّ هذا المجتمع لن يكون فيه أيّة أهمية للمعارف والوسائل الزراعية، بخلاف ما هو الحال في مجتمع فلّاحي، فحاجات المجتمع الرعوي ترتبط بشكل جوهري بطبيعته وأسلوب حياته، وبذلك سيكون فيه العلم الزراعي والتعليم الزراعي بلا جدوى.

هذا الأمر يحدث دوماً في كلّ المجتمعات، ووفق نفس الآلية فمجتمع زراعي تقليدي لن يكون فيه هو الآخر قيمة للفيزياء الذرية مثلاً، وسيصبح تعليمها بدوره عبثاً أو ترفاً أو إضاعة للوقت والجهد.

 

 ذاك يعني أنّ هناك دوماً ارتباط جذري بين العلم والتعليم من ناحية وحاجات المجتمع من ناحية ثانية، فحالة التقدّم الاجتماعي تكون مرتبطة بحاجات متقدّمة تتناسب مع حالة التقدّم المبلوغة من ناحية، كما وتكون مرتبطة أيضاً بضرورات الاستمرار في التقدم، الذي عندما يكون تقدما سليما فهو نفسه يصبح عاملاً لاستمرار نفسه، وبالطبع العكس بالعكس في حالة التدهور.

 

وهكذا فعندما يتدهور وضع مجتمع ما، فعندها يصبح هذا المجتمع محكوماً بنمط من الحاجات يتوافق مع حالة التدهور التي أصبح المجتمع واقعاً فيها، وهذا ما يمكنه بدوره أن يكرّس وينمّي حالة التدهور هذه.

 

ولإيضاح الفكرة أكثر، لا بأس من إيراد بعض الأمثلة، العربية والسورية، من فترة ما قبل الربيع العربي، ومن الواقع الراهن.

 

في إحدى الدعايات التلفزيونية العربية قبل قرابة عقد ونصف من الزمن يظهر مع زوجته وابنه، رجل عاطل عن العمل ومفلس وعاجز عن تأمين أبسط ضرورات الحياة لعائلته، وتقول  له زوجته بتذمر أن يجد أيّ عمل، أيّا كان بدلاً من أن يجلس بشكل يجعله عديم الفائدة، فيحتجّ الرجل بدوره ويقول كيف يمكنه أن يعمل أيّ عمل، وهو يحمل شهادة ماجستير في الفلسفة بجدارة، وهنا يقول المعلّق بلهجة تقريرية وعظية "كفانا شهادات معلّقة على الحيطان، وخلفينا نشوف بلدنا محتاجة إيه"!، ثمّ تذهب بنا الدعاية لتدعونا إلى الالتحاق بمعهد مهني يعلّم الملتحقين به كيفية صيانة الأجهزة الكهربائية المنزلية، وكأنّ هذا هو المطلوب، وهذا ما تحتاجه البلاد!

 

بكل تأكيد، هناك حاجة ضرورية في كلّ مجتمع معاصر لمن يصلح فيه الأدوات الكهربائية وغير الكهربائية، ولكن هل يلغي هذا الحاجة إلى الفلسفة؟ وهل يصبح حملة الشهادات الفلسفية في المجتمع والكليات التي تخرّجهم مذنبين لأنّهم يعملون في وعلى ما لا يحتاجه المجتمع؟ ومن هو المذنب الحقيقي بالضبط في هذه المشكلة، المختصون في الفلسفة وكليات الفلسفة التي لا يحتاجها المجتمع، أم المجتمع نفسه الذي لا يحتاج الفلسفة، لأنّه مبني بشكل غير سوي وغير سليم؟ وإضافة إلى ذلك، هذه الشهادات المعلّقة على الجدران، هل هي محصورة في الفلسفة في مثل هذا المجتمع، أم هناك الكثير مثلها من شهادات العلوم الإنسانية والأساسية والتكنولوجية والطبية وسواها؟

 

المثال الثاني، هو من إحدى البرامج التلفزيونية السورية، الذي يعود إلى نفس الفترة الزمنية تقريباً، وكان الحديث فيه يدور حول ربط الجامعة بالمجتمع، وردّاً على الإسفافات في طروحات بعض المشاركين في ذلك البرنامح، قال أحد التربويين السوريين بشكل احتجاحي متهكّم "حسنا لننظر في ما يحتاجه مجتمعنا! ولنلغ بعض الكليات الجامعية أو نقلّصها، ولنبني عوضاً عنها مدارس لتعليم إصلاح بوابير الكاز والكراسي الخشبية وما شابه".

 

وفي حينها بدا هذا التهكم مبالغاً فيه ومتطرفاً، ولكنّه لا يعود كذلك قطعاً إذا ما نظرنا إلى واقع الحال المزري، الذي يتخبّط فيه مجتمعنا السوري الراهن في أزمته المعيشية الخانقة، وبسبب تدهور وضع سوق العمل، أصبح جلّ حملة الشهادات، حتّى وإن كانوا من أصحاب الكفاءات، إمّا لا يجدون عملاً مرتبطا بشهاداتهم، أو لا يكون مردود هذا العمل كافياً بتاتاً، وعندها يضطّر المهندس لأن يعمل حمّالاً، والمدرّس لأن يعمل بائع بسطة، والحقوقي لأن يعمل سائقاً، هذا إن وجدت مثل هذه الفرص، وهكذا دواليك، ولم لا؟ فـ "الشغل مو عيب"، ولسان حال السذّج أو المزاودين ينفي لنا وجود مشكلة اقتصادية مستعصية في سوريا، وإن ضاقت بك السبل "افتاح بسطة خضرة"، حتّى وإن كنت عالماً في الطب الجيني أو في الفيزياء الكونيّة!

 

 

2- أثر التدهور الاجتماعي على قطاع العلم والتعليم:

 

خلال فترة الدراسة الجامعية في أواخر أيام الاتحاد السوفييتي، كنت شاهداً مباشراً لمثل هذا الانهيار وآثاره الوخيمة التي ظهرت سريعاً في كلّ ميادين الحياة، ومن بينها بالطبع القطاع الجامعي، فقد انهار الاقتصاد ولم يعد راتب البروفيسور الجامعي يكفيه لبضعة أيام، ما جعل حتّى مثل هؤلاء الأساتذة الكبار يضطرون لمزاولة أعمال بعيدة جداً عن مستواهم ومكانتهم العلميين، لدرجة أنّ بعضهم اضطر للعمل بائعاً في البازارات يبيع السجائر أو الثياب الداخلية أو الأحذية وما شابه، ولم يعد العمل في مجال التخصّص العلمي مجدياً لا للمخضرمين ولا للخريجين الجدد، وهكذا صار المخضرمون مضطرين إلى ترك العمل العلمي أو مزاولة عمل آخر، حتّى وإن كان بعيداً عن العلم ومكانة أهل العلم، وهذا ما كان يحدث في أغلب الأحيان، أمّا الخريجون الجدد فصار أكثرهم يضع شهادته التخصصية جانباً، ويذهب للعمل في المجالات البعيدة عن العلم التي تدرّ المال، وفي أحيان عديدة حتّى وإن لم تكن قانونية، وعلى مستوى الطلاب تنامت حالة اللامبالاة في أوساطهم، وصار العديد منهم لا يسأل عن معدّل عال أو نجاح بتميّز أو كفاءة ولا تهمه سوية نجاحه، بل كثرت حالات ترك الدراسة قبل إتمامها، والسبب في ذلك هو أنّ هؤلاء الطلاب صاروا يعرفون تماماً أنّهم لن يجدوا العمل الكافي الذي يضمن مستقبلهم بناء على شهاداتهم؛ وفي وقت لاحق، ومع التوجه إلى الرأسمالية في دول الاتحاد السوفييتي السابق، صارت المعاهد والكليّات التي تدرّس علوم السوق وإدارة الأعمال وما شابه هي الرائجة بامتياز لدى الشباب، ولم تعد الكليات والمعاهد العلمية والتكنولوجية مغرية، حتّى وإن كانت تدرّس العلوم النووية أو تكنولوجيا الفضاء.

 

تلك لم تكن حالة استثنائية في المجتمع ما بعد السوفييتي، ونحن في مجتمعاتنا العربية ومنها سوريا، نحياها بأشكال أكثر حدّة وفظاظة، ومنذ أوقات أقدم بكثير، وفي الحالة السورية هذا الوضع قد تفاقم جداً بسبب النزاع وآثاره الكارثية.

 

3-كيف تدهورت قيمة العلم في المجتمع السوري؟

 

كما سلفت الإشارة، هذه المشكلة ليست جديدة في سوريا، ولا هي من إنتاج النزاع  الأخير فيه، وهي لم تكن مشكلة هامشيّة أو ثانوية في مرحلة ما قبل الانتفاضة السورية، حيث كانت مشكلة فعلياً خطيرة الشأن كسواها من المشكلات الأخرى في المجتمع السوري آنذاك، ثم نمت إلى أبعاد شديدة الضخامة خلال سنوات النزاع!

 

3.1- كيف كان الحال في سوريا ما قبل عام 2011؟

 

بسبب الاستبداد والفساد كان الوضع الاقتصادي في سوريا مترديّاً، وكان على من يتخرّج من جامعة أو معهد أن يعمل غالباً في القطاع العام، فمساهمة القطاع الخاص في الاقتصاد السوري لم تكن كبيرة، ولا سيما في المجالات التي تتطلّب كفاءات علمية عالية، وهذا التردّي العام للوضع الاقتصادي في سوريا، كان ينعكس أيضاً بشكل شديد السلبية على إمكانيات العمل الفردي الخاص، ويجعل الاحتمالات فيها إمّا غائبة أو ضعيفة.

 

وفي القطاع العام، كان هناك فعليّاً تضخم وظيفي وبطالة مقنعة كبيرين، وكانت الرواتب متدنية ولا تكفي قطعاً لتلبية ضرورات الحياة، هذا أولاً، أما ثانياً فقد كان دور الشهادة العلمية حتّى في عملية التوظيف ثانويّاً في كثير من الأحيان، بحيث لا يوظف الشخص في المكان الذي يتناسب مع شهادته واختصاصه، وكان هذا يحدث على أدنى وأعلى المستويات، ولذا ليس غريباً أن نرى اليوم وزير التربية في حكومة النظام السوري بيطريّاً! وعدا عن ذلك، فقد كان المعيار المعتمد في التوظيف والتكليف الوظيفي ليس الكفاءة وإنّما الواسطة والمحسوبية، وهذا أيضاً ينسحب على كافة مستويات هرميّة الدولة، وهذاً ثالثا!

 

وهكذا كان طالب العلم أو صاحب العلم حينها يجد نفسه أمام حقائق صادمة مفادها أنّ العلم في بلده ليس له قيمة عملية ولا قيمة معنوية.

 

3.2- فقدان القيمة العملية للعلم:

 

يعني فقدان القيمة العملية للعلم عدم إمكانية تحقيق أيّة نجاحات عمليّة على أرض الواقع، وفي ذلك يدخل تحقيق الدخل المعيشي المناسب، أو شغل موقع مسؤولية هامة يحتاج إلى كفاءة علمية والعمل فيه بكفاءة علمية حقيقة، أو القيام بمبادرة اجتماعية مرتبطة بالعلم والمعرفة.

فمن ناحية تحقيق المردود المادي، وكما سلف الذكر، ففي معظم الأحيان لم يكن هناك إمكانية لمزاولة عمل علمي يدر على صاحبه دخلاً كافياً، والمتخرّج العلمي كان عليه في جلّ الأحيان أن يرضخ لأمر واقع يضطر فيه للقبول بوظيفة حكومية متدنية الراتب، وغالباً ما كان يرفده بعمل آخر لا علاقة له بتخصّصه العلمي، لأنّ الراتب الرسمي لا يكفي بتاتاً.

 

أمّا من ناحية شغل مواقع المسؤولية -سواء في قطاعات العمل والإنتاج أو في هرمية الدولة- على أساس الكفاءة العلمية، والعمل في هذه المواقع على أسس علمية، فهذا الآخر كان أيضاً غير متاح، ففي ظروف هيمنة الاستبداد والفساد لم تكن معايير العلم هي المعتمدة في التكليف والتوظيف، ولا كانت معايير العلم أيضاً هي المعتمدة في الممارسة والتطبيق العمليين، وفي كلتا الحالتين كانت معايير الولاء والانتهازية هي السائدة.

 

وبالنسبة للمبادرات المرتبطة بالنشاط العلمي أو المعرفي، فهي أيضاً كانت متدنية الاحتمال، والسبب في ذلك هو أنّ هذه المبادرات -هذا إذا كانت ظروف أصحابها تمكنهم من القيام بها، وهذا ما كان غير ممكن غالبا بالنسبة لشخص لا يستطيع تأمين الدخل الكافي مثلاً- كانت، أي تلك المبادرات، محاصرة بقوة من قبل هيمنة الاستبداد والفساد من ناحية، ومن قبل اللامبالاة الشعبية من ناحية ثانية، والمثال على ذلك هو الوضع المزري للمراكز الثقافية، التي في أكثر الأحيان يكون رواد نشاطاتها أشخاصاً معدودين.

 

3.3- فقدان القيمة المعنوية للعلم:

 

في واقع الأمر، وفي الحالة الاجتماعية السَوِية، عادة ما يكون هناك حالة من الترابط والتوازن بين القيمة المعنوية لأمر والقيمة العملية له، فقيمة العلم في مثل هذه الحالة، لا تكون فقط مرهونة بالنتيجة العملية المرتبة على وجوده، بل يكون العلم أيضاً متمتّعاً باحترام كبير لأنّه معرفة، والمعرفة ضرورة أساسية من ضرورات تكوين الشخصية الإنسانية المتطورة، كما ويُحترم صاحب العلم أيضاً بصفته شخصاً قد حقّق إنجازاً ونجاحاً متميزين بما وصل إليه من علم.

 

لكن عندما يكون المجتمع مختلّاً، ويهيمن عليه التخلف والاستبداد والفساد، تصبح حتّى معاييره المعنوية غير سوية، ولا يعود فيه العلم وأهل العلم يحظون بالتقدير المناسب، ويصبح هذا التقدير من نصيب صاحب النفوذ والمال، بصرف النظر عن مدى شرعية وأخلاقية تحقيقهما، وهكذا، أصبح من الشائع في المجتمع السوري نعت الوصولي الذي يتقدم في المناصب الحكومية أو يجني الثروة بالأساليب المنحرفة بـ "الشاطر" و"الفلهوي" و"الحربوق" وبأنّه "شخص قد حاله" و"بيعرف يدبر حاله"، وهلمّ جرّى من مفردات وعبارات الفساد هذه، وهذا ما كان شائعاً حتّى في مرحلة ما قبل الانتفاضة.   

 

3.4- آثار الصراع وتفاقم الأزمة:

 

ما تمّ الحديث عنه أعلاه من فقدان لقيمة العلم على الصعيدين العملي والمعنوي في المجتمع السوري، تفاقم وتضاعف أضعافاً بنتيجة الصراع الدامي الذي وقعت فيه البلاد، وأدّى في المحصلة إلى كارثة كبرى شاملة الصعد فيها.

 

واليوم هناك انهيار اقتصادي، فلتان أمني، غياب للدولة واستفحال للفساد والتشبيح، وبشكل  تندر الفرص للقيام بأيّ عمل قائم على العلم ومرتبط به من أيّ نوع كان.

 

 

فالدخل منهار في القطاع العام، والفساد فيه وصل إلى حدود قصوى، ولم يعد ثمّة أيّة فرصة مؤثرة لأيّ دور أو ممارسة علميين؛ والوضع ليس أفضل بكثير في القطاع الخاص، فهنا أيضاً الدخل متدنّ وفرص العمل بدورها محدودة، وهي مرهونة بحدّة بمعادلة قلة العرض وكثرة الطلب وحتى هنا أيضاً كثيرا ما تلعب الواسطة والمحسوبية دورها في اختيار العاملين، ولكن يبقى شرط العمالة الماهرة قائماً، ويضاف إلى ذلك عدم وجود أيّة ضمانات أو حماية لحقوق العاملين في هذا القطاع بسبب استشراء الفساد وغياب الدولة، وهذا كله وإن كان اليوم متفاقماً فهو مع ذلك ليس جديداً، وكان موجوداً بشكل فعلي واضح في سوريا ما قبل الانتفاضة.

 

وبالنسبة للمسؤوليات فما تزال معايير الولاء والمحسوبية والمصلحة الخاصة فيها هي الحاكمة، بل وباتت فرص الانتهازيين والمزاودين فيها أكبر من السابق بكثير بسبب الفوضى العارمة في البلاد وتدهور كلّ ميادين الحياة وبنى المجتمع والدولة.

 

وهناك أيضاً عامل في غاية الأهمية، وهذا ما يمكن اعتباره بشكل رئيس أحد منتجات حالة الصراع، وهو "الغش في الامتحانات"، وهذه ظاهرة أصبحت متفشية وإن لم تكن غائبة تماماً قبل عام 2011، وهذا ما يغدو سبباً مضافا يجعل طالب العلم يشعر بأنّ جِده واجتهاده في تحصيل العلم، لن يكون فيصلاً، لأنّ زميله الأقل اجتهاد وكفاءة يمكنه أن يعوّض نقص اجتهاده وكفائته بالغش.

 

4- انعكاسات فقدان أهمية العلم على عملية التعليم في المجتمع السوري:

 

في محصلة كل ذلك التدهور لقيمة العلم في المجتمع السوري الراهن، وهذا كما سلف التوضيح ليس جديداً، ولا هو تماماً من مفاعيل ونتائج الصراع الراهن، ولن يكون أيضاً مشكلة سريعة الزوال، وهي ما تزال مستمرة في تفاقمها، الذي حتّى الآن لا يبدو له حد في الحجم الذي سيبلغه أو الزمن الذي سيستمر فيه، كيف سيكون موقف كلّ من الطالب والأهل والمعلم من العلم، وكيف سينعكس ذلك على العملية التعليمية؟

 

بالنسبة للطالب، سيدرك هذا الطالب سواء كان مدرسياً أو جامعيّاً أنّ تحصيله العلمي، مهما كان عالي المستوى، لن يكون في بلده ذي فائدة حقيقية، سواء من الناحية المادية أو من الناحية المعنوية، وبالأخص عندما يرى هذا الطالب أصحاب الشهادات والكفاءات العلمية العالية من حوله، وقد يكونون من أقرب أقربائه، يعانون الأمرين في دخلهم، وأدوارهم الرسمية والمجتمعية هي الأخرى مغيّبة، في حين أن مهن بسيطة كحلاق أو بائع أو سائق أو طباخ لها مردود مادي أكثر بكثير من الشهادات، فيما مواقع المسؤولية والنفوذ هي حكر على المنافقين والانتهازيين والمزاودين، إضافة إلى المكانة الهامة التي بات يحظى بها الزعران في المجتمع؛ وهكذا سيصبح هذا الطالب فاتر الهمة أو غير مبال في مسألة تحصيله العلمي، وقد يترك المدرسة أو الجامعة قبل أن ينهيهما، ويبحث عن بدائل أخرى.

 

وبالنسبة لوضع الأهل وإن كان الأهل في العادة أكثر رشداً وتروياً من أبنائهم في العمرين المدرسي وحتّى الجامعي، فمع ذلك عندما يحين موعد التفكير الواقعي، فهم سيجدون أنّ التعليم ليس مسألة واعدة، وهو لن يكون ضماناً لمستقبل أولادهم، ولذا فالكثير منهم قد يتساهل مع تعامل أبنائه غير الجاد مع تعليمهم، أو قد يعمل هو نفسه على إيجاد البدائل لهم، حتّى وإن تطلب ذلك إخراجهم من المدارس في بعض الأحيان.

 

أما المعلم فهو في ما يعانيه من تدهور لدخله الرسمي، ومن تدهور عام  للأوضاع في المدارس، وفي رؤيته لواقع العلم المزري في مجتمعه، وإدراكه للموقف السلبي للكثيرين من طلابه وأهاليهم من مسألة التعليم، فهو الآخر في كثير من الأحيان سيفقد حافزه وسيهمل واجبه وقد يترك التعليم، أو قد يتحوّل إلى تاجر دروس خاصة إن استطاع وهذا هو الأرجح.

 

أمّا الجهات المسؤولة وموقفها من تدهور قيمة العلم وجودة عملية التعليم، فهذا بالطبع في حال كحالة الفساد الطاغية اليوم في سوريا، لن يكون قطعاً موقفاً إيجابيا، وهو إن لم يكن حالة لامبالاة فهو قد يكون أسوأ، أي إمعاناً متعمداً في مواصلة وزيادة فساد وإفساد ميدان العلم و قطاع التعليم حفاظاً على المصالح المختلفة الأشكال المرتبطة بهذين الفساد والإفساد..

 

5- ما هو الحلّ؟

 

ما يمكن قوله عن المجتمع السوري الراهن الغارق في الكارثة، التي لا يبدو حتّى الآن أيّة مؤشرة على تغير وضعها نحو الأفضل في الأفق، وما يبدو تماماً هو العكس، هو أنّ هذا المجتمع، الذي فقد الكثير من بناه التحتية المادية والاقتصادية، هو اليوم يفقد أكثر فأكثر إحدى أهم بناه اللازمة لإعادة بنائه ونهضته وتقدمه، ممثلة بـ "موارده البشرية"، وهي بنية مرتبطة بشكل جوهري بقطاع التعليم، وهذا ما يهدّد هذا المجتمع بمزيد من التدهور الاجتماعي والعلمي والتعليمي.

 

 

فما هو الحل؟!

 

إنّ حل أيّة مشكلة لا يمكنه أن يكون حلّاً حقيقيّاً، إلّا عندما يتحقق فيه شرطان رئيسان:

 

أولهما التخلص من أسباب المشكلة، وثانيهما التخلص من مفاعيل المشكلة.

وبما أنّ مشكلة تهميش العلم وتدهور التعليم هي بشكل رئيس مرتبطة سببيّاً بالاستبداد والفساد، وبما أنّ إزالة مفاعيل هذه المشكلة تتطلب إعطاء العلم دوره ووضع الكفاءات العلمية في مواقعها المناسبة في الإنتاج والإدارة والقيادة، كما وتتطلب دعم وتعزيز قطاع التعليم، وكلا الأمرين غير ممكنين قطعاً تحت نير الاستبداد والفساد، فحلّ مشكلة العلم والتعليم لا يمكن أن يتمّ بدون حلّ مشكلة الاستبداد والفساد، وهذا يعني أنّ مشكلة العلم والتعليم في المجتمع السوري لا يمكنها أن تتمّ إلّا من خلال الحلّ الوطني الشامل، الذي يعني بشكل رئيس بناء الدولة الوطنية الحقيقية التي لا يمكنها أن تكون كذلك، إلّا إذا كانت في إطار وطنيتها وديمقراطيتها دولة تكنوقراطية تضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وتربط بين المسؤولية والكفاءة، وبين الوظيفة والتخصص، وكانت هذه الدولة إضافة إلى ذلك دولة اجتماعية، أو دولة رعاية اجتماعية تضمن تأمين متطلبات العيش الكريم لأبنائها، ليتمكّنوا بدورهم من الوثوق بها، وتفعيل طاقاتهم وتوظيفها لخدمة بلادهم وتطويرها بقيادتها.

 

6-خاتمة:

 

وهكذا يمكننا أن نصل إلى خلاصة مفادها، أنّ العلم هو أحد أركان نهضة وتقدّم أي مجتمع، ولا يمكن لأيّ مجتمع أن ينهض ويتقدّم إلّا إذا أخذ فيه العلم دوره ووُضع أصحاب العلم فيه في أماكنهم المناسبة، وبدوره لا يمكن للعلم أن يتطوّر ويكون فاعلاً في مجتمع إلّا بوجود عملية تعليمية فاعلة، تقتضي بدورها وجود قطاع تعليمي مؤهّل ومجهّز بالضرورات اللازمة لإنجاح عملية التعليم، وأحد أهم هذه اللوازم هو ضمان ضرورات الحياة الكريمة لكوادر وعمّال القطاع التعليمي، وغيرهم من كوادر وموظفي القطاعات الأخرى وسواهم من المواطنين.

هذا ما يجب أن يتمّ في سوريا، وهو كما سلف الذكر، يقتضي بناء دولة وطنية  ديمقراطية اجتماعية تكنوقراطية.

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard