info@suwar-magazine.org

سوريا .. العقليّة التجارية والمنفعة الشخصية

سوريا .. العقليّة التجارية والمنفعة الشخصية
Whatsapp
Facebook Share

 

تردّدت كثيراً قبل الشروع في كتابة هذه الأفكار الخاصة كونها ستكون صادمة وصدامية لكل من يقرأها، ولربما سيقوم الكثيرون بالهجوم عليها ومحاولة تبريرها وتفسيرها وفي الأغلب معارضتها، لكوننا كمجموعات بشرية نقدّم أنفسنا بشكل دائم على أننا شعوب الله المختارة، وللحقيقة فقد كتبتها تحت إلحاح شديد من أحد أعزّ أصدقائي والذي أقنعني أنّه يجب أن أحوّل هذه الأفكار إلى نسخة مكتوبة تصلح للنشر، ربما تلقى أذناً صاغية وتقدّم ولو نقطة في بحر الجنون الذي يجتاح العالم عموماً والمجتمعات السورية خصوصاً، علها تعمل على محاولات الاصلاح المجتمعي.

 

خلال الاثني عشر عاماً من عمر الثورة السورية، تكشّفت عورات المجتمع السوري الذي كان يقدّم نفسه على أنّه مجتمع قريب من المثالية والرقي في المحيط العام لمجتمعات الشرق الأوسط، وفي حقيقة الأمر فإن المجتمع السوري، وبغض النظر عن مستوى التعليم الذي قد يكون وصل إليه، إلّا أنّه يعاني من أزمة -تعتبر من وجهة نظري- تاريخية، وتتعلّق بطبيعة هذا المجتمع عبر جميع مراحل التاريخ التي مرّ فيها.

 

تُعتبر سورية بحكم موقعها الجغرافي نقطة وصل هامّة ما بين الشرق والغرب، يعلم الكثير منّا أنّها كانت المنطقة الأهم في التبادل التجاري ما بين طرفي العالم، وخلال مراحل التاريخ يمكن أن نلاحظ أنّ المجتمعات السورية في بعض المناطق خاصة في المدن الكبرى بنيت على أساس التجارة بشكل أساسي والصناعة في المرتبة الثانية، بما يخدم الحالة التجارية.

أدّى ذلك إلى تحوّل العقلية السوريّة بعمومها إلى العقلية التجارية، هذه العقلية التي تعنى بالمصلحة الشخصية بشكل أساسي بما يخدم مصالحها وطموحاتها ورغباتها بالربح التجاري، والاستفادة من التناقضات الموجودة على مر التاريخ، ما بين الامبراطوريات والممالك المتلاحقة التي حكمت هذه المنطقة الجغرافية بغية الكسب والربح.

 

لطالما خضعت هذه المنطقة إلى الحكم الخارجي، فمن التنازع ما بين الامبراطوريتين الفارسية والرومانية إلى الحكم الاسلامي المتنوّع بممالكه وإماراته.

خلال كلّ هذه الحقب التاريخية، حافظت سورية الطبيعية عموماً على عقلية الربح التجاري، العقلية المتمثّلة في المثل الشائع "اللي بيتجوز أمي بقله عمي"، والتي تجنّب سكانها "وذلك بنظرة عامّة شمولية" الصدام مع القوى العالمية من خلال الانحناء عبر العواصف فقط للحصول على الربح الذي تطمح إليه، طبعاً إلّا في حالات تاريخية قليلة لا تكاد تكون لها تلك الأهمية المؤثّرة بشكل حقيقي.

 

من خلال تعاقب نماذج الحكم التاريخية على سورية، تطوّر العقل التجاري ليتجاوز ذلك إلى الحالة السياسية، شعوب المنطقة السورية أصبحوا يستمتعون بالخضوع للحاكم والأقوى، بل وبسبب دماثتهم أبدعوا في الثناء والتهليل للحكّام المتعاقبين.

أكاد أجزم أنّ دخول سكان سورية الطبيعية في الاسلام كان نتيجة نظرة تجارية إلى حيثيّات الوضع التاريخي آنذاك، موجة مديّة صاعدة وحّدت الجزيرة العربية تحت راية واحدة وصلت إلى بلاد الشام لتنازع القوّتين العظيمتين آنذاك (الامبراطورية الفارسية والامبراطورية الرومانية). بعقلية تجارية - ولا بد من الاعتراف أنّها ذكية - تحسب موازين الربح والخسارة، كان الأصلح للبقاء هو الانضمام لهذه الموجة الصاعدة، فهل كان الدخول في الاسلام حقيقيّاً؟ سؤال يحتاج لعلماء الاجتماع والتاريخ للإجابة عليه بعد دراسات عميقة وحيادية، لكن عندما ننظر مليّاً إلى التاريخ هنا، نرى أنّ سكان بلاد الشام قد دخلوا متأخرين نسبيّاً في الاسلام، حتّى بعد المعارك التي أدّت إلى بسط سيطرة الدولة الاسلامية الصاعدة على تلك المنطقة، فحلب مثلاً لم تدخل في الاسلام إلّا بعد حوالي 100 عام من "الفتح الاسلامي"، من وجهة نظري يندرج ذلك تحت إطار دراسة الجدوى وتحليل المخاطر ثم الخروج بنتيجة تتماشى مع موازين الربح والخسارة والتي هي أساس العقلية التجارية، وهذا ما فعله أهل حلب.

 

استمتع سكان سورية بالحكم الاسلامي لأنّه ترك لهم المجال بالاستمرار في ممارسة تجارتهم المعهودة تاريخياً، بل ولعلّه عزز من مكانة المنطقة تجاريّاً. هل نحن بحاجة لنذكر العلاقات السريّة مع الحملات الصليبية من قبل سكان هذه المنطقة وكيف كانت تحدث المبادلات التجارية ما بين السكان و الصليبيين؟

 

الربح والخسارة والمصلحة الشخصية هي ما يحكم العقلية المجتمعية في هذه المنطقة، لا بدّ لنا من الاعتراف أنّه لم يكن لسكّان هذه المنطقة أيّ هويّة وطنية راسخة خلال التاريخ، وذلك لأنّ المصلحة الشخصية والعائلية هي الأساس وليس التفكير الجمعي الوطني.

 

خلال فترة السبات العثماني، لم تتغيّر تلك العقلية لسكّان سورية، تماهوا مع الحكم العثماني الذي لم يؤثّر على عقليتهم التجارية، بل لعلهم أصبحوا أكثر ثراء في هذه الفترة حيث أصبحنا نجد الآغاوات والباشاوات، الذين استفادوا من التجارة في توسيع نفوذهم، ومارسوا نماذج حكم فردية تحت إطار شمولي أثناء تلك الفترة.

 

مع صعود عصر القوميّات، قفزت العقلية التجارية إلى هذه السفينة أيضاً، لم لا ومن الممكن الاستفادة من هذه الموجة الجديدة بما يخدم المصالح الشخصية والعائلية، ولنا في التجارب الحزبية التي ظهرت في تلك الفترة سواءً في سورية أو في لبنان دليل على طريقة التفكير بالمنفعة الشخصية والعائلية، وكيف تحوّلت معظم - إن لم يكن جميع الأحزاب - إلى أحزاب عائلية تخدم المصالح الشخصية والعائلية وإن كان بشكل مستتر.

 

وإذا أردنا ألّا نتعمق كثيراً في الفترة الأسدية من الحكم، والتي هي مثال صارخ على تطويع التجربة الحزبية في خدمة ليس الطائفة وإنّما العائلة حصراً، وتحويل الوطن السوري إلى مزرعة حقيقية تخدم العائلة والمنفعة الشخصية، يمكننا عندها أن نقفز إلى فترة الثورة السورية والتي أستطيع أن أقول أنّ أحد أهمّ مشاكلها الأساسية هي أنّها حصلت في بلد يعتنق غالبية إن لم يكن جميع أبنائه العقلية التجارية المتعلّقة بالربح والخسارة.

 

الأمثلة على تغليب المنفعة الشخصية ومن ثمّ العائلية كثيرة في الثورة السورية، بداية من تشكيل الفصائل المسلحة على أسس عائلية في قيادتها وتوارث هذه القيادة، مروراً بتشكيل ما يطلق عليه منظمات المجتمع المدني التي بدأت بشكل مناطقي وتحوّلت حالياً وبشكل واضح إلى مزارع شخصية تخدم الفرد ومن ثمّ العائلة بعقلية تجارية تعتمد على الربح والخسارة، حتّى أصبح يُطلق على العديد من مدراء هذه المنظمات لفظ "الحجّي" وهو لفظ سوري كان يطلق على أصحاب المعامل والشركات الذين كانوا يديرون شركاتهم بمنطق الرجل الواحد والربح المطلق، وأغلبهم كانوا - ومن المثير للاستغراب – حجّاج بيت الله في مكّة. أصبحت تُحكم هذه المنظمات بنفس النهج المتّبع سابقاً سواءً في العصر الأسدي أو حتّى ما قبله رجوعاً إلى حقبة ملوك الطوائف.

 

تنطلق العقلية التجارية من مبدأ المنفعة الشخصية كما أسلفت، وبناءً على ذلك نستطيع أن نفهم لماذا مثلاً لا يُقدّم السوري المساعدة إلّا في حال كان لديه منافع خاصة، وفي حال عدم وجودها فلا يخجل أن يبتكر أسباباً عديدة لعدم المشاركة في تقديم المساعدة بغض النظر عن ماهية هذه المساعدة، حتى لو كانت من مبدأ المناصرة فقط.

 

في كل بلدان الاغتراب نجد تجمّعات للجاليات المغتربة، وضمن هذه التجمعات نجد أنّ أفرادها يحاولون أن يقدّموا الخدمات لبعضهم البعض، ففي السعودية مثلاً نستطيع أن نجد تجمّعات للجالية المصرية والتونسية و الأردنية وحتى الهندية والباكستانية، أفراد هذه الجاليات يتناقلون فيما بينهم المعلومات المتعلّقة بفرص العمل والتوظيف ويضغطون باتجاه ملء الشواغر من أحد أفراد هذه الجالية حتّى لو كانوا مختلفين فيما بينهم، أمّا ضمن التجمّعات السورية فلا تجد إلّا التكتّم الشديد والشكوى من قلّة الفرص وانعدامها حتى، لا يوجد مشاركة للمعلومات المتعلّقة بهذه الأمور إلا ضمن إطار شديد الضيق، تتفاجأ كيف أنّ أحدهم حصل على فرصة ما وعند السؤال تحصل على الاجابة ذاتها (عن طريق الصدفة، الله فرجها وأخيراً) علماً أنّ الموضوع قد يكون استغرق وقتاً طويلاً للحصول على هذه الفرصة، يتكئ السوريّون دائماً على الدين في هذه المواضيع حيث تراهم يحتجّون بمبدأ (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان)، ليس هذا الاتكاء في حقيقة الأمر نابع من عمق تقواهم ولا من حسن إسلامهم، هو مجرد أداة من أدواتهم التي طوّعوها خدمة للعقلية التجارية النفعية الشخصيّة.

 

طبعاً لا أريد الخوض كثيراً في تفاصيل تطويع الدين -أيّ دين- في سبيل خدمة المنفعة الشخصية، كلّنا نعرف كيف يتمّ الالتفاف على الدين واستصدار الفتاوى على المقاس خدمة للمنفعة الشخصية، بحيث تحوّل علماء الدين إلى تجّار أيضاً يحققون المكاسب الشخصية عبر البحث والتمحيص في الدين لاستصدار الفتوى المناسبة، حتّى لو كانت تتناقض مع فتوى سابقة في نفس المجال، المهم الحصول على المكسب الفردي والعائلي، تراهم يتنقلون ما بين القرآن والحديث والقياس لعلها ترد سابقة تبرّر ما يجب تبريره، وإن لم يكن هناك سابقة، فالاجتهاد دائماً موجود وحاضر للتبرير.

 

في عصر الجنون هذا والعقلية المنفعية، لا بدّ لنا من الاعتراف أنّ الثورة السورية قد فشلت وكان يجب التنبؤ أنّها لا بد أن تفشل في بلد يعاني أبناؤه من مرض المنفعة الشخصية والعائلية، قبل تغليب المصلحة الوطنية على أيّ شيء آخر. عندما يقتنع المواطنون أنّ مصلحة الوطن يجب أن تعلو على المصلحة الضيقة الآنية للفرد والعائلة، ربما حينها فقط تستطيع الثورة السورية أن تحقّق نجاحاً ولربما حينها نستطيع أن نبني وطناً على أسس المواطنة والديموقراطية والحداثة.

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard