info@suwar-magazine.org

السويداء: ومدنية ساحة الكرامة

السويداء: ومدنية ساحة الكرامة
Whatsapp
Facebook Share

 

 

يعود السوريون لساحات الكرامة من جديد في موجة ثورية جديدة تعاند مسار الانحدار والهدم العام. من مدينة السويداء، ولأكثر من شهر على التوالي، تستمر المظاهرات السلمية وتتجاوب معها بعض المدن السورية، معيدة إحياء مسيرة الثورة السورية التي انطلقت في آذار 2011. ساحة الكرامة في السويداء باتت ملتقىً وطنياً لكل شرائح المجتمع من شباب وشابات، رجال دين وسيدات، سياسيون معارضون وفرق عمل مدنية... ومطالبهم مطالب السوريين العامة في الحرية والكرامة والعيش الكريم في دولة المواطنة، تزيّنها أغاني التراث الفني لجبل الهرب بالجوفية والهولية، تسترجع ذاكرة السوريين في بدايات ثورتهم، فباتت عرساً وطنياً يمتد على مساحة وطن.

 

 

في ساحة الكرامة روح سلطان الأطرش وإبراهيم هنانو وصالح العلي ويوسف العظمة تحيا من جديد بعد أن طمستها سلطة العسكر الاستبدادية ذات القيادة المطلقة الخالدة البعثية. صور عبد العزيز الخير ورجاء الناصر وناصر بندق وخليل معتوق، المعتقلين في سجون النظام، وكلّ المعتقلين من كلّ أنحاء سورية حاضرة في ساحة الكرامة. أمّا ساحة الكرامة فهي الاسم التي أطلقها عليها المتظاهرون السلميون عام 2015، والتي كان اسمها "ساحة السير" أو "ساحة التمثال" سابقاً، اذ يُذكر أنّه في مثل هذا اليوم 4/9/2015 وبعد تفجير مركب قيادة حركة رجال الكرامة وقضاء غالبية قيادتها، اندفع شباب المحافظة للساحة وهدموا تمثال الأسد المسمى ب"الخالد" و"صانع أمجاد الأمة ومستقبلها" زوراً واستبداداً، فيما كان ونظامه رمز هدمها واعتقال شبابها وانهيار قيمها. واليوم تتابع الانتفاضة بإقفال مقرّات سلطة البعث وإزالة كلّ الصور والرموز التي تمّت لسلطتها، ولسان حال المتظاهرين يقول: ألم يتغيّر الدستور وأُلغيت المادة الثامنة من دستور 1973، وها نحن نطبّق الدستور، إنّه قرار شعبي بهدم سلطة البعث....

 

 

في السنوات الخمس الماضية وبعد العام 2018 عندما تمّ إفراغ الداخل السوري وتهجير سكّانه ودمار معظم مدنه، استنقعت المسألة السورية سياسيّاً تتقاسمها أطراف النفوذ والجيوش والميليشيات متعدّدة الانتماء والمصالح، وكلّ فريق يحاول نهش حصّته من الكعكة السوريّة. هذا الاستنقاع الطويل انعكس على المجتمع السوري بشكل كارثي طال السوريين في مستويات عدّة يمكن إيجازها على سبيل الدلالة لا الحصر:

  • التباعد العام بين مكوّنات الشعب السوري وازدياد حدّة المظلوميات من كلّ الأصناف، وكلّ فريق يرى في مظلوميّته المظلوميّة القصوى.
  • تزايد حدّة التقوقع الإثني والطائفي والديني وتنامي ظواهر التعصّب والأيديولوجيات المرافقة.
  • تحاجز سياسي وفرط نمو في المكوّنات السياسية السورية والتي قلّما تقاربت وتوافقت فيما بينها بقدر كلّ فريق يحمّل الأطراف الأخرى مسؤولية الكارثة السورية التي نعيش.
  • خبو الحلول العامة للمسألة السورية وفرط نمو في الحلول الفردية والجزئية التي فتحت المجال الواسع للانتهازية والنفعية المحضة على اتساع بواباتها.
  • تفكك أسروي تزايدت معه حالات الطلاق ويتم الأبناء وتراجع حاد في قيم الألفة والانتماء وتنامي الفردانية على حساب القيم العامة، مترافق مع الجوع والحاجة التي بات يعاني منها أبناء الداخل السوري، وانتشار أفقي للأسرة الواحدة كلّ في بلد لجوء أو هجرة.
  • ارتفاع شأن أمراء الحرب والقتل والسلب على حساب أصحاب الشهادات العلمية مع تراجع فاضح في قيمة المتعلمين والعلم أمام أصحاب المال دون السؤال: من أين لكم ذلك؟
  • تراجعت أصوات العقلانية السورية وبهتت إنارتها مع طفو المساحات المظلمة للمشاريع السياسية القصيرة والانتفاع المدني والميليشوي من جراء الكارثة السورية، حتّى بات المثقّف السوري يشعر بغربة مضاعفة ويزداد انزواءً، فان كتب قلما يُقرأ له والقول المتردّد "شبعنا تنظيراً".

 

 

تبقى النقاط أعلاه مجرد إشارات ليست للتعميم بل تستوجب الدراسة والتحليل وإعادة التقييم في الأسباب وطرق الحل الممكنة. أما في السويداء، مركز الحدث السوري اليوم، فقد تزايدت خلال نفس الفترة هجرات شبابها العام، ومن بقي منهم فيها لا يستطيعون الخروج خارج المحافظة للملاحقات الأمنية التي تطال معظم شبابها. مترافق هذه مع تزايد عصابات الخطف والاجرام والسلب والنهب والاتجار بالمخدرات، وبات كلّ سوري يحاول الدخول الى المحافظة عرضة للاختطاف والبزار المالي. حتى وصفت المدينة بشيكاغو سورية. هذه الظاهرة التي طالما حلّلنا أبعادها بكونها تتبع للأجهزة الأمنية ومشغليها، تستهدف جمع المال من جهة، وشيطنة وعزل السويداء عن محيطها الحيوي من جهة أخرى، وتشغيل شبابها العاطل عن العمل في تأمين خط المخدرات لدول الخليج من جهة أخرى.

 

 

اليوم، ولأكثرمن شهر، لم تشهد المحافظة حالة خطف أو سلب أو نهب، ونادراً ما ذكر أيّ منها، والأهم من هذا تكتظ ساحة الكرامة بشتى صنوف المجتمع وفي مقدمتهم النساء والشباب المدني، يتظاهرون في لحمة وانسجام مع رجال الدين وأبناء العشائر، لا يفرقهم جنس أو عرق أو دين، مصرّين على وحدة الهوية السورية بكلّ انتماءاتها العرقية والدينية والسياسية والفكرية. وهذا مؤشر حيوي على استعادة السوريين لزمام المبادرة في استرجاع قضيتهم في جوهرها، وجوهر المسألة السورية كان وما زال، دولة المواطنة، دولة الحق والقانون لا استبدال سلطة في أخرى. دولة لا فرق فيها بين عربي أو كردي، سني أو درزي أو علوي أو مسيحي، فجميعهم متساوون بالحقوق والواجبات والحريات. وهو ذات الجوهر التي انطلقت منه عام 2011، ويعاد إحياؤه من جديد مرفوعاً على قيم السوريين المدنية، فسوريا "بلاد الشمس"، كما كانت تعرف تاريخياً، ومركز إنارة وحياة لأبنائها ومحيطها العام، وتنبعث من تحت الرماد من جديد. الأمم تبدأ بعكس مسار انحدارها والارتقاء مجدداً على سلم الحضارة، حين تثق بإمكانيات وقدرات شبابها الخلّاقة التحررية والمدنية، وحكمة عقلائها وخبراتهم وقيمهم، حين يجتمعون في مركب واحد عنوانه المصلحة العامة والقيم المجتمعية والإنارة الفكرية التحررية. تلك التي قالت عنها قبل قرون حضارة اليونان بأنّها الشأن العام "Res-politica" في ثلاثية متكاملة هي الدولة. فهل نخطو اليوم مجدّداً في سورية نحو استعادة هويتنا السورية كشأن عام ونستعيد الإمساك بزمام المبادرة وعودة تمركز قضيتنا السورية في داخلها وعلى أسس محتواها وقيمها الوطنية؟ كلّنا أمل....

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard