الإرث القَلِقْ للانتخابات "السوريّة"
لطالما كانت الانتخابات كمُمارِسة إحدى الأمور بعيدةَ المنال، والتي ترتبطُ بسياقٍ وإرثٍ طويلٍ من المُمارسات الديمقراطية على مستوى الدستور بدايةً وعلى مستوى الواقع المُعاش، وفي المُمارسة النظريّة على مستوى الدستور على سبيل المثال -كان ولا يزال- أحد البنود غير الديمقراطية هو تحديدُ جنسَ ودينَ رئيس الجمهورية، وعلى مستوى الممارسة يُمكن تعداد ممارسات طويلة غير ديمقراطية منها مثلا أن يكون الرئيس "عربيا" و"بعثيا".
لكنّ سوريا اليوم ليست مُقتصرة على "سوريا الأسد" فقط، بل باتت مقسّمة فعلياً ومعه باتت تجربة الانتخابات مختلفة لكنّها ولذات الأسباب المتعلقة بالإرث الطويل للممارسات الديمقراطية تجارب ناقصة وغير ديمقراطية.
الانتخابات كحقّ
تُعدّ الانتخابات أحد أبرز الملامح الديمقراطية للدولة الحديثة، وقد خصّتها العهود والمواثيق الدولية وكذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ببنود واضحة كحقّ أساسي للمواطنين في أي دولة حتى تطبّق مبادئ الديمقراطية، كما وتُعدّ الانتخابات النزيهة مؤشّرا للديمقراطية.
فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان يذكر في المادة 21 أنّ لـ "كلّ شخص حقّ المشاركة في إدارة الشؤون العامة لبلده إما مباشرة وإما بواسطة مُمثّلين يختارون في حرية"، وكذلك البند الذي يوضّح أنّ لـ "كلّ شخصٍ بالتساوي مع الآخرين حقّ تقلّد الوظائف العامة في بلده".
كما أنّ الانتخابات ينبغي أن تعكس إرادة الشعب، والتي يصفها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بأنّها يجب أن تتجلى "من خلال انتخابات نزيهة تجري دورياً بالاقتراع العام وعلى قدم المساواة بين الناخبين وبالتصويت السرّي أو بإجراء مكافئ من حيث ضمان حرية التصويت".
بينما يُحدّد العهد الدولي الخاصّ بالحقوق المدنية والسياسية بدقة أن كلّ الدول الأطراف في هذا العهد مُلزمة ومتعهدة بضمان الحق في التصويت والمشاركة في الانتخابات كافة، وأنّه لا يجوز حرمان الفرد في أية دولة من التمتع بهذا الحقّ بناء على انتمائه لجماعة معينة سواء كان ذلك نتيجة إهمال أو سياسة منظمة.
كما تم ذكر بنود واضحة في المادة 25 وهي أن يكون لكلّ مواطن، دون أي وجه من وجوه التمييز المذكور في المادة 2، الحقوق التالية، التي يجب أن تتاح له فرصة التمتع بها دون قيود غير معقولة:
أ – أن يشارك في إدارة الشؤون العامة، إما مباشرة وإما بواسطة ممثلين يختارون في حرية.
ب – أن ينتخب وينتخب، في انتخابات نزيهة تجرى دوريا بالاقتراع العام وعلى قدم المساواة بين الناخبين وبالتصويت السرّي، تضمن التعبير الحر عن إرادة الناخبين.
ج – أن تتاح له، على قدم المساواة عموما مع سواه، فرصة تقلد الوظائف العامة في بلده.
انتخابات "الظلّ" ووباء اللاديمقراطية
عاش السوريون عقودا طويلة، لم يعهدوا فيها انتخابات بأي شكلٍ كان، فكلمة الانتخابات تعني في الذاكرة السوريّة الجمعية، استفتاء بـ (نعم) أو (لا) حول أمور "مصيرية" كتجديد البيعة لرئيس البلاد، وحتى أشكال الصناديق كانت تشي بذلك المتفق عليه بين نظام الحكم والشعب، وهو "الانتخابات الإجبارية".
اختبرتُ أوّل انتخابات في حياتي في العام 2008 في السكن الجامعي، وكان المشهد كما يلي: تم إغلاق باب السكن الجامعي وطُلبَ من الطلاب النزول والمشاركة في الانتخابات، ولا أتذكرُ وقتها أكانت تجديد بيعة أم انتخابات، وقد سُمح بالإدلاء للانتخابات حتى أولئك الذين لا يمتلكون بطاقات انتخابية، وكنت بينهم، ولم أجِد مهربا من أن أغمس إصبعي في ذلك العار.
مع أنّني لستُ خبيرا في تاريخ الانتخابات في سوريا، لكنّني أستطيع القول إنّ السوريين لم يختبروا الانتخابات ليس على مستوى الدولة فحسب، بل كانت كلّ الانتخابات حتى النقابية منها محسومة النتائج، أو على الأقل كان هذا هو الإحساس السائد.
والسوريون يعرفون معنى (قوائم الظلّ) التي كانت تأتي جاهزة من الأفرع الأمنية، والتي تحملُ الطرابيش وتضعها على رأس من تشاء وتنزعها عمّن تشاء.
والأمر يبدو أكثر وضوحا حين نرى "ممثلي" الشعب في البرلمان السوري وهم يصفّقون بحرارة لرئيسٍ خرج نصف الشعب السوري إلى الساحات طالبين تنحّيه ولم يفعل، بل نكّل وضرب وقتل وعذّب ودمّر البشر والحجر ولا يزال.
اقرأ أيضاً:
ولكنّ وباء اللاديمقراطية في الانتخابات لم تكن ثيمة "بعثية" فقط، بل تجاوزته إلى معظم النقابات والتجمّعات بل وحتى الأحزاب السياسية المُعارضة، ولقد شهد هذا العقد الكثير من التلاعب والتزوير في الانتخابات الحزبية الكردية على سبيل المثال وتشهد المؤتمرات الحزبية تلاعبات واتهامات متكرّرة حول عدم نزاهة الانتخابات، وربما كان أبرز أمثلتها مؤتمر الحزب الديمقراطي الكردستاني - سوريا، الذي قال بعض أعضائه الذي جمّدوا عضويتهم أنّ التعيينات كانت حاضرة في مؤتمرهم كإجراء فوق قانوني.
وأما بالنسبة للمعارضة فيكفي أن نذكر مثال الانتخابات التي تم نشر وسمٍ عقبها وهي (انتخابات بالصرماية)، والتي تم تداولها على لسان رئيس الحكومة السورية المؤقتة عبدالرحمن مصطفى لأعضاء الائتلاف ونصّها كالآتي: "بالصرماية ستتم الانتخابات يوم الثلاثاء ١٢ أيلول، وبالصرماية سيتم انتخاب هادي البحرة رئيساً" في أيلول 2023.
ومن الأمثلة في انتخابات البلديات نهاية العام 2017 التابعة للإدارة الذاتية أنّ الكومينات كانت تستقبل الناخبين قبل مسافة من موقع الاقتراع وتحدّد لهم قوائم المرشّحين الذين عليهم انتخابهم، فضلا أنّ الانتخابات جاءت من طرف واحد، وهي الإدارة الذاتية والأحزاب المنضوية فيها، يُضاف إليهم حزب الوحدة من خارج الإدارة فقط.
انتخابات مُقلِقة/قلِقة
لكن والحال كذلك، فإنّه كان هناك اختباراً لأشكال أخرى من الانتخابات، وذلك بعد إعلان الإدارة الذاتية للانتخابات البلدية، هذه الانتخابات التي ليست الأولى، لكنّها وبسبب عدة عوامل ومنها التهديد والرفض التركي لها، وكذلك الرفض الأمريكي لها باتت الأهمّ منذ إعلان الإدارة الذاتية في العام 2014.
حيث أنّ تركيا ولأسباب غير مفهومة أصدرت تصريحات قوية ضد الانتخابات وهدّدت ولوّحت حتى بالتدخل العسكري في حال قيام الإدارة الذاتية بالمضي قُدما بالخطوة، ويبدو أنّ الإدارة الأمريكية سواء أكان ذلك بناء على تفاهمات مع تركيا أو محاولة لثني الإدارة الذاتية عن خطوة تراها في غير أوانها رأت أن تدفع باتجاه تأجيل الانتخابات أو حتى إلغائها.
ففي السادس من حزيران/يونيو 2024 أعلنت المفوضية العليا للانتخابات في شمال وشرق سوريا عن تأجيل الانتخابات التي كان من المزمع إجراؤها في الحادي عشر من ذات الشهر، لكن بيان التأجيل لم يذكر الأسباب الحقيقية للتأجيل، كما أنّه حدّد الشهر الثامن آب/أغسطس القادم موعدا للانتخابات.
وكان متوقّعا خارج سياق الرفض التركي وتهديداته والرفض الأمريكي أن تُقاطع الانتخابات قوى مثل المجلس الوطني الكردي الذي يرفض لأسباب سياسية أي انتخابات من طرف الإدارة الذاتية قبل اتفاقات سياسية شاملة بينها وبين الإدارة الذاتية، تتضمن إجراء حوارات وتفاهمات على عدة مستويات تأتي الانتخابات تتويجا لها، كما أنّ جبهة السلام والحرية التي تضم كلا من تيار الغد العربي والمنظمة الآثورية السريانية والمجلس الوطني الكردي.
في العقد الاجتماعي الذي أعلنته وصادقت عليه الإدارة الذاتية نهاية العام 2023 تنصّ المادة 118 من الفصل التاسع أنّ المفوضية العليا للانتخابات مسؤولة عن تخطيط وتنظيم وتسيير الاستفتاءات الشعبية، وانتخابات أعضاء مجلس الشعوب الديمقراطي للإقليم، ومجالس الشعوب في المقاطعات وكافة الانتخابات القانونية بشكل ديمقراطي، وينظم ذلك بقانون.
وتضم المفوضية 20 عضوا وتُعنى بتحديد مواعيد الانتخابات والإعلان عنها، وكذلك السير بالعملية الانتخابية وحتى إعلان النتائج وكذلك دعوة الأطراف المختلفة لمراقبة الانتخابات، وكانت مسؤولة المفوضية العليا للانتخابات روكن ملا إبراهيم قد أعلنت أنّ ثلاثة ملايين شخص يحقّ لهم التصويت في مناطق شمال وشرق سوريا في المقاطعات السبعة (الجزيرة، دير الزور، الرقة الفرات، منبج، عفرين والشهباء، الطبقة).
انتخابات البلديات تبدو من حيث الشكل مثالا جيدا لتجريب الديمقراطية واختبارها، لكنّها تجربة غير ناضجة كفاية وتحتاج كذلك إلى إرادة مُشاركة للأطراف المختلفة؛ وذلك لأسباب عدة، منها مثلا افتقار الإدارة الذاتية لتجربة الانتخابات والخوض فيها، ومسألة البرامج الانتخابية، والمرشّحين والفضاء الانتخابي عامة، فمثلا لم يتم الترويج بشكل كافٍ للانتخابات وأما الأمر الذي ساهم في خروجها إلى العلن بشكل كبير كان الرفض التركي والأمريكي.
كما أنّ هذه الانتخابات من حيث المضمون لا تمثّل سوى أحزاب الإدارة الذاتية التي يُمكن اعتبار حزب الاتحاد الديمقراطي وربما حزب سوريا المستقبل (لأسباب عديدة) فقط أحزاب فاعلة وحقيقية وما عداه أحزاب غير مؤثّرة وغير ذي قاعدة شعبية.
على الرغم من أنّ الشعارات المدنيّة منذ بداية الحراك المدني السوري 2011 كانت تدعو إلى الحرية والتي تُعدّ الانتخابات النزيهة والحرة أحد تمثّلاتها، إلا أنّ الانتخابات تحتاجُ إلى ثقافة ووعي وسياق سياسي اجتماعي وإرادة حقيقية لدى هيئات الحكم للتمثيل في الانتخابات.
كما أنّ الانتخابات لا تزال غائبة كمعرفة مجتمعية وأحيانا في مستويات أعلى نخبوية، وتحتاج إلى مشاريع مدنية وبرامج مكثّفة من قبل التنظيمات السياسية والمدنية.
* تُنشر هذه المادة بالتعاون بين شبكة الصحفيين الكُرد السوريين (SKJN) ومجلة صور في برنامج تعاون ضمن مشروع "المرآة"، حول "حقوق الإنسان والحريات العامة".