امتحان السياسة والأيديولوجيا
منذ أواسط القرن الماضي، ولم تزل ممارسة السياسة في سوريا لليوم نقمة تحددها عناوين الوصول للسلطة المحض. محمولة على نهج الأداليج الشمولية سواء من وصل منها للسلطة كالبعث، أو من يسعى ليكون بديلها من قوى قومية أو اشتراكية أو دينية! تبدّت ميزاتها العامة في الحياة السياسية السورية بسمات:
- القيادة المفردة والمطلقة للدولة والشعب، واعتقال وقتل المعارض، بموازاة التخوين وكيل التهم والتكفير بأوساط المعارضة، إلّا من رحم ربي وهم القلّة الممسكة على الجمر لليوم!
- احتدام الصراع على أحقية وأهلية الفكر النظري الشمولي المؤدلج وفرضه على الآخر المختلف بشتى الطرق السياسية أو العسكرية الغصبيّة. فكانت نظرية الحزب القائد، ونظرية "النخبة المثقّفة" القيادية المُعلمة للجماهير، وشرعية النصوص الدينية البارزة اليوم بوضوح، وجميعها تتصارع مثنوياً.
- غياب معالم تحديد التناقض الدولي حول سوريا، خاصّة خلال مرحلة الثورة والمشروع الوطني. فتحقيقاً للشرطين أعلاه وبغية الوصول للسلطة كان الارتهان لمشاريع الدول الخارجية فعل سياسي متكرّر دون النظر الفعلي للتناقض المفصلي الحاصل في الحالة السورية بين قوة الاحتلال الفعلية وموازيين القوة التي تفيد التغيير السياسي حتّى وإن كان مساره معقّداً وطويلاً. فإن كانت أيّة قوة عسكرية تقف على الأرض السورية هي قوّة احتلال بالمبدأ لكن البحث عن التناقض الذي يدعم قرار الانتقال والتغيير السياسي وفق 2254 مختلف كلياً عن مسار معطِّل له كسوتشي وغيرها!
في التاريخ، وقبل قرن من اليوم وقبل حلول الأداليج الشمولية، شهدت سوريا عهداً وطنياً تميّز بالقدرة على التوافق العام حول المسألة الوطنية رغم الاختلاف بالفكر السياسي وأدوات تفعيله؛ وليس فقط، بل القدرة على قراءة المعطيات المحلية والتناقضات الدولية خدمة للمصلحة الوطنية رغم تبدل أدوارها واختلاف نماذجها. وقبل الدخول في تفاصيل تلك اللحظة ومقارنة مفاعيلها اليوم، أتى استخدام مصطلح القدرة دلالة على الفعل الذاتي المولد للموقف الوطني سواء بكيفية التفاعل مع الاختلاف السياسي أو المتناقضات الدولية؛ فيما كانت الوطنية هي الانتماء للوطن السوري ومساواة جميع أبنائه حقوقاً وواجبات، والعمل على تحريره من المستعمر الفرنسي، وإنّ إمكانيات الأمة المادية والروحية، مهما اختلفت فيما بينها، رهن لتحقيق ذلك، وهذه كما وردت في بيان الاعتصام الستيني أوائل 1936 الذي تلاه المرحوم فارس الخوري عن الكتلة الوطنية في حينها.
اقرأ أيضاً:
إنّ قراءة تفاصيل المرحلة التاريخية السورية هذه يظهر بوضوح مدى أهميتها ومحوريتها ومساهمتها في تهيئة البيئة السياسية العامة لسورية في تلك الحقبة، والتي يمكن مقاربتها اليوم والاستفادة من تجاربها مقارنةً مع المشهد السوري الحالي وفق محددات مفصلية:
- رغم الاختلاف الواضح بين طريقتي عبد الرحمن الشهبندر وهاشم الأتاسي، وما يمثلّه كلّ منهما، في آليات تحرير سورية من المستعمر الفرنسي لكنّهما لم يقفا بوجه ولم يخوّنا بعض، ولم يتعاملا مع بعض بموقع الصراع على الأولوية والأحقية والأهلية في القيادة. فالأول أرادها بالقوة العسكرية مبادراً بالاتصال بإبراهيم هنانو وفوزي القوقجي ومحمد عياش وصولاً لسلطان الأطرش والذي تم اختياره قائداً للثورة، ولم يضعها المرحوم الشهبندر لنفسه كما يحاول معظم سياسي المرحلة الحالية السورية! فيما كان للأتاسي رؤيته بعدم إمكانية مواجهة فرنسا عسكرياً بل بالطرق السلمية والسياسية كالاعتصامات والمظاهرات والاستفادة من المساحات السياسية التي تقدمها فرنسا كدولة ذات ميراث حقوقي في الحرية!
- الاعتماد على قراءة معطيات الواقع في حوامله الممكنة، حيث كانت الثورة العسكرية ممكنة لم يعطلها الفعل السياسي بل كان موازياً ومتمماً لها، وحيث كان العمل السياسي ممكناً لم يحدث أن جابهت قوى الثورة العسكرية قوى العمل السياسي السوري كما حدث ويحدث اليوم.
- الملفت للنظر هو قراءة المشهد الدولي عند قيام الحرب العالمية الثانية، فالكتلة الوطنية السورية وقفت مع ألمانيا لكونها ضد فرنسا كدولة محتلة وضد اليهود مغتصبي أرض فلسطين! والمفارقة أن ألمانيا هي ذاتها الهتلرية النازية المرفوضة محلياً ودولياً بكل المعايير السياسية وفرنسا هي وريثة عصر الحريات الذي نتغنى به لليوم!
إنّ إحدى أهم تجليات النزاع على السلطة في سورية وعدم القدرة على حسم مفصلها المحوري بالتوافق على ألية وطريقة التغيير الممكنة، هو الإصرار على التنازع الأيديولوجي السياسي ومثله العسكري حول مسارات ومآلات الثورة ومستقبل سورية. ذلك الذي قطع التواصلية والحوار وعمق الخلافات السورية البينية، وحول مسارات الحالة الثورية لنزاع شرعيات تحاول كلّ منها فرض إرادتها على بقية الأطراف سياسياً وعسكرياً.
فحيث تبدو ممارسة السياسة نعمة لبناء الدول والمجتمعات حين ترتكز على قيم الحق والقانون والحرية، تتحوّل لنقمة حين تحويلها لشكل من ممارسة القوة بالإكراه سواء بموقع سلطوي أو معارض، وتصبح سبباً رئيسياً للانقسام والتشظي وتبدل قيمها لمحطات تخوين وإدانة للأطراف المختلفة في الرأي على أرضية الاختلاف الأيديولوجي وتنازع الأحقية "الثورية" سلمية أو عسكرية أو أيديولوجية بكل صنوفها. ما يقود للقطيعة والصراع وممارسة فعل القتل السياسي أو العسكري والإتيان بذات الممارسات التي قامت لأجلها حركة التغيير الشعبي عبر الثورة.
في الجهة المقابلة لو فرضنا جدلًا أنّ الفكر النظري يمكنه أن يصنع بمفرده الثورة، لكان الشعب الفرنسي، مثلًا، أنتج عقده الاجتماعي في دولة الحريات العصرية بالاستناد لما كتبه جان جاك روسو قبل ذلك بعقود دون الحاجة لثورة يقوم بها المستضعفون والمظلومون والمسحوقون. وكنا طبقنا إحدى نظريات التاريخ هذه التي تتلى على رؤوس الشعب المقهور وانتهى الموضوع! وهذا ليس موقفاً ضدّ الفكر النظري، بل هو إعطاؤه حيّزه الفعلي في إعادة صياغة السياق والمحتوى العام بكلية تناقضاته، والمساهمة في تحليل مسارات الحالة الراهنة في سورية وتقديم خلاصتها دون استعلاء أو مناكفة أو فرض موقع سلطوي لصاحبها، وامتلاك حق القول والتنظير كحق علوي من نوع مختلف عن سلطة السياسة، كما أشار له بيار بيردو فـ "المفكر ذاته هو في نفسه الآن موضوع السلطة وأداتها، والفكرة التي يحملها المفكرون الشموليون على أنّهم موجهو الضمائر ومنتجو خطاب الحقيقة وعازفو نشيد الخلود تنتمي هي ذاتها لنظام السلطة".
لسنا بحاجة لاختراع الدولاب مرة أخرى فقد تم اختراعه وانتهى، وما يتطلّبه الموقف الوطني اليوم هو إدراك أهمية فعل الدوران المتعاقب في حياة البشر والمجتمعات. وميزة الفعل السياسي الممكن اليوم، وفق مقارنات عدّة هو العمل الوطني للوصول لتغيير نظام الحكم القائم، وتسخير كامل الإمكانيات الفكرية والسياسية والأهلية له. وذلك قبل البحث عن موقع سلطوي في سوريا المستقبل، أو التنظير لآليات قيادة الثورة من ذات الموقع الذي أدخلها في مسارات التنافس والتنازع الأيديولوجي النظري والسياسي والعسكري وصولاً للدخول في سراديب القوى الإقليمية والدولية وصراعتها. وهو امتحان سياسي مفصلي في تاريخ سوريا الحديث كما كان أيام الاحتلال الفرنسي قبل قرن من اليوم.