من التضليل إلى الحقيقة... آليات كشف الأخبار الكاذبة

شهد العالم خلال العقدين الماضيين تطورات تقنية هائلة، انبثقت عنها الشبكة العنكبوتية للإنترنت، ما ولّد نوعًا من التواصل مختلفًا تمامًا عن العهود السابقة، وربطت أطراف هذا الفضاء الشاسع ببعضها البعض من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، التي باتت وسيلة تواصل سهلة وسريعة وذات تأثير واسع النطاق حول الأحداث اليومية وتحليلها ونشرها، بغض النظر عن كونها صحيحة أو خاطئة أو مضللة، خاصة في الآونة الأخيرة. ولكن الأهم هو نشر كل ما يندرج ضمن إطار الجِدّة دون رقيب أو حسيب، وبالشكل الذي يريدونه في أي وقت كان، مما يتسبب في تشويش يصيب العقول بهدف التأثير على الرأي العام وتضليله.
تضليل الرأي العام وتعزيز خطاب الكراهية
تقول الدكتورة منى عبد المقصود، وهي أستاذة مساعدة بكلية الإعلام في جامعة القاهرة: "للأسف الشديد، تعتمد الأخبار الكاذبة اعتمادًا كبيرًا على مخاطبة الغرائز والعواطف، والاستمالات التي تعمد إلى التوجه نحو الأحاسيس، خصوصًا إذا كان الفرد لديه أساسًا نزعات عاطفية أو ميول تجاه أي طرف من أطراف النزاع. وبالتالي، تأتي هذه الأخبار الكاذبة لتعزز وتؤيد صحة موقفه، وتلعب على أوتار المشاعر في تضليل العقل، مما يمنعه من إعمال المنطق في تفسير هذه المعطيات أو التحقق منها."
وتتابع عبد المقصود، مؤكدةً الدور السلبي لتلك النزعات العاطفية في تأجيجها لخطاب الكراهية " وبالتالي، يكون لدى الناقل هوىً نفسي يساهم في إيصال المعلومات إلى الآخرين على أنها معلومات غير صحيحة، مما يؤدي بالتأكيد إلى إشعال فتيل خطاب الكراهية بين فئات المجتمع المختلفة، خاصة إذا كان يعتمد على خطاب تمييزي أو عنصري، أو على تعلية الجنس أو العرق أو الدين على أمور أخرى. كل هذا يغذي ويخاطب المشاعر الإنسانية الخاصة بالتميز، والحب في إثبات الذات، والرغبة في التأكيد على صحة موقفه."
وعن دور الحملات الإلكترونية في مكافحة الأخبار الكاذبة، تؤكد عبد المقصود على أهميتها الكبيرة، قائلةً " تسعى الحملات الإلكترونية أولاً إلى تزويد الناس بالأساليب والأدوات المختلفة التي تمكنهم من تفنيد وتكذيب الادعاءات والمعلومات، وتعرفهم بالإجراءات والخطوات وأشكال التضليل. كما تمدهم ببعض المهارات الإلكترونية والرقمية اللازمة للتعامل مع الأرقام والتأكد من صحة الخبر، بهدف رصد الظواهر التي قد تشير إلى أن المعلومة غير صحيحة أو مجهولة المصدر أو منتزعة من سياقها ".
وتضيف عبد المقصود" الحملات الإلكترونية قادرة على تقديم جميع الأمور التي ذكرتها آنفاً بشكل مبسط وجذاب، وتسعى إلى التفاعل مع الجمهور، خاصة تلك التي تركز على المواقف الحياتية اليومية التي يتعرض لها الناس. وأعتقد أن لهذا تأثيراً كبيراً، وعلى الإعلام أن يدعم هذا النوع من الحملات، لأنه يساهم في إعلاء صوت الحقيقة."
اقرأ أيضاً:
باتت مواقع التواصل الاجتماعي تُروِّج للأخبار الكاذبة أكثر من وسائل الإعلام نفسها، حيث أفقدتها هذه الأخبار مصداقيتها وموضوعيتها في كل ما يتم تداوله، خاصةً أن التضليل الإعلامي ينتشر بسرعة أكبر من المعلومات الدقيقة والصحيحة، وذلك لأن شريحة كبيرة من الأشخاص تسعى إلى نشر ميولهم ومزاعمهم بغض النظر عن صحتها أو دقتها.
لكن هناك جانب إيجابي يساهم في إحداث التغيير، ألا وهو وجود فئة تتدارك الموضوع وتدرسه بعمق قبل إعادة نشره، بل وتتحقق من دقته وصحته، مما يشكّل مناعة لدى الشخص ضد الأخبار الكاذبة وتضليلها. وتقول روكسانا (اسم مستعار)، وهي ناشطة في المجال الإنساني" في الفترة الأخيرة، كنت أتابع الأخبار على منصة فيسبوك حصراً، ولكنني كنت دائماً أشك في تلقي أي معلومة أو تصديقها أو نشرها، بسبب التضليل الذي كنت أشاهده بشكل مكثف. لذلك، أجبرت نفسي على البحث الدقيق حول صحتها عبر بعض الوسائل الإعلامية الموثوقة أو من خلال بعض الأشخاص الموثوقين وذوي الصلة، وذلك لإبعاد نفسي والآخرين عن المشاركة في أي تضليل، بغض النظر عن أهمية الخبر أو الحدث."
الآليات المستخدمة في الكشف عن الأخبار الكاذبة
يقول حمزة همكي، المدير التنفيذي لمنصة "True Platform" عن الآليات التي تتبعها المنصة للكشف عن الأخبار الكاذبة" يتّبع فريقنا آلية رصد يومية للمنشورات أو الصور أو الفيديوهات الرائجة والمتداولة، أو التي تحولت إلى ترند، إضافة إلى تتبّع منشورات قوائم مُعَدَّة مسبقاً لحسابات وصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي قد تكون عامة أو شخصية أو تعود لمؤسسات إعلامية أو سياسية أو غيرها"
ويضيف" بناءً على مدى توفر سمات التضليل في هذا المحتوى أو المنشورات، ينتقل الفريق إلى مرحلة البحث والتحري عن صحتها."
يستخدم فريق True Platform أساليب وأدوات متنوعة وفق طبيعة المحتوى الذي يتحرى عنه، ومن الممكن الاستعانة بالبحث باستخدام الكلمات المفتاحية للتحري عن صحة نص أو خبر متداول، بحسب المدير التنفيذي.
وعن إمكانية استعانة المنصة بوسائل أخرى للتحري، يقول همكي" يمكن الاستعانة بالبحث العكسي عن الصور، أو تحديد الموقع الجغرافي للصور والفيديوهات، أو الكشف عن البيانات الوصفية للتحري عن صحة الصور والفيديوهات أيضاً. وقد نضطر أحياناً إلى استخدام هذه الأساليب مجتمعة للتحري عن صحة منشورات معينة."
"تسعى True Platform إلى التشبيك مع مؤسسات صحفية كهدف استراتيجي لمواجهة التضليل، الذي لا ينفصل برأينا عن ظاهرة خطاب الكراهية على وسائل التواصل الاجتماعي" بحسب همكي.
ولا يخفي حمزة همكي عدم قدرة فريقه على تغطية كل ما يظهر من تضليل أو خطاب كراهية في سوريا حتى الآن، بسبب ضعف الموارد، لكنه يقول" خلال النشاط اليومي، نحاول التنويع في أساليب عرض المواد، والتشبيك مع صفحات وحسابات عامة لزيادة الوصول والقدرة على التأثير في المتلقي، بما يساهم في تنمية وعيه النقدي حيال ما يشاهده من محتوى على وسائل التواصل الاجتماعي أو وسائل الإعلام"
فالأخبار الكاذبة، أو ما تُسمى بالصحافة الصفراء، ليست شيئاً جديداً، وليست وليدة هذه اللحظة أو تلك، أو هذا الظرف أو ذاك، أو أي زمان ومكان بعينه، وإنما هي موجودة منذ آلاف السنين. إلا أنه، وفي ظل هذه الثورة التكنولوجية الهائلة، باتت تنتشر بسرعة كبيرة وتؤثر على العالم أجمع، مُنتِجةً بذلك تداعيات غير معروفة المنشأ والأسباب في كثير من الأحيان، وبالتالي تشكّل تهديداً للحوار سواء كان ذلك ضمن إطار العمد أو خارجه.
في نهاية المطاف، ننهض ونكبر معاً أو نسقط ونتراجع للوراء أيضاً معاً. ولكن الأهم هو أن نكون، من الآن فصاعداً، أكثر دقةً في تأسيس مرجع وقاعدة بيانات موثوقة نوعاً ما للأخبار التي ترد وتنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، بغض النظر عن كوننا صحفيين وصحفيات، أو ناشطين وناشطات، أو حتى من الجمهور المتابع للأخبار عامةً. كما يجب أن نفكر ملياً وباستمرار في مصداقية الخبر المنتشر، الأمر الذي يشكل الفارق في تأسيس حجر الزاوية الذي نستند إليه لتفنيد الأخبار الكاذبة والمضللة. علينا أن نكون على دراية تامة بحقيقتها وأن نثقف أنفسنا قبل انتشارها، وليس أثناءه، لنكون على أتم المعرفة لتلقيها والتعامل معها، ونجنب أنفسنا والآخرين الوقوع في فخ زيفها.