نساء روجآفا: عمل بلا نفوذ اقتصادي

وأنت تتجول في روجآفا وشمال شرق سوريا أو تتابع أخبارها سترى الكثير من النساء في العديد من المجالات، وهو أمر اعتيادي ومتوقع في بيئة اجتماعية تتعامل مع النساء بمنطق وتصورات مختلفة خلال سنوات الحرب السورية عما هو سائد في الشرق الأوسط عموماً. ففي قطاع التعليم تشارك نسبة كبيرة من النساء في تقديم الخدمات التعليمية وما يتصل بها من أعمال إدارية وتنظيمية وتأهيلية، وهو أمر مشابه لما يحدث في الدول المتقدمة وبنسب معقولة في المجتمعات المتخلفة، وذلك لأسباب قد تختلف من مجتمع إلى آخر إلا أن السبب الأهم يعود لطبيعة المرأة باعتبارها أكثر قدرة على فهم احتياجات الأطفال، نظراً للروابط العاطفية والمهارات التربوية التي تمتلكها.
لكن كل هذا يبدو أمراً اعتيادياً ومتوقعاً، أما غير الاعتيادي، فهو مشاركة النساء في قطاع الأمن المجتمعي، ضمن جهاز الأسايش، وهو ما يمنحك وأنت تسير في شوارع المدن والبلدات على امتداد روجآفا وشمال شرقي سوريا شعوراً جميلاً، بأن المرأة المعتادة على اللطافة في تحية المارة هي ذاتها التي تؤمن لك الحماية كتفاً إلى كتف مع الرجال.
خلال زيارة إلى روجآفا، وبينما كنا نتجول في القرى الممتدة من الحسكة وصولاً إلى الرقة وكوباني، كانت يد النساء هي العليا في الحقول والبساتين والأراضي، وهو ما منحني شعوراً إيجابياً جديداً. لكن هذه الصورة التي تلامسها في الحقول وأنت تمر بين الدروب الوعرة التي تربط القرى والمدن والبلدات، اصطدمت بحقائق بدت كأنها صعبة التغيير والتحول على الأقل في المدى المنظور. فعندما سألت الكثير من السكان المحليين عمّا إذا كان ثمة نساء يعملن في ضبط العمل الزراعي أو ما يعرف شعبياً بمهنة (الشاويش)، قوبلت بالاستغراب. إذ يحتكر الرجال بحسب السكان هذه المهنة وغيرها من الوظائف الإدارية في القطاع الزراعي في الحقول والأراضي وحتى في المديريات، بينما يقتصر دور النساء في تأمين اليد العاملة الماهرة والرخيصة. دفعني هذا الأمر إلى متابعة البحث في المعلومات المتوفرة حتى بعد نهاية زيارتي، ومع حلول موسم الحصاد تابعت الأخبار المرتبطة بأسعار القمح والقطن والمحروقات والتحديات الاقتصادية، فلاحظت أن جميع المسؤولين عن بيع المحاصيل واستلام الفواتير هم رجال، وإن وجدت بعض النساء في هذا المجال، فقد كن استثناء نادراً.
اقرأ أيضاً:
"خليكي بالبيت" لا تبقي في البيت.. عن تطوّرات مفاهيم المجتمع للوجود النسوي
تغيب النساء عن الاقتصاد الزراعي بوصفهن قياديات أو صاحبات قرار فيما يتعلق بإعادة تدوير رأس المال والاستثمار الجديد مع تتالي الدورات الزراعية، وهذا يعني أن العائدات المالية من هذا القطاع لن تسهم في تغيير المفهوم التقليدي السائد عن دور المرأة، بل قد يساهم في تكريس التنميط وزيادة عدد النساء المشتغلات في الزراعة دون أن يمنحهن ذلك نفوذاً اقتصادياً حقيقياً.
هذه النتيجة تكرست أكثر عندما نفذت منظمة (GAV) التي أديرها مشروعاً لدعم الاقتصاد النسوي الزراعي، إذ قدمت المنظمة دعماً مادياً لثلاثين سيدة في تقنيات الزراعة الحديثة، مثل البيوت البلاستيكية وأنظمة الري بالتنقيط. ففي مرحلة التخطيط وكمنظمة ذات رؤية نسوية كان أحد الشروط الأساسية لاختيار المستفيدات هو أن تكون الأرض مملوكة للمرأة. لكن بدا تحقيق هذا الشرط أمراً مستحيلاً، إذ كانت الأرض دائماً مملوكة إما للأب أو الأخ أو الزوج، وهو ما يعكس بوضوح عدم امتلاك المرأة أي سلطة على المال، وبالتالي عدم امتلاك أفضيلة اتخاذ القرار الاقتصادي الحقيقي.
وحتى تتمكن روجآفا وشمال شرقي سوريا عموماً من تغيير هذا الواقع، يبدو أن تبني مفاهيم الاقتصاد النسوي أمسى ضرورة ملحة وليس مجرد خيار. فالنظام الحالي الذي يوزع الموارد الاقتصادية بشكل غير عادل لا يسمح للنساء بإعادة تشكيل الاقتصاد بطريقة تحقق العدالة الجندرية.
لكن مع تبني مفاهيم الاقتصاد النسوي وتعزيز استقلالية النساء ستكون الفرصة سانحة لتعزيز النمو الاقتصادي وبالتالي تمتين الاستقرار الاجتماعي، إلى جانب تقليل الفجوات الجندرية في الوصول إلى الموارد والفرص. ناهيك عن أن هذا الأمر سيؤدي إلى خلق اقتصاد أكثر استدامة بالاعتماد على التعاونيات والمشاريع المجتمعية وتوفير بدائل اقتصادية تدعم الأدوار القيادية للنساء خلال مختلف مراحل صناعة القرار.
لا يسعى الاقتصاد النسوي إلى تحقيق العدالة الجندرية في توزيع الموارد الاقتصادية، والتخلص من الأشكال التقليدية للتمييز ضد النساء في سوق العمل والملكية والاستثمار وحسب. إنما يسعى إلى إعادة تعريف العمل بحيث يشمل الجهود غير المدفوعة التي تقوم بها النساء، مثل العمل المنزلي ورعاية الأطفال، والتي يتم تهميشها في الاقتصاد التقليدي. كما يركز على خلق بيئات اقتصادية أكثر إنصافًا تدعم مشاركة النساء في صنع القرار الاقتصادي.
لكن هذا التحول الذي سيضمن للنساء في روجآفا وشمال شرقي سوريا دوراً أكبر في إعادة تشكيل الاقتصاد لن يكون أمراً سهلاً، ويحتاج إلى الكثير من الرافعات، بدءاً من تغيير التصورات النمطية حول أدوار النساء والمفاهيم المرتبطة بالملكية والإرث، وتوفير الدعم المؤسسي وتغيير الهياكل الاقتصادية التقليدية.
وحتى يبدأ التحول إلى الاقتصاد النسوي، يبدو القطاع الزراعي من أكثر الميادين الحيوية التي يمكن البدء منها لإطلاق خطة التغيير الطموحة، إذ يركز الاقتصاد النسوي الزراعي على إدماج النساء في هذا القطاع ليس كعاملات فقط، بل كصاحبات قرار يمتلكن السيطرة على الموارد والإنتاج. وهذا يعني توفير دعم للنساء لامتلاك الأرض الزراعية، وإشاركهن في إدارة الإنتاج والتوزيع والتسويق، بما يمكنهن من إعادة توظيف الأرباح بطريقة تعزز استقلاليتهن الاقتصادية. كما يشمل هذا التحول توفير تقنيات زراعية حديثة تساعد النساء على تحقيق إنتاجية أعلى، إلى جانب تعزيز التعاونيات النسوية الزراعية التي تضمن لهن حقوقاً متساوية في سوق العمل الزراعي.
أما التحدي الأكبر، فهو الاعتراف بعمل المرأة غير المدفوع في المجال الزراعي. ففي كثير من الأحيان، تقوم زوجة مالك الأرض أو المشروع بأدوار محورية، مثل إدارة العمليات اليومية، والتخطيط للمواسم الزراعية، والإشراف على العمال، دون أن يتم الاعتراف بها كصاحبة قرار أو مالكة للمشروع. هذا يعكس الحاجة إلى إصلاحات قانونية واجتماعية تضمن الاعتراف بمساهمة النساء الفعلية في القطاع الزراعي، ومنحهن حقوقًا متساوية في الملكية والاستثمار.
في العديد من الدول، مثل الهند والبرازيل، نجحت مبادرات الاقتصاد النسوي الزراعي في تمكين النساء من خلال منحهن حقوقًا قانونية في امتلاك الأراضي، ودعم مشاريع استثمارية زراعية تقودها النساء. ففي البرازيل، على سبيل المثال، دعمت الحكومة التعاونيات النسائية الزراعية، ما عزز استقلالية النساء الاقتصادية وساهم في تحسين الأمن الغذائي.
إن تحقيق العدالة الجندرية في القطاع الزراعي في روجآفا وشمال شرقي سوريا ليس مجرد مسألة إنصاف للنساء، بل هو خطوة أساسية نحو بناء اقتصاد أكثر استدامة وعدالة. فالاعتراف بدور المرأة في الاقتصاد الزراعي، وتمكينها من امتلاك الأراضي والمشاركة الفعالة في اتخاذ القرارات، سيساهم في تحقيق تحول حقيقي في المشهد الاقتصادي والاجتماعي.
ومع أن الطريق لا يزال مليئاً بالتحديات، إلا أن تبني مفاهيم الاقتصاد النسوي، إلى جانب تعزيز السياسات الداعمة والمبادرات التعاونية، سيمنح النساء الأدوات اللازمة لإعادة رسم ملامح الاقتصاد بطريقة أكثر شمولية وإنصافاً، ليس لهن فقط، بل للمجتمع بأسره.