يوم تُشنق الحريات يحضر السؤال: هل الله يريد منا أن نفكر، أم نطيع فقط؟

ستكون الصورة مظلمة حين يحكم العسكر، حدث ذلك واختبرناه يوم حلّت الثكنة مكان مختبرات الصيدلة، ولحظة بات الرصيف للعسكر لا لعازف البنجيرة، وكان يفتح شهية متسوقي "الحميدية" على أحلام العرائس القادمات من أطراف العاصمة، أما حين يتزاوج حكم العسكر مع أحكام "الديانات" فهنا ستغدو العتمة أكثر عتمة، ومعهما تُخنق الدولة مرتين:
ـ مرة باسم السماء، ومرة باسم عبقرية العسكر، لتستكمل العمامة البسطار، ويتحوّل البلد إلى غرفة للعناية الفائقة بـ "الموتى".
حدث هذا في السودان وليس البشير أبرز الأمثلة، غير أن ما حدث في السودان، كان يمكن اختزاله بـ : حكم عسكري مُغلّف بلباس ديني، انتهى إلى الفشل الاقتصادي، والانقسام الوطني، والقمع الدموي، فكانت النتيجة هي ماتتناقله الشاشات اليوم، وليس ثمة ما هو اكثر فظاعة مما تنقله الصورة.. الصورة التي تنبئنا بأنه، في كل مرة تُدار فيها الدول بقبضة رجل الدين أو جنرالات العسكر، يتعثر المستقبل وتُقمع الحريات ويُختزل الوطن في شعار، أو فتوى، أو نشيد، ولكن، ماذا لو اجتمع الاثنان معًا؟ ماذا لو تحالفت العمامة مع البندقية؟ هل بقي للدولة معنى سوى الخوف؟
في نظام كهذا، لا مكان للشك، ولا حيّز للاختلاف، فكل سؤال مؤجل إلى القيامة، وكل مجادلة تُعد تمرّدًا على الله شخصياً، ليحل الله في عباءة المرشد، وهاهي إيران، مثال معاصر على دولة يحكمها "المرشد الأعلى"، حيث تُصاغ السياسات الكبرى باسم العقيدة، ويُقصى المختلفون حتى داخل البيت الديني نفسه، أما النساء، والملحدون، والليبراليون، وأقليات المعتقد، فلابد أن يأخذوا طريقهم إلى المقصلة.
اقرأ أيضاً:
ما بعد اللفافة الأولى.. لحظة تداهمك "الحكمة"، يعني "سلامات".. هنا نهايتك
الخطر الأكبر يكمن حين يتواطأ الحاكم باسم الله، مع الحاكم باسم البندقية، وقد تذهب سوريا نحو هذا المصير لحظة يتبادل الجنرالات والفقهاء الأدوار في دولة ترفع راية السماء لتكون :"الدولة المقدّسة"، "المحصّنة من النقد"، وسط جمهورية "خوف" يصفّق لها جمهور خائف.
ـ حين تجتمع العمامة مع البسطار:
في مسارات التاريخ، قلّما خرجت دولة سالمة حين تولى أمرها إمّا رجال الدين أو العسكر، والأسوأ، حين يجتمع الاثنان في قبضة واحدة، معها تتحول الدولة إلى ساحة مقفلة بين فم يحرّم النقد وبسطار يكمّم الأفواه
فما مصير الأوطان عندما تُختصر في عمامة أو بزة عسكرية؟ وماذا تقول لنا تجارب التاريخ والحاضر؟
حين يتربع الدين على رأس الحكم، لا يعود المواطن متساويًا مع غيره، بل يصير محسوبًا على درجة قربه من العقيدة الرسمية، تتقلص الحريات تحت ذريعة "الثوابت"، ويُجرّم الفكر المخالف بوصمة "الزندقة" أو "الردة"،
وهاهي إيران تمنحنا المثل، فمنذ 1979، تُدار الدولة عبر منظومة دينية مغلقة، يعلو فيها صوت "الولي الفقيه" على كل السلطات.. كل نقد يُرمى بالخيانة، وكل طموح نحو التحرر يُقابل بالقمع، كما يحدث اليوم مع النساء والمثقفين والمحتجين، أما الحرية فلابد مؤجلة إلى إشعار آخر (إشعار لايأتي)، والسياسة شأن محظور على غير أهل الضبط والربط، مصيرها بعد الإمساك بمفاصل الدولة، أن تتراجع السياسة إلى الصفر، والإعلام إلى أداة للدعاية، والمعارضون بين المنافي والسجون، وبالنتيجة تسجن الدولة نفسها بين فقيه وجنرال، لن تُرزق مستقبلًا، بل ذكريات مريرة.
في مسارات التاريخ الحديث، لم تنجُ دولة من الانهيار حين تسلّم زمامها رجال الدين، أو أمسكت بخيوطها قبضة العسكر، ولكن الكارثة الأعظم حين يتحالف الطرفان معًا: يُحكم الشعب باسم الإله، ويُقمع باسم الوطن، وتُخنق الدولة بين فم يحرّم النقد وصوت يكمّم الأفواه، وحين تتعارض الحرية مع الفتوى، تُشنق الحرية علنًا.
تحالفهما لن ينتج إلاّ أسوأ المصائر: رجل الدين يمنح الشرعية، ورجل العسكر يُنفّذ، والنتيجة: قمع مضاعف، وخطاب شمولي، وشعب محاصر بين نارين.
حدث هذا في باكستان أيضًا، تعاقب الجنرالات على الحكم، غالبًا تحت راية "حماية الإسلام"، ما تسبب في عسكرة المجتمع وتصاعد التطرف، وكذا الحال في أفغانستان:
ـ العسكر بلحاهم الشعثة وأثوابهم الممددة حتى الركبة، لا يرون الدولة إلا كما خارطة العمليات: أوامر، تنفيذ، صمت..لا مكان للمساءلة، ولا للمجتمع المدني، بل سلطة رأسية تسير بالمراسيم، والرجم.
وحدث في ميانمار يوم أطاح العسكر بالديمقراطية الوليدة، وقادوا البلاد إلى الخراب، وستبقى التجربة السودانية ماثلة أمام أعيننا، فتلك هي السودان، وكان "الطيب صالح" صاحب موسم الهجرة إلى الشمال قد اكتشف مبكّراً ذلك الاغتراب الفظيع ما بين الجذور والمآل.
ـ فما الذي حدث للسودان؟
ـ جاء البشير بانقلاب عسكري، ثم غلّفه برداء إسلامي، ومن بعدها كان على السودان أن يغدو ساحة للفساد ومن ثم الحروب الأهلية، ومنها إلى العزلة الدولية، ومن كل هذا التراكم إلى انفصال الجنوب.
السودان، إيران، أفغانستان، وسواها، ما الذي يجمعها؟
ما يجمع كل هذه التجارب هو انكماش السياسة، واحتضار المجتمع المدني، وتحول المواطن إلى "رعية"..
يتبدّد التنوع، وتُمحى المعارضة، وتُفبرك الشرعية، وفي النهاية، تنهار الدولة من الداخل، إما بانقلاب جديد، أو بانفجار شعبي، أو بانقسام جغرافي.
وحين تُختصر الدولة في رجل دين أو جنرال، أو كليهما معًا، فالمستقبل لا يكون إلا ظلامًا.
ليس هذا حال الشرق وحده، ثمة من سبقنا بقرون، فيوم تولّى "قسطنطين" قيصر الدولة الرومانية، روما ( وهو مؤسس استنبول)، لم يكن فقط قائدًا عسكريًا، بل أول إمبراطور يتبنى المسيحية دينًا رسميًا، ويحوّلها من دين مضطَهَد إلى ذراع للشرعية السياسية، منذ تلك اللحظة، بدأت الكنيسة تلعب دورًا سياسيًا، وتحالفت مع الدولة، فتحولت رويدًا إلى سلطة زمنية، تؤيد الإمبراطور وتُقيد المعارضة، فكان هذا التزاوج بين المعبد والعرش، ما مهد لاحقًا لعصور الظلام في أوروبا.
ـ البابا يمنح الملوك "الحق الإلهي" في الحكم.
ـ الكنيسة تحاكم العلماء وتفرض رقابة على التفكير، فمن خرج عن رأيها أُحرق، كما حدث مع جاليليو، ليكون حاله كما حال "الحلاّج"، مفعماً بالرمزية، مصلوباً ومقطعاً لأنه :"زنديق".
غير أنهم ثاروا على الكنيسة (وأعني أوروبا)، وثورة الناس على سلطة الكنيسة لم تكن لحظة واحدة، بل مسار طويل من الوعي والتمرد والمعاناة الفكرية، بدأ تدريجيًا وتراكم عبر قرون حتى انفجر في محطات مفصلية.
ـ في العصور الوسطى، كانت الكنيسة الكاثوليكية تهيمن على التعليم، الفلسفة، وتفسير الوجود، لكن مع تراكم الأسئلة العقلية، بدأ الصدام، ذلك أن الفكر لا يُحبَس طويلًا.
الشرارة جاءت من مارتن لوثر في ألمانيا (1517)، حين علّق 95 أطروحة على باب الكنيسة احتجاجًا على بيع صكوك الغفران، وما فعله لوثر لم يكن فقط اعتراضًا لاهوتيًا، بل ثورة على:
ـ احتكار الكنيسة للخلاص، واستغلالها المالي للناس، وسلطتها فوق القانون، ليترافق كل ذلك مع ثورة علمية تريد دولة لا كنيسة، وتطمح إلى سحب شرعية الحكم من "الحق الإلهي" إلى "إرادة الناس"، ومن ثم لتأتي كومونة باريس فتنهي في ضربة واحدة، قروناً من الدمج بين المذبح والعرش.. بين الله والتراب.
ـ و.. لتنتهي معها قرون من الدمج بين المذبح والعرش.
معها بدأ سؤال المؤمنين:
ـ هل الله يريد منا أن نفكر، أم نطيع فقط؟
كان هذا سؤال المؤمنين، ومنه، بدأ التصدع داخل الكنيسة قبل أن ينهار جدارها من الخارج.
تحالف الدين والعسكر دائمًا ما يكون له عواقب وخيمة على تطور المجتمع والناس، ففي حين أن الدين يمكن أن يكون مصدرًا للإلهام والتوجيه الروحي، إلا أن دمجه مع القوة العسكرية يؤدي إلى تهميش الإنسان وحرياته،
وإذا أضفنا إلى ذلك محاولات العقل والفكر لإزاحة هذه الهيمنة، مثلما حاول توما الأكويني، نرى كيف أن الانفتاح على التفكير العقلي والنقدي هو الطريق الوحيد لتفكيك هذا التحالف القمعي.
السلطة التي تجمع بين الدين والعسكر تخدم مصالح أقلية تحت غطاء من "الشرعية"، لكنها لا تلبث أن تزرع بذور الفوضى والتفكك داخل الدولة نفسها.
واليوم، وفي ظل "الجنرال حداثة"، وفق مصطلح العزيز الراحل "العفيف الأخضر"، ما الذي يتوجب على المؤمنين؟ المؤمنون المسلمون؟
هو السؤال إياه.
ـ هل الله يريد منا أن نفكّر، أم نطيع؟
إذا أجابوا عن هذا السؤال فقد نخرج من عتمة ما ينتظرنا.
عتمة حروب الأزقة، والقتل باسم الله.