في وداع "الكافر"

لم نسألهم، قهرمانات السياسة، إلى أين يمضي بنا "هذا القارب الذي بمئة شراع"، (وكان قد وصفه لنا "ناظم حكمت على ذاك النحو)، بل كنا نسأل زياد:
ـ كان ذلك بحضور "جوزيف صقر"، وبضيافة "مازن علوش"، طبيب الأسنان الذي رتّب ذات يوم أسنان "كارلوس الثعلب"، القادم من فنزويلا ليحرر فلسطين، وهو من يجيد لغات ست من بينها الأرمنية، وهو اللصيق بصديق درب الأممية الخامسة "آغوب أغوبيان" كما "غنوة بوتو"، وهو رفيق "زياد"، وبيت "مازن" المحطة، إن أضاع جوزيف مفتاحها، يستلقي على درج البناء ريثما يصل "مازن" ليعانقه ويفتح له الباب.
ـ هناك كان لزياد محطة أيضاً، وكان:
ـ الصوت الذي نخشاه.
الصوت الذي كنّا نخشاه، ونحبّه، الصوت الذي يقول للناس ما لا يجرؤون على قوله، ثم يعزف ما لا يستطيعون البوح به.. هو الذي قدّم لنا فيروز أخرى، لا تشبه "زهرة المدائن" وحدها، بل تشبه بيروت الحزينة بعد الحرب، بيروت التي تشرب القهوة على عجل، وتنسى أسماء قتلاها كي لا تموت أكثر، هو من جعل صوتها يقول: "بلا ولا شي" و"كيفك إنتَ"، ويجعلنا نحبّها أكثر، لأنّها تشبهنا أكثر.
لكنّ زياد لم يكن وحده في هذا التحوّل، كان إلى جانبه جوزيف صقر، الذي لم يأتِ من معهد كونسرفتوار، بل من الشارع، من فم النادل، من وجه العامل البسيط، من حنجرة رجل عادي يئنّ من قهرٍ لا يعرف كيف يُعرّفه.
جوزيف كان الوجه الآخر لزياد: لا يصلّي، لكنه يعرف كيف يبتهل.. لا يرقص، لكنه يغنّي بوجعِ من يرقص كي لا يبكي، وحين يغني "عودك رنان"، لا تعود الأغنية خفيفة كما تبدو، بل تصير حكاية كاملة عن البهجة الهاربة من يوميات تعيسة.
معاً، زياد وجوزيف، كانا يشبهان ثنائيات القدر: المتشائل والناقم، الشاعر والمتمرّد، الأبكم والصارخ.
لا يمكن أن تسمع مسرحيات زياد من دون أن تقف عند جوزيف، تمامًا كما لا يمكنك أن تحبّ زياد دون أن تعترف أنه لولاه لما خرجت مدرسة الرحابنة من قصرها العالي إلى زواريب بيروت، إلى الكاراج، والمقهى الشعبي، والغرفة المفروشة بالديون.
لقد غيّر زياد الرحباني ملامح المدرسة الرحبانية، ليس لينقضها، بل ليكملها.. حمل تراث عاصي ومنصور كما يحمل الابن ميراث الأب، لكنه لم يرتّله... بل قرأه بعين الجيل الذي يعرف أن العالم تغير، كأنّه قال: "شكراً على الحلم، لكننا نحتاج الآن إلى ضجيج الواقع".
صارت الموسيقى عنده أكثر زهداً، أقلّ زخرفة، فيها بوق وصراخ وارتجال، فيها هفوات محبّبة، وكلمات تُقال كيفما اتفق، لكنها في مجملها تقول الحقيقة أكثر من خطب الزعماء، فكانت "عودك رنان" تحديداً، الشرارة التي قلبت مفهوم الأغنية الرحبانية من قصيدة مدهشة إلى مشهد حيّ، من جبلٍ غنائيّ إلى سطح بيتٍ شعبيّ، من النقاء الأسطوري إلى الحميمية الملوثة بالحياة.
لم يكن سهلاً أن تحبّ زياد، فقد كان يجرحك بذكاء، يضحكك ثم يبصق في وجهك إن لزم الأمر.. كان رقيقاً كطفل، وساخراً كمُحبّ خذلته الحياة، وكان يعرف، في قرارة نفسه، أنه يُطفئ النور ليرينا أوضح.
اقرأ أيضاً:
هو الابن المشاكس في أكثر معاني الكلمة عمقاً، لا ناكراً لفضل أمّه، بل محاوراً لها، مفككاً لصورتها المسبقة، وراسماً لها صورة جديدة في عمر جديد، حين جعلها تغني "أنا لحبيبي" بأسلوبه، لم يكن يمسّ برمزيتها، بل كان يمنحها عمراً جديداً، ويمنحنا فيروزاً نستطيع أن نحبّها ونحن كبار، لا فقط ونحن أطفال.
وهو أيضاً، لم يكن سهلاً أن يكون ابناً لها.. لم يكن سهلاً أن تكون فيروز أمك، وأن يُطلب منك أن لا تفشل أبداً، فاختار أن يفشل على طريقته.. أن لا يكون كاملاً، بل صادقاً.
اليوم، صحّت الأنباء، وهذه فيروز في شيخوختها ستفقد صوتاً لم يكن مجرد ابن، بل كان ظلّها حين غابت، وسلاحها حين سكتت.
ـ ماذا يعني أن يغيب زياد؟ أن يُطفأ المصباح الوحيد الذي بقي على مائدة العائلة الفنية التي كوّنت وعينا؟
ـ ماذا يعني أن تُترَك فيروز وحدها، دون من يكتب لها العتابا، ويغني عنها الحنين؟
لا نعرف كيف ستستقبل غيابه، لكننا نعرف أنها ستفقد ما لا يُقال، فالموت ليس فقط انقطاعاً بيولوجياً، بل انقطاعٌ في صلةٍ خفية، وزياد، كان صلة بين صوتها وبين وجداننا، بين الطفولة والنضج، بين الحلم والخذلان.
الرحابنة كتبوا لنا الطفولة، كتبوا لبنان الحلم، أما زياد فكتب لنا البلوغ القاسي، كتب عن وطن لا يعفو، عن نظام لا يخجل، عن حب لا يكتمل، عن حياة يشبهها الموت أحياناً أكثر من الحياة.
ـ قد تكون موسيقاه أقل طرباً، لكنها أكثر صدقاً.
ـ قد تكون كلماته أكثر بذاءة، لكنها أكثر حرية.
ـ قد يكون خطابه فظاً، لكنه أكثر قرباً من الجرح.
ـ اليوم لا نرثي موسيقياً، بل نرثي مرحلة.
ـ زياد لم يكن فناناً فقط، بل حالة عصيّة على التصنيف.
ـ كان مقاتلاً غير مسلّح، يسكر ليقول الحقيقة، ويضحك ليخفي الانكسار.
ـ كان مؤمناً لكنه كافر، شيوعياً لكنه متصوف، ثورياً لكنه لا يثق بالثورة، ساخراً لكنه يحترق في العمق.
ـ لم يدّعِ الحكمة.. فقط قال لنا:
."أنا مش كافر، بس الجوع كافر، والذل كافر"
وداعاً زياد
أنت الذي جعلتنا نغنّي ونحن نبكي، ونضحك ونحن نعرف أن كل شيء ذاهب.
وداعاً أيها العازف على خراب نفوسنا، أيها الراوي الذي لم يكذب يوماً، حتى وهو يهذي.