شهادة شيخ من "عُقّال" السويداء

ستة وثمانون؟ سبعة وثمانون؟
لا أدري. توقّفت عن عدّ السنوات.
بعد الثمانين، تغدو السنة مثل أختها… لا تزيد ولا تنقص.
لكنني أؤكّد: قد قطعتُ السادسة والثمانين، وأسير نحو التسعين.
لم يخذلني جسدي. ما زلتُ أتنقّل وأخدم نفسي.
من خذلني هم من يسمون أنفسهم "حمَاة الوطن".
قد تمرّ بك في حياتك مرة تُهدَّد فيها بالسلاح، وقد لا تمرّ أبدًا.
أما أن تكون الثالثة… الثالثة التي تُهدَّد فيها روحك بالإزهاق على يد من يُفترض أنهم "الحمَاة"، فهذا أنا.
نعم، أنا الذي يقول: كانت الثالثة. لكن الثالثة أيضًا… لم تكن ثابتة.
الأولى؟ كانت بسبب بقراتي.
دخلتْ أرض أحد الجيران، بينما كانت ابنتي ترعاها.
ذهبتُ لأعتذر، كما يفعل الرجال. استقبلني هو وأولاده، وقد اختبأوا في غرفة وسط الحقل.
بدأوا يرشقونني بالحجارة حتى غطّى الدم وجهي، من شدة الضربات.
تأخّرتُ في العودة، فجاءت زوجتي مع أخيها يبحثان عني.
قالوا لهما:
"هو عندنا، ولن نُطلق سراحه إلا إذا تعهّد بالتنازل عن حقه، وتوقّف عن تقديم الشكوى. وإلا… سنجهز عليه."
حتى في هذه اللحظة، كان خصمي يراهن على أخلاقي. يعرف أني إن أعطيته عهدًا، فلن أخلفه.
ما أبشع أن يكون اتكاء خصمك على أخلاقك… وقلة أخلاقه.
الثانية؟ في الحقل أيضًا.
هجم عليّ قريب بعيد، رافعاً المنجل في وجهي.
كان يراني أنافسه على مكانته، لأن أقاربه اجتمعوا عندي، لننطلق من منزلي، يوم عزاء أحد أقربائهم، لا عنده.
وجد الفرصة مناسبة جدًا عندما كنت وحدي أعزل إلا من منجلٍ أحصد فيه الزرع.
كان يحمحم كحصان هائج، ولولا القوة التي منحني إياها الله، لما بقيت حياً يومها.
اقرأ أيضاً:
أما الثالثة… فكانت مختلفة.
خصمي لم يكن جاراً، ولا قريباً، بل من يُفترَض أنهم "حمَاة الوطن" أنفسهم.
في حرب أسموها "فض النزاع بين البدو والموحدين"، دخلوا بيتنا كما بيوت المدنيين العزل الآخرين.
طرقوا الباب بعنف، فأجبت بطريقة الموحد المعروفة بالترحيب بالضيوف: "تفضل."
نهضت أتكئ على عكازي، وبحسبب حركتي البطيئة رآني تأخرت.
– هل تفتح لنا أم ندخل غصباً عنك؟
– إذا كنت تريد أن تدخل ضيفاً فأهلا وسهلاً بك. أما أن تدخل غصباً عني، فهذا لن يحدث.
كانوا اثنين، مجند يبدو حديث العهد بالخدمة، ومعه رئيسه.
اقترب الرئيس مني، وصار يحرك فوهة البندقية في شعرات لحيتي:
– ما هذه اللحية يا شيخ؟ يبدو أنك شيخ عشيرة، لابد أنك تخبئ في بيتك الكثير من الذهب، لابد أن تدّكّن لشيخوختك.
– البيت أمامكم، بإمكانكم أن تفتشوا.
"كان أبنائي قد دفنوا ما نملكه في البستان، والآن أرى سخافة كل ما نملك أمام رعبي على عائلتي الواقفة مواجهة لبندقيتهم. لم أكن خائفاً على نفسي؛ فأنا أعلم أن وقتي على الارض قارب الانتهاء، وانا منذ زمن طويل صرت أعيش نصف حياتي هنا، والنصف الآخر يهرب مني إلى العالم الآخر منتظرا الساعة التي سانتقل فيها، يبدو هذا واضحً في عيني الزائغتين. لكن ما كان يرعبني وجود حفيدي مع صديقه اللذين اختبأ في المطبخ، ونحن ندرك أنهم لو استطاعوا أن يصلوا إليهما لما تركوا أنفاسهما تصعد وتهبط."
رفع الجندي الأغراض بتأنٍّ يوحي بأنه ابن بيت، وليس من أبناء جهاد النكاح الذين لا يعرفون بيتاً ولا تربية. لم ينزل أي غرض إلى الأرض. كان الصغير هو من يفتش، بينما الكبير يستمر باستجوابي:
– من هو الهِجري؟
– شيخ العقل.
– تبرّأ منه.
– لن أتبرّأ.
– سبَّه.
– لن أسبَّه.
– إذن، أنت معه؟
– لستُ مع أحد. هذا شيخ طائفتي… لكنني لست مع أحد.
اقترب مني أكثر، رفع البندقية، ثم غرس فوهتها في ظهري بتلقائية باردة، دون حتى كلمة تحذير.
حين فعل، ركضت ابنتي، ووضعت جسدها بيني وبين فوهة الموت. ظهرها تلقّى الضربة بدلًا عني.
أشفقت على سنواتي التي لم يشفق عليها أولئك "الحمَاة".
حتى زوجتي، الخارجة من عملية ترميم أوردة كادت تؤدي لبتر رجلها، نهضت بخفة طفلة، لتردف ابنتي.
هل هي يد القدر التي أنقذتني في المرتين السابقتين؟ ربما.
لكن هذه المرة، كان الرصاص أقرب. انفجر في الخارج، جاء مع صرخة ابنتي بصوت كالزئير، حتى هي لم تعرفه: إن كان لا بد فاقتلني مكانه.
ربما كان الرصاص مقصودًا لتشتيت انتباههم، حيث رآهم الجيران وهم يدخلون البيت.
كان قويًا بما يكفي ليجعل المسلّحين يلتفتان.
وعندما سُمِع صوت الرصاص وصراخ النساء، علا الصوت من السيارة:
– انصرف، يا مجاهد.
انصرف الرئيس بعد أن أمر الجندي:
– صفيه بسرعة.
نظرت إلى المجند بثبات، وقلت:
– إن كنت زلمة صفيني.
لم يستطع مواجهة عيني. أعرف أن نظرة المؤمن ثابتة، لا يمكن أن يقف أمامها رجل خائف، فكيف إن كانت من شيخ يبدو في عينيه الزهد في الحياة بخلاف أنني بعمر جده؟
كانت عناية الله حاضرة. أخفض بندقيته ومضى خلف رئيسه، فالتحقا بفرقتهم.
حين هدأ الصوت، خرجت ابنتي لترى. وجدوا سيارتهم مفتوحة عند الباب. هربوا جميعاً، وتركوا خلفهم الرعب… رعباً مفتوحاً على كل الاحتمالات.
اليوم… بعد ثلاثة شهور على الهجوم واستمرار الحصار، أنظر للخلف. كم أحاطت بنا معجزات الله، حتى نجونا، بعد هجوم مسلح ثلاث مرات على البيت، واختطاف ابني وتعذيبه وإصابته، ثم تصدّيه لهجوم على المنزل، حيث تبادل إطلاق النار مع المسلحين، وجُرح من جديد. كل هذا مر، وبقيت عائلتنا كاملة.
لكنني أعلم أن هلعاً من نوع آخر عشش في صدري، وربما لن يفارقني قبل موتي.
بعد انتهاء الهجوم بأيام، جاءت ابنتي صباحاً، لتجدني أجلس في تختي. سألتني:
– تبدو متعباً، هل كان نومك سيّئاً؟
ابنتي هذه التي تعاملني كأيقونة، افتدتني بظهرها الأعزل أمام فوهة البندقية… وكم شعرتُ بالعار من الاعتراف بضعف شيخوختي هكذا، لأطلب من امرأة حمايتي، فقلت:
– لقد سمعت صوت دربكة في الخارج، وخفت أن يكونوا قد عادوا. وأنا كما تعرفين، حتى لو كانت البندقية بجانبي، أصابعي وبطء حركتي لن تمكناني من استخدامها.
اقترحت أن تأتي لتنام معنا، أنا وأمها في الغرفة. لم أمانع، واستمر ذلك لشهرين، رغم اقتراح أمها أكثر من مرة أن تعود لتنام في غرفتها لترتاح، لكنني بقيتُ صامتاً. ففهمت صمتي ولم تغادر، حتى هدأت الأمور قليلاً، وصارت أصوات الضرب الليلي، بعد شهرين، أبعد قليلاً عن منزلنا.
أما الهلع الذي يختزنه صدري، فهو ينفلت في لحظات ضعفي. فعندما ذهبتُ لزيارة أقاربي في قرية جبلية عالية، هاجمني البرد في نقطة ضعفي، حيث أصبتُ بذات الرئة منذ سنوات. غبت عن الوعي مصاباً بجلطة للمرة الرابعة، وبعد أن أسعفوني، وصحوت من غيبوبتي، عدت للمنزل، ونمت لأرتاح.
أنا الذي اعتادوا أن يسمعوا هذياني برسائل الحكمة الشريفة فقط، سمعوا اليوم صوت خوفي.
عندما رأيت نفسي في "المزرعة"، بلدة انطلاق الهجوم، في غرفة أرضها مغطاة بالدماء، أيقظني أبنائي من نومي، لأنهم خافوا عندما سمعوني أقول:
– لقد كانوا كثيرين هنا، والدم كثير… كثير جدًا…
ولكن رجالنا صدوهم قبل أن يصلوا إلينا.
بتُّ ألامس ضعفي بانكسار… لا أستطيع له مقاومة إلا بالعجز. خاصة حينما أذكر موقفًا في أيام الهجوم: كانت أرجلنا قد تخدرت أنا وزوجتي، فطلبت من ابنتي أن تأخذنا إلى مكان آخر من البيت.
عندما يكون لك طفل وتكون خائفاً، ببساطة، تحمله وتركض. ولكن عندما يكون الوضع مثل وضعنا أنا وزوجتي، كيف ستتصرف ابنتي؟ كان لا بد أن تمشي ببطء لتساير خطواتنا.
وعندما وصلنا إلى المكان المقصود، وحانت مني التفاتة إلى البستان، أدركت الخطر الذي وضعت أسرتي فيه.
ولا أدري كيف تدخلت عناية الله هنا أيضاً. فلم يرنا المسلحون الذين كانوا يتجولون في البستان، أو أنهم رأونا وغضوا النظر.
مهما تقدمت في العمر، ربما حتى ساعة رحيلك، تذهلك الدنيا باختباراتها، لترى نفسك تبدأ بفصل جديد… كلما ظننت أنك في عمرك وتجربتك لم تعد تحتاج المزيد.