info@suwar-magazine.org

العلاقة بين الفكر والسحر

العلاقة بين الفكر والسحر
Whatsapp
Facebook Share

نارت عبد الكريم

 

السحرُ والوهم، العلمُ والحقيقة، متناقضان أمْ متلازمان؟ أيهما الأسبق؟ أيهما الأنفع للإنسان، السحرُ والوهمُ أم العلمُ والحقيقة؟ وهل انتهى زمن الإيمان بالسحر أمْ ما زالَ قابعاً في زاويةٍ ما من عقولنا ونفوسنا؟ أين يمكن تلمُّسُ آثاره في هذا العصر؟ وهل الإيمان بالعلم يعني انتفاء الإيمان بالسحر؟

لا يختلف اثنان على أنَّ الإنسانَ لم يخلق العالم. فقد ظهرَ الإنسانُ ليجدَ نفسهُ وجهاً لوجهٍ أمام عالمٍ مُعدٍّ سلفاً ومُنجز. ليجدَ نفسه أمام الغامض والمجهول والمرعب.

 من هنا بدأتْ رحلةُ الإنسان ومأساته أيضاً. حيث الإحساسُ بالعجزِ والدونيةِ والجهل تجاه القوى التي تترصده. أولاً أرادَ الإنسان المحافظة على حياته، ومن ثمَّ أرادَ أنْ يسودَ ويسيطرَ ويتحكّم. ولكن كيف له ذلك؟ كيف كانت البدايات؟

إنَّ الحاجة المُلحّة إلى السيطرة على خوفه وجهله، ومن ثمّ تمكينه من مواجهة الواقع والتعامل معه، دفعتِ الإنسان إلى خلق نمط تفكيره الأوّل القائم على الإيمان بالأرواح وقوّتها، والقدرة على التواصل معها. ولتحقيق هذا التواصل ظهرَ السحرُ. يُطلق فرويد على هذا النمط من التفكير "نمط التفكير الإحيائيّ - الميثولوجيّ".

تمكن تسمية هذه المرحلة بطفولة البشرية، حين سادَ السحرُ والإيمانُ بالأرواح. وهنا كانت المقدّمات التي قامتْ عليها الأسطورة والدين لاحقاً.

لكن ماذا عن طفولة الفرد؟ ماذا عن مراحل تطوّر وعيه؟ إذ يرى الكثيرون أنَّ هناك تشابهاً كبيراً بين مراحل تطوّر وعي البشرية ومراحل تطوّر وعي الفرد.

انطلاقاً من هذا التشابه أطرح السؤال التالي: هل هناك اعتمادٌ على السحر في طفولة الفرد؟ هل تحوّلَ هذا الاعتماد إلى إيمانٍ لا يتزعزع؟

على فرض أنَّ الجواب كان نعم، فكيف نشأ وتجلى؟ ما مصيره لاحقاً مع تقدّم العمر والخروج من الطفولة؟ هل اضمحلَّ هذا الاعتمادُ على السحر وتساقطَ كما تتساقطُ الأسنان اللبَنيّة؛ أمْ أنه ما زالَ حياً فينا، يقبعُ متوارياً في زاويةٍ ما؟

مشاهد كثيرةٌ كانت تعرضها علينا الفضائيات لحشودٍ غاضبةٍ تقوم بإحراقِ العلم الأمريكيّ أو الإسرائيليّ، وما يتبع ذلك من صرخات النصر والابتهاج والفرح، وكأنه نصرٌ حقيقيٌّ. المشاعرُ هنا حقيقيةٌ لكن الفعل مزيف، فلماذا هذا الترابط؟

بالعودة إلى ما تقدّم يمكن القول إنَّ الطفلَ البشريّ عند الولادة لا يحتاج إلى بذلِ أيّ جهدٍ للحصول على ما يريد. لاحقاً يبدأ باستخدام تقنية الصراخ والبكاء ليحققَ رغباته. وعندما يتعلم الكلام يعبّر عن رغباته باستخدام هذه الوسيلة الجديدة أيضاً، دون أنْ يتخلى عن الوسائل السابقة. يُطلق "ساندور فورنزي" على هذه المرحلة اسم مرحلة الأفكار والكلمات السحرية. فالطفلُ لا يقوم بأيّ مجهودٍ عمليٍّ لتلبية حاجاته، يكفي أنْ يقول ما يريد حتى يتكفل الوالدان بذلك -مصباح علاء الدين السحريّ- فيحدثُ ترابطٌ آليٌّ في ذهن الطفل بين الكلمة والرغبة، من جهةٍ، وبين الإنجاز وتحقيق الهدف، من جهةٍ أخرى، دون المرور بصيرورة الفعل والعمل.

إنَّ شكلَ العلاقة في مجتمعاتنا بين الإنسان، من جهةٍ، والمعرفة، من جهةٍ أخرى، مُريبٌ. مما يدعو إلى التأمل والبحث والتساؤل؛ هل هذه العلاقة سليمةٌ أمْ أنها علاقةٌ تعويضيةٌ تُخفي عيوباً لا حصر لها؟ تخفي تحتها حاجاتٍ وأوهاماً طفوليةً لم تتساقط مع الزمن؟

هل تحوّلَ العلمُ إلى أداةٍ لتحقيق أوهام الطفولة بالقفز فوق الواقع، أمْ أنَّ العلمَ ساعدَ الإنسان على تجاوز الحاجة إلى هذه الأوهام والتخلي عن إيمانه بالسحر؟

قيل سابقاً: العلمُ نورٌ والجهلُ ظلام. لكن الواقعَ العربيّ كان، وما زال، يسيرُ إلى غير ذلك، رغم ازدياد عدد المتعلمين، وانتشار المدارس والجامعات ووسائل الاتصال الحديثة. إنَّ الاتكاءَ، غير الواعي، على الترابط المزيف بين الرغبة والواقع، يمكن تلمّسه لدى الأمّيّ الجاهل ولدى المتعلم، لدى الطبقات الدنيا ولدى الطبقات العليا، وحتى لدى النخب المثقفة التي تحمل لواء التغيير والإصلاح.

يشير إريك فروم إلى هذا الترابط الموجود في مستوياتٍ أعلى بقوله: إنَّ فيتشية الكلمات في مجال السياسة خطيرةٌ خطورتََها في مجال الإيديولوجية الدينية. يجب على المرء أنْ يرى الكلمات وهي مرتبطةٌ بأفعال أولئك الذين ينطقون بها، ومرتبطةٌ بكامل شخصيتهم، فليس للكلمات معنى إلاَّ بالسياق العام للعمل والطبع. وحين لا تشكّل هذه العوامل أية وحدةٍ منسجمةٍ فلا تفيدُ إلاَّ في أنْ تخدعَ نفسها وتخدعَ الآخر، وبدلاً من أنْ تكشفَ الحقيقة تخفيها.

فالنصوصُ والأفكارُ التي لا يتمّ تَمثُّلها في النفوس، ومن ثمّ في السلوك، ما هي إلاَّ ألعابٌ فكرية، أبنيةٌ وهميةٌ تعطي انطباعاً مزيفاً بالتغيير والتحرّر، وتشبه، إلى حدٍّ ما، مصّ الطفل لإصبعه بديلاً عن الثدي المفقود.

ربَّ قائلٍ سيقول: لماذا هذا الإيمان بالسحر ونحن في عصر الحداثة وما بعدها، في عصر ثورة المعلومات والتقانة والاتصالات؟

يُجِيبُ إيريش نيومان: إنَّ المرحلة المبكّرة من تاريخ الجنس البشريّ، والمرحلة الأمومية، ليسا كينونةً آثاريةً أو تاريخية، بل حقائق نفسية ما زالت قوّتهما المصيرية حيةً تعيشُ في نفس الإنسان الحاضر.

ففي الماضي كانت هناك وسائل وأدواتٌ يعتمدها السحرة والمشعوذون للتسلح بالقوّة المطلقة والسيطرة على الواقع. وفي هذا العصر فإن الحاجة إلى القوّة المطلقة واليقين المتين هي ما دفع الكثيرين إلى إضفاء الكمال على عقائدهم ونظرياتهم، فأصبحت الفكرة المطلقة الصحيحة هي بديل عصا الساحر، ما إنْ تُوضع موضع التطبيق حتى يتحقق كلّ المراد. ويتجلى ذلك في المبالغة في تقدير الأفكار على حساب الواقع.

إنَّ إسباغَ القوّة المطلقة والكمال على أشخاصٍ، أو على رموزٍ خارجيةٍ، أو على الأفكار، يدلّ على وجود بحثٍ مضنٍ عند الإنسان عن الحماية والأمان، ناجمٍ أساساً عن إحساسه بالعجز والدونية. فاليقين التامّ، كالجهل، أمانٌ وطمأنينة. وهي حالةٌ يعيشها الطفل نظراً لعجزه وضعفه الموضوعيّ. لكن، ماذا يعني أنْ تستمرَّ هذه الحالة إلى سنّ البلوغ وما تلاه فتحكم علاقة الإنسان بنفسه وبالعالم المحيط؟

إنَّ ترديدَ الأفكار وتناقلها لا يعني أننا نفكر؛ فالفكرُ الذي لا يساعدنا على أنْ نُخرجَ شيئاً من الظلمة إلى النور، من المجهول إلى المعلوم، ليس إلاَّ تضخماً في العقل، ورمٌ يجب استئصاله. لأنَّ المعرفةَ ليست غايةً في حدّ ذاتها. والفكرُ الذي لا يساعدنا على تفكيك أصنامنا، دون الحاجة إلى خلق أصنامٍ وأوهامٍ جديدةٍ -كالعقائد الوضعية الشمولية التي حاولت تفسير العالم كله من خلال زاويةٍ واحدةٍ، كما كان الإنسان البدائيّ يفعل في طور الأرواحية- ما هو إلاَّ دورانٌ في حلقةٍ مفرغة.

يُطلق إريك فروم على هذه الحالة اسم "الفكرَّنة"، أيّ استبدال الفكر والكلمات بالواقع والتجربة المُعاشة..

إنَّ استقامةَ المعرفة تكافئُ إدراك الذات والواقع كما هما، وليس كما نحبّ، مهما يكن ذلك أليماً. يشيرُ بيير داكو إلى ذلك الخلل بقوله: أنْ ينزلقَ المرءُ نحو مجرّداتٍ ومفهوماتٍ خاليةٍ من الحياة، فذلك ما يُلحق بالعبث والمرض. إذا كان المرء ينتقل سريعاً بين الأفكار فمن المحتمل أيضاً أن يهرب فيها وأنْ يضيعَ مغموراً بها.

إنَّ نفي الإيمان بالسحر أو بالدين المتوارث، وادّعاء القدرة على التخلي عن طرائق التفكير والعادات السابقة، لا يعني أبداً أننا تخلصنا من تأثيرها. هذا ما عبّرَ عنه يونغ ببلاغةٍ شديدةٍ عندما قال: ليس بمقدورنا أنْ نغيّرَ شيئاً ما لم نقبله. إنَّ الإدانة لا تحرّر بل تكبت.

قد تكون المماثلة بين الفرد والحكومة جائزةً من وجهة نظرٍ ما، إذ تعتقد الكثير من الحكومات بقدرتها على إحداث التغيير من فوق، وكذلك يعتقد الأفراد أنَّ استبدال أفكارهم الجديدة بأفكارٍ قديمةٍ -على المستوى العقليّ- كفيلٌ بتحرّرهم من الماضي.

وليس من مثَلٍ أكثرَ وضوحاً ونصاعةً من فشل جميع الحركات "التحرّرية" والحكومات "التقدّمية" في تحقيق السلام والتقدّم للإنسان في مجتمعاتنا العربية. إنَّ المبالغة في التجريد والفكرَّنة تقود إلى خلق عالمٍ موازٍ للواقع الحقيقيّ. ومن هنا ينشأ الانفصال بين النخبة والمجتمع، بين الفكر والواقع.

إنَّ الإيمانَ بالتغيير السريع (الثورة) والتغيير بقوّة القانون أو العسكر، والتغيير من فوق، أدّى إلى فشلٍ ذريعٍ نتلمّس آثاره واضحةً في مجتمعاتنا العربية، بل نكوصاً نحو الوراء على الصعد كافةً. وليست ثورات الربيع العربيّ بمنأىً عن ذلك، فما زالَ غبار المعركة يحجبُ عنَّا نتائجها.

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard