info@suwar-magazine.org

نظام المشروطيّة المتقاطعة لصندوق النقد والبنك الدوليَّين

نظام المشروطيّة المتقاطعة لصندوق النقد والبنك الدوليَّين
Whatsapp
Facebook Share
 
أحمد إلياس

 

شهد العالم، في مرحلة ما بين الحربين العالميتين، اضطراباتٍ اقتصاديةً وماليةً ونقديةً كبيرة، تمثلت بانهيار النظم الاقتصادية وتدهور شروط التجارة الدولية ومعدّلات البطالة والتضخّم التي وصلت إلى أرقامٍ قياسيةٍ لم يشهد لها العالم مثيلاً، إلى جانب تعثر عمليات الدفع والتسوية وتقلبات أسعار الصرف. وكان من أبرز النتائج الناجمة عن الحرب العالمية الأولى تخلي البلدان عن قاعدة الذهب التي هيمنت على نظام النقد الدوليّ طيلة القرن التاسع عشر، رغم محاولات الرجوع إليها في فترة ما بعد الحرب.

 

وجاءت تجربة الأزمة الاقتصادية العالمية في الثلاثينيات لتكشف مدى الخلل في النظام الاقتصاديّ الدوليّ، نظراً لنقص التعاون والتشاور بين البلدان وتفضيل المصالح الوطنية الضيقة على الصالح الدوليّ العام. إذ لجأت معظم البلدان إلى تخفيض أسعار عملاتها الوطنية، في حربٍ من التخفيضات المتتالية لأجل نيل مكاسب تجاريةٍ تنافسيةٍ واستعادة قدراتها التجارية وزيادة صادراتها إلى أكبر حدٍّ ممكن، إلى جانب اللجوء إلى اتفاقيات الدفع الثنائية.

 

 

 

ونتيجة الحاجة المتزايدة إلى التكاتف والتعاون الدوليّين في المجالات الاقتصادية، اتجهت الجهود الدولية إلى بناء نظامٍ دوليٍّ جديدٍ في المرحلة التالية للحرب العالمية الثانية، بما في ذلك إيجاد قواعد ومؤسّساتٍ تنظّم العلاقات النقدية الدولية وتساعد على تشجيع التجارة الدولية ونموّها. ولم تكد الحرب تضع أوزارها حتى دعت الولايات المتحدة، التي برزت كقوّةٍ اقتصاديةٍ عظمى، إلى مؤتمرٍ نقديٍّ وماليٍّ برعاية الأمم المتحدّة في مدينة بريتون وودز في ولاية نيو هامبشير الأمريكية، لوضع أسس النظام الاقتصاديّ الدوليّ الجديد. وقد حضر المؤتمر ممثلو 44 بلداً، إلا أن نتيجته كانت -بالدرجة الأولى- تعبيراً عن تفاعل العلاقات بين القوى الاقتصادية الكبرى، التقليدية منها والصاعدة. وعنه تمخّض كلٌّ من صندوق النقد والبنك الدوليين.

 

أطلق كينز (الاقتصاديّ الإنكليزيّ الشهير) على صندوق النقد والبنك الدوليين اسم توأمي بريتون وودز. ورغم صحّة هذه التسمية -كونهما نشأا معاً في مكانٍ وزمانٍ واحد- إلا أن العقود الأولى من عمر المنظمتين أثبتت اختلاف مجالات عمل كلٍّ منهما وأنشطته. والحقيقة أن اختصاصات المنظمتين ظلّت منفصلةً في بداية الأمر؛ فقد اختصّ صندوق النقد بقضايا الاقتصاد الكلّيّ وموازين المدفوعات ومشاكل نظام النقد الدوليّ، أما الدور الأصليّ للبنك الدوليّ فكان تقديم القروض للمشاريع الإنمائية، وبذلك اهتمّ البنك، إلى حدٍّ كبيرٍ، بقضايا الاقتصاد الجزئيّ.

 

إلا أنه بمرور الوقت برزت قضايا عديدةٌ تداخلت فيها اختصاصات المنظمتين؛ فإذا كان الصندوق يتمتع بسلطاتٍ واسعةٍ لمناقشة سياسات الاقتصاد الكلّيّ للبلدان الراغبة في الحصول على تسهيلاته، ومن ثمّ مفاوضة هذه البلدان لتغيير سياساتها قبل أن يسمح لها بإجراء سحوباتٍ على موارده، فإن البنك يهتمّ بشكلٍ أساسيٍّ بالجدارة الائتمانية للبلد المقترض، وانعكاس السياسات الاقتصادية الكلّية على عمل المشروعات التي يموّلها. ففي حال كان الأداء الكلّيّ لاقتصاد البلد سيئاً، فإنّ البنك يمتنع عن إقراضه حتى لو كان احتمال نجاح المشروع أكبر من فشله، ما دام الوضع الاقتصاديّ ينبئ عن عدم قدرة البلد المقترض على دفع مستحقاته، وبذلك فإن حاجة البنك إلى تعاون الصندوق كانت أمراً لا مفرَّ منه.

 

ومن هنا بدأ التداخل في اختصاصات المنظمتين، وحدث العديد من المواجهات والانتقادات المتبادلة من إحداهما تجاه تبنّي المنظمة الأخرى سياساتٍ خارجةً عن اختصاصاتها وفق الاتفاقات السابقة بين الطرفين لتجنب التداخل. وعلى الرغم من أن هذا الاصطدام يصوِّر أنّ معركةً شرسةً قد تنشب بين المنظمتين على صعيد الاختصاص، إلا أن الواقع أدّى إلى تلاقي سياساتهما في ظلّ ما يُعرف بنظام المشروطية المتقاطعة cross conditionality ، وهو تقاطعٌ يصل إلى حدّ التكامل الذي يبرز على صعيدين:

الصعيد الأوّل: ويتعلق بالتمويل أو ما يمكن تسميته تبادل الاشتراطات. وقد برز هذا المصطلح بشكلٍ خاصٍّ خلال أزمة القروض الخارجية، ولذلك فإنه يفسَّر غالباً ضمن هذا الإطار. والمقصود بذلك أن عجز البلد المقترض عن الوفاء باشتراطات صندوق النقد لا يخوّله السحب من شرائح قروض البنك الدوليّ. وعلى الرغم من الالتزام الرسميّ من المنظمتين بقاعدة "لا ارتباط تبادلياً للاشتراطات" إلا أن التطبيق العمليّ يخالف هذه التوجه، بحيث يمكن القول: إن استيفاء البلد المقترض لشروط كلّ منظمة يُعدُّ أحد معايير الأداء التي تنطوي عليها برامج المنظمة الأخرى.

 

أما الصعيد الثاني للتكامل بين صندوق النقد والبنك الدوليَّين فيتجلّى في مضمون برامجهما الاقتصادية، فقد أخذ البنك بتقديم قروضٍ جديدةٍ مماثلةٍ لتسهيلات الصندوق عبر قروض التكيُّف الهيكليّ لعام 1980، التي انتقل فيها البنك من الإقراض المشروعيّ (إقراض مشاريع معينةٍ) إلى الإقراض البرامجيّ. ومن أهمّ الجوانب الجديدة التي بات البنك يركّز عليها تشجيع دور القطاع الخاصّ وعمليات الخصخصة، وتقليص دور الدولة، والاهتمام بالنشاط التصديريّ، إلى جانب تحسين مناخ الاستثمار الأجنبيّ في البلدان النامية.

وبدوره بدأ صندوق النقد، بتأثيرٍ من مديره العامّ الأسبق جاك دو لازويير، يوجّه اهتمامه إلى المشاكل طويلة الأجل لموازين مدفوعات البلدان الأعضاء، ولا سيما النامية منها. واستحدث في هذا الصدد التسهيلَ الموسَّع الذي يتميز بطول مدّة البرامج المرفقة، ومدّ فترة إعادة الشراء. ومن ثمّ استحداث صندوق الائتمان لتوفير ائتماناتٍ للبلدان ذات الدخل المنخفض بفوائد رمزيةٍ. وبعبارةٍ أخرى الانتقال من مرحلة برامج التثبيت والاستقرار التقليدية التي تركّز على جانب الطلب إلى تبنّي برامج جديدةٍ تركّز على جانب العرض، وتهدف إلى معالجة الاختلالات البنيوية في الهياكل الاقتصادية، وتشجيع الاستثمارات ودعم عملية التنمية. وهو ما عدَّه البنك خطوةً كبيرةً من صندوق النقد لتقديم تسهيلاتٍ مماثلةٍ لقروض البنك وهيئة التنمية الدولية.

 

ويمكن القول: إن كلاً من صندوق النقد والبنك الدوليين وجدا نفسيهما، منذ سنوات الثمانينيات، أمام واقعٍ جديدٍ فرض عليهما التعاون، ولا سيّما بعد أن توحّدت ساحة عمل المنظمتين، والمقصود بذلك البلدان النامية، بهدف تنميتها وتعديل هياكلها الاقتصادية، وإدماجها في الاقتصاد العالميّ حسب عقيدة السوق الحرّة. ويعبِّر عن ذلك هيرويوكي هينو، أحد خبراء صندوق النقد الدوليّ: "لقد زاد التداخل بين نطاق برامج إقراض تمويل- كلٍّ من المنظمتين، وبشكلٍ أعمّ فيما يجري من عملٍ تحليليّ، وأخذ التقسيم العمليّ لمجالات المسؤولية ينطمس أكثر فأكثر". ولا عجب في هذه الحالة أن برامج التكيُّف الهيكليّ التي يُشرف عليها الصندوق غالباً ما يرافقها برنامجٌ موازٍ للبنك الدوليّ.

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard