info@suwar-magazine.org

الإيزيديون في سوريا.. بين مأساة الماضي ومخاوف الحاضر

الإيزيديون في سوريا.. بين مأساة الماضي ومخاوف الحاضر
Whatsapp
Facebook Share

واقع الطائفة الإيزيدية في سوريا
تزايـد المخـاوف بعد مأسـاة شنكـال

 

(2)


جابر جندو

 

يظنّ البعض أن الإيزيديين مهاجرون قدموا إلى سورية من البلدان المجاورة في الآونة الأخيرة. وهذا الكلام واقعيٌّ ولكن لم يقل أصحاب هذا الظنّ بأن الإيزيديين هم من السكان الأصليين في سورية، وأن تاريخهم فيها يعود إلى آلاف السنين. ونتيجة الاضطهاد والحروب التي كانت تشنّ ضدّهم، كانوا دائماً يهجّرون من مناطقهم ويعودون إليها حتى وإن طال الزمن.

 

 

فالإيزيديون كانت لهم ممالك وإماراتٌ في سورية. فقد حكموا الشام في فتراتٍ من تاريخها، وللشام مكانةٌ خاصّةٌ لديهم. كما حكموا حلب، أو ما يعرف بإمارة كليس، التي كانت تمتدّ حتى حماة، وكان يحكمها )الشيخ مند الشمساني الإيزيدي)، وقلعة حلب تشهد بذلك. وقد انتقلت الإمارة إلى أيدي عائلة جانبولا بن قاسم (وهم الآن عائلة جانبولاط الدروز في لبنان). كما كان للإيزيديين وجودٌ في منطقة جبل سمعان، التي انتشرت فيها البعثات التبشيرية المسيحية بينهم.

 

سياسات الإنكار فرضت العزلة على الإيزيديين

 

يتوزّع الإيزيديون في سورية حالياً على شكل تجمعاتٍ بعيدةٍ عن بعضها. وتتركّز أماكن سكناهم بشكلٍ أساسيٍّ في محافظتي حلب والحسكة. وتضمّ مدن الحسكة والدرباسية وعامودا وتربسبية وسري كانية أعداداً من الإيزيديين، غير أن الاكثرية منهم يقطنون القرى. ويبلغ عدد قراهم في هذه المحافظة أكثر من خمسين قرية. كما ينتشرون في قرى عفرين وفي أحياء حلب. وتعدادهم في سورية غير معروفٍ، لعدم وجود إحصائياتٍ رسمية، إلا أن التقديرات غير الرسمية تقدر أعدادهم بأكثر من مئة ألف نسمةٍ حالياً. على الرغم من أن أعدادهم كانت أكثر من ذلك بكثيرٍ قبل عشرات السنوات، لكن الهجرة المتزايدة بينهم أدّت إلى انخفاض نسبتهم في سوريا.

 

 

تعرّض الإيزيديون منذ القدم لحملات تشويهٍ وطمسٍ لتاريخهم، ولذلك تجمّعوا في قرىً ليكونوا بعيدين عن الآخرين كي لا يسيئوا الظن بهم. عانوا الكثير، وكانت علاقتهم مع الآخرين قائمةً دائماً على الخوف والتردّد والحذر.

في سوريا، لم يكن مسموحاً لهم بناء أماكن العبادة الخاصة بهم، وهم يخضعون للمحاكم الشرعية الإسلامية. ولا يملكون أيّة حقوق، لا من الناحية السياسية ولا الحقوق الدينية أو الثقافية. ولا اعتراف بديانتهم، فهم يعتبرون مسلمين، وأطفالهم يدرسون التربية الإسلامية في المدارس الحكومية. ولا يوجد لهم قانونٌ خاصٌ للأحوال الشخصية.

 

يقول سعيد عبدي، وهو ناشطٌ سياسيٌّ إيزيديٌّ من رأس العين، مقيمٌ في ألمانية: “كنا نواجه الكثير من المشكلات والصعوبات في سوريا، نحن أتباع الديانة الإيزيدية، حيث منعنا من ممارسة شعائرنا الدينية واحتفالاتنا ومناسباتنا، أو تدريس ديانتنا في المدارس. كانت هناك مادتان للتربية الدينية في المدارس؛ وهما الإسلامية والمسيحية. كنت أودّ دراسة الديانة المسيحية، وتقدّمت بطلبٍ إلى مديرية التربية بالحسكة، ولكنهم رفضوا ذلك، وأجبرت على دراسة الإسلامية”. ويضيف سعيد: “كنا نعاني أكثر من غيرنا، فقد سلبت حقوقنا كسوريين أولاً وكأكراد ثانياً، إذ سُحبت منا الجنسية وأُخذت أراضينا وأُعطيت للغمر. وحُرمنا من حقوقنا الثقافية والسياسية كإيزيديين، فلم يكن لنا أيّ شخصٍ إيزيديٍّ يمثلنا في البرلمان أو الحكومة أو الأوقاف أو أيٍّ من دوائر الدولة”.

 


 

العلاقة مع المكوّنات الأخرى

 

ويتذكّر سعيد كيف كانت علاقة الإيزيديين بالمكوّنات الأخرى في المنطقة التي كان يعيش فيها في سوريا، ويرى أنها كانت جيدةً تقوم على الاحترام والمودّة. ولكن، بالرغم من ذلك، كانت هناك استفزازاتٌ ومضايقاتٌ بشكلٍ غير مباشرٍ من قبل بعض الكرد والعرب، من خلال بعض التصرفات والكلمات التي لا يرغب الإيزيديّ في سماعها. ويوضح سعيد قوله: بالرغم من كلّ ذلك، كان وضعنا أفضل بكثيرٍ من أوضاع الإيزيديين في الدول المجاورة.

 

كثيرةٌ هي القرى المختلطة التي يعيش فيها الإيزيديون مع مكوّناتٍ أخرى من عربٍ وأكراد، مسلمين ومسيحيين سريان، كما في منطقة تربسبية (القحطانية) التي تبعد مسافة 30 كم شرقيّ مدينة قامشلو، وتمتاز علاقاتهم بأنها جيدة. ويقول زياد حامد، عضو اللجنة الإيزيدية بتربسبية، وعضو لجنة إغاثة أهالي شنكال في منطقة الجراح، إن الإيزيديين في منطقة الجراح يُعدّون إحدى المكوّنات التي تشكل نسيجاً اجتماعياً متكاملاً في المنطقة. وتميّز الإيزيديون بالتعامل الجيد، لا بل الممتاز، مع كلّ المكوّنات الأخرى هناك. وبدا ذلك جلياً في قرية مزكفت، التي يقطنها، بالإضافة إلى الإيزيديين، المسلمون والمسيحيون. وفي تل خاتون تعايشوا مع المسلمين. وفي قرية الا رشى أيضاً. وفي كر رشا تعايشوا مع السريان. وفي قرية دريجيك مع المسلمين من الكرد والعرب، والسريان. بلغ عددهم في سبعينيات القرن الماضي حوالي خمسمئة عائلةٍ عاشوا في ظروفٍ اقتصاديةٍ قاسية، بالإضافة إلى حرمانهم من الجنسية، وتسلط الآغوات عليهم، مما دفع الشباب إلى الهجرة إلى المدن الكبيرة والسفر إلى الخارج. ويضيف زياد قائلاً: “بالنسبة إلى وضعنا الحاضر، نحن لا نجد أنفسنا أقليةً في مجتمعنا بصراحة، لأن المجتمع من حولنا لا ينظر إلينا نظرةً دونيةً وإقصائية. وأكبر دليلٍ على المحبة والتسامح التي يعيشها الإيزيديون في المنطقة هي الحفاوة والتعاون الذي قدّمه كلّ شخصٍ لأهلنا المهجّرين من شنكال”.

 


ويتفق الشيخ سليمان حتو، من منطقة عامودا، مع ما ذهب إليه زياد بقوله: “علاقتنا مع المكوّنات الأخرى طيبةٌ وجيدة. ولا نشعر اليوم بأيّ فرقٍ بيننا، بل العكس، بالمقارنة مع الإيزيدية في كردستان العراق، بالرغم من أن عدد الإيزيدية هناك أكثر. نحن نعتقد بأن تعامل المكوّنات الأخرى معنا، وخاصةً الحركات الكردية هنا، يعطينا قيمةً وأملاً بالمستقبل”.


التحوّلات الاجتماعية وضعت الإيزيديين في مهبّ الريح

 

وعلى الرغم من هذه العلاقات الطيبة مع المكوّنات الأخرى نجد أن ظاهرة الهجرة تضرب المجتمع الإيزيديّ، خاصةً بعد اندلاع الأزمة في سوريا، والتي دفعت الكثير منهم إلى الهجرة باتجاه أوربا وبشكلٍ خاصٍّ ألمانية. ويشرح الشيخ سليمان أسباب الهجرة بين الطائفة الإيزيدية في سوريا بقوله: “نحن لا نريد الهجرة، لكن هناك عوامل كثيرةٌ تدفعنا إلى ذلك، وخاصةً مع تزايد خطر التنظيمات التكفيرية”.

 

 أما أحمد دلف، وهو أستاذ مدرسةٍ من منطقة عامودا، مقيمٌ حالياً في ألمانية، فيقول: “الإنسان في مجتمعنا المتخلّف ليست له قيمةٌ كإنسان. بعد قدومنا إلى أوربا تعرّفنا على الإنسان الغربيّ”. ويضيف: كإيزيديّ، وخاصةً في سوريا، لم يكن لنا وجودٌ بما للكلمة من معنى.

 

 

السيد حمود، وهو من إيزيديي الدرباسية، وعضو لجنة السلم الأهليّ، يتحدث عن التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أصابت المجتمع الإيزيديّ في المنطقة بشكلٍ عامٍ، نتيجة الحربين العالميتين الأولى والثانية، حين كان للشعب الإيزيديّ نصيبٌ من ويلات الحرب.

 

ويصف حمود المشهد عقب الحرب بقوله: تشرّد الناس والعائلات وأضاعوا بعضهم البعض في تلك الحقبة. وبعد ذلك قرّروا الذهاب إلى سنجار حيث موطن الجبال، خوفاً من جبروت الظالمين. لكن الفرنسيين رسموا الحدود بين الدولتين العراقية والسورية فأُجبر الإيزيديون على السكن في قرىً جديدةٍ في الخمسينات من القرن العشرين، وأصبحوا يعملون في مجال الزراعة والرعي، وكان يضرب بهم المثل في مجالهم. إلا أن الأراضي التي كانوا يزرعونها لم تفِ بتأمين قوتهم اليوميّ، ولذا انتشروا في ربوع الجزيرة بحثاً عن أرزاقهم، حتى وصلوا إلى جبل عبد العزيز، واشتغلوا بكافة أنواع التجارة حتى تسعينات القرن الماضي.

 

ورغم تفاؤل الإيزيديين بالمستقبل، وخبرتهم في مجالات العمل كافة، لكنهم فقراء بسبب زيادة النسل وعدم تهيؤ فرص العمل لهم، فكان البديل هو الهجرة إلى الخارج. فبدأت الهجرة بشكلٍ جماعيٍّ بعد أن روى لهم المهاجرون من أبنائهم عن الحياة والمعيشة في أوروبا، مقارنةً بوضعهم في مناطق سكنهم، وكيف أصبحوا غنيمةً سهلةً لكلّ انتهازيٍّ ومن الأحزاب، بحسب وصف أحدهم.

 

وعن علاقة الإيزيديين مع المكوّنات الأخرى يقول السيد حمود: “الإيزيديون يحبون التعامل مع بقية الأديان والدخول في علاقة الكرافة (تقليدٌ رائجٌ في الوسط الكرديّ يقضي بوضع الطفل، أثناء عملية الطهور، في أحضان شخصٍ من ديانةٍ أخرى) والشراكة مع بقية المكوّنات”.

 


الإيزيديون يخشون من المستقبل

 

بعد اندلاع الثورة في سوريا استبشر الإيزيديون خيراً. وشاركوا، مع إخوانهم السوريين، في الحراك والمظاهرات السلمية. ولكنهم ما لبثوا أن تراجعوا بسبب عدّة عوامل لعل أهمّها تعرّض قراهم للهجمات من قبل الكتائب المقاتلة وجبهة النصرة. إذ وقعت عدّة هجماتٍ على القرى الإيزيدية، منها الهجوم على قسطل جندو بمنطقة عفرينعندما وصف المهاجمون السكان بالكفار- وهجوم جبهة النصرة وبعض الكتائب على قرى رأس العين، والذي بدأ بقرية الأسدية بتاريخ 17/ 8/ 2014، وخلّف قتلى وجرحى وتشريداً للأهالي، وبذلك تمّ إفراغ عدّة قرى بسري كانية (رأس العين). ومن جهةٍ أخرى صدر عن الهيئة الشرعية قرارٌ شرّعت فيه سلب ونهب والاستيلاء على أملاك وأراضي الإيزيدي مراد درويش، باعتباره كافراً. كما تعرّض الإيزيديون في الحسكة لمضايقاتٍ وتهديدٍ وخطف بعض الأشخاص. هذا كله أدّى إلى هجرةٍ غير طبيعيةٍ في قرى الحسكة وعامودا ورأس العين.

 

وبعد ما حدث في شنكال، إثر دخول تنظيم الدولة الإسلامية إليها، وفرار أعدادٍ كبيرةٍ من سكانها إلى الجبال، وإجبار من تبقى منهم على الدخول في الإسلام؛ ازدادت مخاوف الإيزيدية في سورية من المستقبل المجهول، وباتوا يفكرون بالهجرة الجماعية أكثر من أيّ وقتٍ مضى.

 

 

وبالرغم من وضعهم الصعب، إلا أنهم قاموا بكلّ ما يستطيعون فعله لإخوانهم النازحين، فقدّموا لهم البيوت والملبس والغذاء.

 

محاولة الحفاظ على الخصوصية، وحماية الآخرين

 

معاذ ميرو، عضو اللجنة الإدارية في فرقة لالش الفلكلورية، يقول: “كنا نقدّم ونتدرّب ونحضّر للمناسبات بحذرٍ شديد. في الستّ سنواتٍ الأخيرة قدّمنا عروضنا الفولكلورية بزيّنا وأغانينا الخاصّة. وتعرّضنا، في إحدى المناسبات، للملاحقة والمضايقات بسبب مسرحيةٍ. وهدفنا من الفرقة هو الحفاظ على التراث والفولكلور الإيزيديّ وإحياؤه”. ويضيف معاذ: “نحن الإيزيديين غيّرنا حتى لباسنا ومظهرنا، ولم يعد هناك شيءٌ خاصٌّ بنا. وأصبح أغلب الإيزيديين، إن لم نقل كلهم، يلبسون الزيّ العربيّ والعكال. وحتى النساء غيّرن ملابسهنّ. والحياة الثقافية انعدمت عندنا حتى الآن. ونظراً للظروف لم نعد نعمل بحرّيةٍ بسبب المخاوف الأمنية”.

 

أما فواز أبو فايز، من قرية دوكر، وهي قريةٌ إيزيديةٌ، فيقول: “على مرّ السنين لم يعتدِ أيّ إيزيديٍّ على الآخرين أو يُحدث مشاكل. والدين يفرض علينا أن نحبّ الآخرين ونحترمهم، حتى أن الإيزيديّ عندما يصلي يقول دائماً يا ربّ احمِ الناس جميعاً ونحن بينهم. أي أننا ندعو أن يعمّ الخير على الناس جميعاً، بغضّ النظر عن أيّ شيء. في مفهومنا، إن لم يكن جارك بخيرٍ فأنت أيضاً لست بخير”.

 

ويسرد أبو فايز كيف أن أهل قريته حافظوا على شابٍّ أرمنيٍّ استطاع النجاة من المجازر التي وقعت بحق الأرمن زمن العثمانيين، وكيف أنهم تمكنوا من تزويجه من فتاةٍ أرمنيةٍ على طريقته الدينية. ويذهب أبو فايز في سرده إلى التاريخ، ويستعيد ذكريات الآباء في دفاعهم عن الأرمن. ففي سنة 1915 استطاع أكثر من أربعة آلاف أرمنيٍّ النجاة من المجزرة والتجأوا إلى الإيزيديين الذين حموهم وخاضوا حرباً من أجلهم بقيادة حمو شرو. وتعرّض الإيزيديون لحملةٍ عسكريةٍ نتيجة عدم تخليهم عن الأرمن. وفي سنة 1917 حارب القائد الإيزيديّ جانكيز من أجل الأرمن، وقاد خمسمئة مقاتلٍ لنجدتهم.

 

***

(2)

 

شنكال حكاية المجزرة الأخيرة


شفان إبراهيم

 

كان الهاون كفيلاً باختراق سكينة الليل الحالك، وبعثرة جميع الأحلام. كانت الساعة تشير إلى الثانية صباحاً حين بدأت جحافل تنظيم الدولة الإسلامية بالهجوم على شنكال وغيرها من المناطق التي تسكنها الطائفة الإيزيدية.

 

استيقظت ديالا، الفتاة الكردية ذات العشرة أعوامٍ، من الأقلية الإيزيدية، مذعورةً من هول المصيبة، والغبار الكثيف جرّاء هدم المنازل. وجدت نفسها، من دون أن يكون أهل بيتها حولها، ضائعةً وسط مدينتها. فجأةً، وجدت نفسها وسط حشدٍ كبيرٍ من الأهالي في أعلى قمة جبل شنكال، بصحبة إحدى العوائل التي أنقذتها واصطحبتها معها. كانت ديالا تبحث عن أمها وأبيها بينما الكلّ يهرب ليظفر بالذات. كانت عائلة ديالا من بين العوائل التي لجأت إلى الجبل. لكن، ولكثرة عدد النازحين، لم تتمكن ديالا من العثور عليهم. فقضت يومها الأوّل بعيدةً عنهم وسط العوائل النازحة التي تقدر بحوالي (10) آلاف نازحٍ خلال أيامٍ من اقتحام تنظيم الدولة الإسلامية لشنكال. ومن المتوقع أن يحلّ (10) آلاف آخرين ضيوفاً على هذه الجبال.

 

 

حال ديالا كحال المئات من الأطفال الذين شرّدوا وضاعوا وسط المهجّرين. لعلّ من حسن حظها أن أحد أبناء جيرانها قد التقى بها صدفةً فاصطحبها إلى حيث لجأت عائلتها. غير أنّ مأساتها لم تنتهِ بعد، فقد أفاقت مذعورةً مرّةً أخرى، على صوت بكاء والديها. أدركت أن أخيها أري، البالغ من العمره سنةً، قد فارق الحياة، لعدم وجود الحليب.

 

نسرين، 22 سنة، الطالبة الجامعية في قسم الحقوق؛ روت مشهد أحد الآباء الذي جرحَ ساعده ليروي ابنه من ظمأ عطشه، لفقدان الماء والطعام. لم تستطع نسرين كبح دموعها وهي تصف هول المصيبة. ساهمت نسرين (كما قالت) في حفر سبعة قبورٍ لأطفالٍ رضّعٍ ماتوا من الجوع. تقول نسرين بحرقة: “لماذا كلّ هذا الإجحاف بحق الإيزيديين؟ منذ أن دُوّن التاريخ والإيزيديون يتعرّضون للتنكيل والموت والإجحاف والفرمانات والمراسيم المميتة. هل حقاً أن الدين قد حلل ذبحنا؟”.

 

 

تعرّض الإيزيديون خلال الأيام الماضية إلى أكبر مأساةٍ عرفها العراق منذ ثلاثة أعوام؛ فقد شرّد الآلاف منهم، وسبيت نسائهم، وخطف أطفالهم، وقتل المئات منهم، ودفن بعضهم أحياء بعد سيطرة داعش على شنكال وباقي القرى. وعن هذا يروي أختين، الذي كان متوارياً عن الأنظار، لمجلةصوركيف أن المئات قتلوا في مجازر جماعية، والمئات دفنوا وهم أحياء، فيقولأنا جاهزٌ للإدلاء بشهادتي في محكمةٍ عادلةٍ، لتثبيت الإبادة الجماعية التي تعرّض لها الإيزيديون”.

عائلة تحسين دوغادي كانت هي الأخرى من العائلات الإيزيدية التي عانت من داعش، ولم تجد نفسها إلا في مجمّع خانك للنازحين في دهوك، بعد أن مشى أفرادها لأيامٍ عصيبةٍ على أثر مصيبة جبل شنكال. يقول تحسين: “الدعايات المغرضة هي الأخرى ساهمت في زيادة خوفنا، فقرّرنا اللجوء إلى الجبل”. ويروي بغصّةٍ رحلته الراجلة على الأقدام حتى وصل إلى تل كوجر، ومن هناك استقلّ وعائلته وعائلة أخيه ممو، الذي قتل على يد تنظيم الدولة الإسلامية، سيارة ( بيك آب)، حتى تمكنوا من الوصول إلى سيمالكا ومن ثمّ الدخول إلى إقليم كردستان، بعد أن حفر الجوع والعطش والحرّ قسوتهم على ملامحهم.

 

يمتاز ملك (26 سنة) بصحةٍ جيدةٍ وجسمٍ رياضيّ. ولكنه يمتلك ذاكرةً سوداء مؤلمةً عن تلك الأحداث، حتى أنه لا يتمكن من النوم براحة، ويشاهد كوابيس مرعبةً كلّ ليلة، حتى بات النوم يشكل له هاجساً يخشى منه. كان الشاب يبكي على خالته التي توفيت في الطريق قبل وصولها إلى تل كوجر، فقد كانت تعاني من الضغط ولم تتحمّل عناء السفر. يقول ملك بعد أن وصل إلى ديرك: “صحيحٌ أنني ذاهبٌ إلى دهوك لإيصال زوجتي، لكنني أرغب في العودة إلى شنكال وزمار ومحاربة داعش. وأطالب حكومة الإقليم بتسليحي كي أتمكن من مجابهة هذه الآفة التي شوّهت الإسلام

 


تحدثت (بريهان)، الاسم المستعار للفتاة العشرينية التي كادت أن تقع فريسةً في أيدي المهاجمين من تنظيم الدولة، لمجلةصورعن المجازر التي ارتكبتهاداعشسواءً بحقّ الرجال وقتلهم، أم بسبي النساء، أو تعريتهنّ واغتصابهنّ أمام أعين أزواجهنّ وأبنائهنّ، ثم قتلهم. وتساءلت عن مستقبل الأطفال والبنات المخطوفين، فقد كشف مسؤولون محليون وبرلمانيون عن اختطاف أكثر من 700 امرأةٍ إيزيديةٍ بعد سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على سنجار. وعن ما يمكن أن يؤول إليه مصيرهم تقول: “قد يتمّ استخدام الأطفال في العمليات الانتحارية. ويكون مصير البنات إما سبايا وجواري في منازل وأوكار الداعشيين، أو سيتمّ بيعهنّ في أسواق الرقّ”. وعن قصة فرض الإسلام عليهم قالت بريهان: “لقد طلبوا من الرجال إشهار الإسلام، وطلبوا ضماناتٍ أن يكون الإشهار صحيحاً، إذ عليهم المحاربة مع داعش، وتزويج بنات الإيزيديات للمجاهدين، وهدم المعابد الدينية للإيزيديين في شنكال وغيرها”.

 

أما في الطرف الآخر، أي في المناطق الكردية في سوريا، فكانت الصورة تُفصح عن حالها؛ آلاف النازحين من الإيزيديين محمّلون على الشاحنات والقاطرات والسيارات والفانات، أنهكهم التعب، يحاول أهالي كركي لكي/ معبدة، وديركي/مالكية أن يقدّموا لهم المساعدة ريثما يصلوا إلى مخيم نوروز الذي أقيم في ديريك، أو من يريد متابعة طريقه إلى دهوك في إقليم كردستان.

 

في الطريق تتوقف إحدى السيارات، إذ فقد الشاب شوان حياته إثر إصابته بنوبةٍ قلبيةٍ حادّة. وأصرّت القوافل على الاستمرار في الحركة حتى الوصول إلى سيمالكا، المعبر المائيّ على نهر دجلة، الذي يربط بين طرفي الحدود السورية والعراقية. أسهم القائمون على المعبر، من كلا الطرفين، في نقل الآلاف من النازحين الإيزيديين يومياً.

 

سينان جابو، وقبل أن يغادر إلى دهوك من معبر سيمالكا، قال لمجلةصور”: إن كان الإسلام يحضّ على قتلنا عبر داعش... وسكت ثم استدرك قائلاً: “لم أكن أتصوّر أن يكون العالمان العربيّ والإسلاميّ غير مهتمَّين بنا إلى هذه الدرجة. هؤلاء يعلمون أننا، كديانةٍ، نرمز إلى التواجد البشريّ منذ آلاف السنين في هذه المنطقة، وأننا من أوائل من استقرّ فيها. إضافةً إلى أننا نؤمن بوحدانية الله، ونتوجه إلى الله في كل مشكلةٍ نتعرّض لها، ومع ذلك لم يلبِّ أحدٌ نداء استغاثتنا”.

 

 

***

(3)

 

الإيزيديّون وشروط الوجود

 

داريوس الدرويش

 

لا يبدو البحث في تأريخ المجازر الإيزيديّة موضوعاً لمقالةٍ قصيرة، فبحثٌ كهذا ربّما يحتاج إلى مؤلّفاتٍ تستوفيه حقّه من الخوض في أزمنة هذه المجازر وأسبابها والأحداث التي رافقتها. ولكن، قد يكون من المفيد الآن تناول الوسائل التي اتّبعها الإيزيديّون في الاستجابة لتلك المجازر، ومكّنتهم من الاستمرار حتى هذا الوقت كإيزيديّين.

 

تعدّدت الفرمانات (حملات الإبادة) التي صدرت بحقّ الإيزيديّين، حتى وصلت إلى 72 فرماناً، حسب عددٍ من المصادر. وقد انتهى معظمها إلى قتل العديد من أتباع الديانة الإيزيديّة وحرق قراهم وسبي نسائهم. إلا أنّها جميعاً لم تستطع الوصول إلى الإبادة الفعليّة لهم، رغم تعرّض أعدادهم للتناقص وانحسار مساحات سكنهم/سيطرتهم.

 

 

وباستثناء مجزرةٍ واحدةٍ في العصر العباسيّ، حصلت بعد قيام مير جعفر داسني بالثورة على العباسيين عام 840م، لا يكاد التاريخ يذكر مجازر أخرى حصلت بحقّ الإيزيديّين إلا ما تلا نشوء الدولة العثمانيّة وحتى بعد سقوطها، امتدّت من القرن السادس عشر وحتّى القرن العشرين، وتكثّفت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على يد الولاة الجليليّن (نسبةً إلى عائلة الجليلي التي حكمت الموصل لقرنٍ تقريباً) والباشاوات العثمانيّين، بمشاركة بعض الأمراء الكرد وبعض العشائر العربيّة.

 

يشير العديد من المصادر التاريخيّة إلى أنّ الإيزيديّين استطاعوا مواجهة جميع الحملات السابقة ودحر العديد منها، وإن بشكلٍ نسبيّ، وبالأخصّ الغزوات المتركّزة على جبل شنكال، وهو المعقل الإيزيديّ الثاني بعد منطقة الشيخان شمال الموصل، والأكثر تحصيناً بسبب طبيعته الجبليّة. وتذكر هذه المصادر بعض المعارك التي انتصر فيها الإيزيديّون على قوّاتٍ ضخمةٍ عبر استدراج الخصوم إلى دروب الجبال الوعرة، كما حصل مع حملة الفريق عمر وهبي باشا عام 1892م، والتي تكبّدت خسائر فادحةٍ انتهت بموافقة الأخير على شروط الإيزيديّين كما هي، والتي كانت متركّزةً على عدم إجبارهم على التجنيد في صفوف الجيش العثمانيّ، وعلى السماح بإقامة شعائرهم الدينيّة. يُذكر قبلها أيضاً أنّ الإيزيديّين قتلوا والي الموصل عبد الباقي باشا الجليلي، قائد حملة الإبادة عليهم عام 1786م، وذلك بعد حصول الفرصة لبعض الإيزيديّين لمباغتة الوالي أثناء انشغال جنوده بنهب وسلب القرى الإيزيديّة. وكانت هذه العمليّة هي الفاتحة للحملات المتتاليّة التي شنّها ولاة الموصل من عائلة الجليلي على مناطق الإيزيديّة في شنكال وشيخان. وانتهت حملات والي الموصل، محمد باشا الجليلي، المتكرّرة على إيزيديّة شنكال عام 1794م (والذي قاد بنفسه حوالي 4 منها عليهم) بهزيمته واغتنامهم لمدافع الوالي، بعد قتل الأخير لسكان قرية (مهركان) كاملة.

 

كما لم يكن إيزيديّو شيخان أقلّ دفاعاً عن أنفسهم، فقد قاموا بصدّ الحملة المشتركة بين قباد بك أمير العماديّة ومحمّد باشا والي الموصل. فقام حسن بك أمير الشيخان بكسر الجيشين، حوالي عام 1805م، وردّهم على أعقابهم. وكانت هذه الحملة هي الثانية لقباد بك وتلت هزيمته في الأولى، ممّا اضطرّه إلى طلب المساعدة من والي الموصل.

 

نظراً لقلّة تعداد الإيزيديّة، فقد كانوا بحاجةٍ إلى شجاعةٍ عظيمةٍ للوقوف أمام جحافل الجيوش هذه. وقد تحوّلت محفّزات الثبات والشجاعة إلى عاداتٍ شعبيّةٍ لديهم، لعلّ أبرزها هو كيف كان المقاتل الإيزيديّ يرسم حول نفسه دائرةً لا يخرج منها إلا بالموت، وذلك للبقاء والثبات في أرض المعركة لأطول مدّةٍ ممكنة. فتحوّلت هذه العادة إلى أساطير شوّهت هذا المضمون وقلبته إلى أنّ الإيزيديّين لا يريدون فقء عين إبليس بخروجهم من الدائرة. وكانت هذه الأساطير تتردّد ضمن الدعاية الإسلاميّة لتنفير الناس من الإيزيديّة.

 

قام الإيزيديّون، إلى جانب الدفاع عن النفس وصدّ الهجمات، باللجوء إلى مناطق أخرى والبحث عن الأمان هناك. فأثناء حملة سليمان باشا (أبو ليلة) والي بغداد عام 1752م طلب عدد من الإيزيديّين الأمان والعفو من الوالي، فأمر بتهجير نحو 3000 منهم إلى نواحي ماردين جنوب شرق تركيا، واستمرّ في حملته على جبال شنكال حيث قتل العديد ودمّر قراهم ومساكنهم وسبى نسائهم. حصل نفس الأمر في حملة علي باشا الذي خلف سليمان باشا على ولاية بغداد عام 1802م، إذ قام بتجريد حملةٍ أخرى للهجوم على إيزيديّة شنكال. وبسبب ضخامة الحملة وعمليات النهب والسلب التي حصلت، قامت مجموعةٌ من هؤلاء الإيزيديين بالاستسلام وأخذ الأمان من الوالي، إلا أنه قام بإرسالهم إلى عاصمة الخلافة العثمانيّة حيث تمّ إعدامهم، حسب بعض الروايات.

 

أمّا أثناء حملة الأمير محمد باشا أمير سوران، والمعروف بـ (ميري كور) أو (الأمير الأعور) عام 1832م، فقد تمّ أسر عددٍ ضخمٍ من الإيزيديّين، تقول بعض المصادر إنّه يربو على 10,000، تمّ أخذهم مع أميرهم علي بك إلى رواندوز معقل محمد باشا، حيث قام بقتل علي بك و100 آخرين لعدم تخلّيهم عن دينهم، أما الباقي فقد اعتنق الإسلام خوفاً ممّا حصل مع الآخرين. كانت بعض الحملات الأخرى أيضاً، وبسبب شراستها، تتضمّن إسلاماً إجباريّاً للإيزيديين بين أيدي قيادة الحملة. كما حصل مع ميرزا بك وبعض قادة الإيزيديّة الآخرين ممّن استدعاهم الفريق عمر وهبي باشا قبل شنّ الحملة، ودعاهم إلى دخول الإسلام، فقبل الأمير ميرزا وأخوه وأميرٌ آخر، فقلّدهم الفريق النياشين ومنحهم لقب (باشا). إلا أنهم، وحال عودتهم إلى قراهم، أعلنوا براءتهم من الإسلام وعودتهم إلى دينهم، ممّا دفع الفريق عمر وهبي باشا إلى شنّ الحملة عليهم، والتي أدّت إلى خسارته وقبوله بشروطهم.

 

 

إذاً، فصراع الإيزيديين كان صراعاً وجوديّاً ضدّ الخطر العثماني-الإسلامي. وقد تعرّضوا في سبيل ذلك لعددٍ ضخمٍ من الحملات التي ارتكبت المجازر والسبي بحقّهم، ودمّرت قراهم ونهبت أموالهم. ولكنّهم، وبحكم قلّة عددهم، مارسوا طرقاً مختلفةً عدا الصدام المباشر. فمثلاً، قام حسن آغا، زعيم عشيرة (الحسنيّة)، وهي من عشائر الإيزيديّة، بتقديم 12000 رأس غنمٍ طلبها (بالول) والي بازيد (جنوب غرب دهوك – كردستان العراق) من أجل بناء قلعته، بعدما خيّره الأخير بين الإسلام أو دفع الضريبة للمساهمة في بناء القلعة. ورغم ذلك فقد هاجر حسن آغا مع أبناء عشيرته، في الربيع التالي، بعد علمه بأنّ والي بازيد كان يجمع علماء المسلمين من أجل إعداد حملةٍ على الإيزيديّة، فنزحوا إلى الحدود التركيّة الروسيّة.

 

 

ويبدو أنّ الإيزيديّين كانوا يفضّلون سلطة إمارة بهدينان على ولاية الموصل. فأثناء النزاع الذي حصل بين الجليليين ولاة الموصل وزبير باشا أمير بهدينان، عام 1807، حول أحقيّة الولاية على إمارة الشيخان، وقف أمراء الشيخان مع البهدينانيين بعدما ألحق السلطان العثمانيّ إمارتهم بولاية الموصل. فرفض الشيخان دفع الضرائب وإبداء فروض الطاعة للجليليين، وظلت إمارة الشيخان فعليّاً تحت سلطة بهدينان. ويبدو أنّ قبول التبعيّة لإمارةٍ إسلاميّةٍ كان نتيجة قناعة الإيزيديّين باستحالة إنشاء إمارتهم المستقلة في ظلّ الخلافة العثمانيّة-الإسلاميّة، ففضّلوا التبعيّة لقرابة الدم واللغة على التبعيّة لولاية الموصل، وكانوا السبب الرئيسي في عدم سيطرة ولاة الموصل على إمارة الشيخان، وبقائها كمنطقة حكمٍ ذاتيٍّ تحت سلطة البهدينان.

الآن، يختلف العصر عن سابقه، فلم يعد مقبولاً اليوم إجبار أحدٍ على تغيير دينه. وعلى الرغم من بقاء بعض الفئات ضمن عقليّة القرون السابقة، إلا أنّ المجتمع العام في الشرق الأوسط والعالم لم يعد يسكت عن هكذا حملات. وتحولّت رسائل الافتخار والمديح لمرتكبي المجازر من قبل المؤرّخين وعلماء الدين، والمواطنين أحياناً، في العهد العثمانيّ، إلى رسائل إدانةٍ وتنديدٍ بالحملة الأخيرة التي أطلقتها داعش على الإيزيديّين، من قبل مختلف الفئات المجتمعيّة في العراق وسوريا. وكذلك تحوّلت سياسة ترك الإيزيديّين لمصيرهم، التي اتّبعت عدّة مرّاتٍ من قبل القادة الكرد في السابق، إلى سياسةٍ تدافع عن وجودهم في مناطقهم، كما لاحظنا عند توجّه المقاتلين الكرد من أجزاء كردستان الأربعة إلى جبل شنكال والمناطق المجاورة له، بهدف الدفاع عن الإيزيديين ضدّ هجمات داعش.

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard