info@suwar-magazine.org

سجن حماة المركزي: حكايات عن الألم والإرهاب

سجن حماة المركزي: حكايات عن الألم والإرهاب
Whatsapp
Facebook Share

 

التعذيب في السجون السورية: الملفّ القديم الجديد

 

أثار ملفّ "قيصر"، الذي عُرض العام الماضي في جلساتٍ خاصّةٍ لمجلس الشيوخ الأمريكيّ، ضجةً كبيرةً. قيصر اسمٌ حركيٌّ لمنشقٍّ عن الشرطة العسكرية التابعة للنظام، كان مكلّفاً بتصوير وتوثيق الجثث التي يرسلها جيش النظام ومؤسّساته الأمنية. الملفّ مكوّنٌ من 55 ألف صورةٍ، يوثق 11 ألف معتقلٍ سوريٍّ قتلوا تحت التعذيب في أقبية الفروع الأمنية. ويعدّ ملف قيصر أقوى الدلائل الحقوقية على تصفية المعتقلين السياسيين في السجون السورية.

 

منذ أن اقتلعت الأجهزة الأمنية أظافر الأطفال في درعا، بعد أن خطّوا على الجدران شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، لم يتوقف النظام السوريّ يوماً عن ارتكاب المجازر، ولم تمنعه أية قوّةٍ في العالم عن تصفية السوريين في سجونٍ سرّيةٍ أو معلنة، ولم تتوقف ميليشياته عن التفنّن في ارتكاب المجازر بحقّ المدنيين باستخدام كلّ أصناف الأسلحة وصولاً إلى السلاح الأبيض.

ملف التعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان في سوريا ليس بجديدٍ. فمنذ استلام حافظ الأسد سدّة الحكم، إثر انقلابٍ عسكريٍّ في عام 1970 (الحركة التصحيحية)، لم توفر سلطته العسكرية أحداً. زجّ الآلاف من معارضيه السياسيين، من يساريين وإسلاميين وقوميين عربٍ وكردٍ وغيرهم، في المعتقلات. وقام بإعدام حوالي 1200 سجينٍ في سجن تدمر الصحراويّ عام 0198. وتوّج حملته تلك، التي استمرّت لسنواتٍ، بمذابح مدينة حماة عام 1982، حيث قضى ما يقارب 40 ألف مدنيٍّ، وتمّت تصفية الآلاف وتهجير الكثير من أبناء المدينة. ليعلن نفسه بعد ذلك حاكماً مطلقاً لسوريا، وليذكّر السوريين أنه موجودٌ ولا تعلو كلمةٌ على كلمته. وصولاً إلى تصفياتٍ عشوائيةٍ طالت كثيراً من الشباب الكرد في انتفاضة عام 2004.

 

في سوريا اليوم تتلقى عشرات العائلات اتصالاتٍ هاتفيةً من الفروع الأمنية، تطلب من ذوي المعتقلين السياسيين مراجعتها لاستلام الوثائق الشخصية لأبنائهم بعد أن قضوا تحت التعذيب.

ملفّ حقوق الإنسان في سوريا في ظلّ حكم الأسدين الأب والابن معروفٌ للعالم. هذا ما يؤكّده الكثير من المعتقلين السياسيين خلال حكم حافظ الأسد، ورواه الشاعر السوريّ فرج بيرقدار، الذي صرّح، في أحد اللقاءات الصحفية، أنه خرج من المعتقل بضغوطٍ من منظّماتٍ فرنسية. كما يؤكّد معتقلٌ آخر لـ"صوَر" أن الإفراج عنه تمّ بعد أن طلب الرئيس الفرنسيّ جاك شيراك، بشكلٍ شخصيٍّ، خلال إحدى زياراته لسوريا، من بشار الأسد أن يطلق سراحه.

 

 

تستمرّ المحرقة السورية منذ أربع سنواتٍ. وجديدها دخول تنظيماتٍ أجنبيةٍ وميليشياتٍ أخرى من شتى أنحاء العالم، أبرزها تنظيم داعش الذي يتفنّن في تعذيب وقتل مناوئيه بطرقٍ تتنوّع بين الذبح والحرق، وصولاً إلى وضعهم في أحواضٍ مائيةٍ حتى الموت غرقاً.

 

بمناسبة اليوم العالميّ لضحايا التعذيب، في السادس والعشرين من حزيران، يمكن طرح سؤالٍ جوهريٍّ: هل قصّر النشطاء السوريون في إيصال صوت معذَّبيهم إلى العالم؟ أم أن ارتباط حقوق الإنسان بالسياسة وبالعلاقات الدولية يمنع من تحقيق العدالة للمظلومين؟

 

 

***

 

تفتح مجلة "صوَر" بهذه المناسبة ملف السجناء السياسيين في سجن حماة المركزيّ، لتقدّم رواياتٍ بلسانهم، في محاولةٍ لتوثيق يومياتهم.

 

 

أحكامٌ جائرةٌ وتضييقٌ داخل السجن يدفعان المعتقلين إلى إعلان إضرابٍ عن الطعام

 

(1)

 

*كمال السروجي 

 

بدأ المعتقلون السياسيون في سجن حماة المركزيّ، في السابع عشر من حزيران الماضي، إضراباً مفتوحاً عن الطعام، احتجاجاً على الأحكام الجائرة التي أصدرتها محكمة مكافحة الإرهاب في دمشق بحقّ نحو 50 معتقلاً من معتقلي الحراك الشعبيّ ضد النظام. وقام المعتقلون بإنهاء الإضراب في اليوم السادس من انطلاقه (23 حزيران).

 

يقول أبو الفتح الحمويّ، وهو أحد المعتقلين، للمجلة: "بدأنا الإضراب احتجاجاً على أحكام الإعدام الظالمة التي صدرت بحقّ رفاقنا. مطالبنا كانت واضحةً، تتمثل في إعادة النظر بأحكام المؤبد والإعدام، والأحكام الميدانية التي صدرت بحقّ المعتقلين، وخصوصاً الذين نقلوا من سجن صيدنايا".

 

 

ويتابع: "أنهيناه في الثالث والعشرين من حزيران بسبب تخلي المنظمات الدولية والمؤسّسات الثورية عنا. كنّا نتمنى أن يصل صوتنا عبر مؤسّسات الثورة، كالائتلاف الوطنيّ والحكومة المؤقتة ومنظمات حقوق الإنسان، ولكن على ما يبدو لا أحد يهتمّ لقضية المعتقلين". ويضيف: "تحمّل المعتقلون عناء الحرمان من الطعام والتعذيب والشتم من شرطة السجن لستة أيامٍ، أملاً في تحسّن الوضع. لا نريد مساعداتٍ من الهلال الأحمر والأمم المتحدة، ولا نطلب سلالاً غذائيةً. نريد محاكماتٍ عادلةً تخرجنا من الجحيم الذي نعيش فيه".

 

أما أبو النور، وهو معتقلٌ آخر، فيقول لـ"صوَر": "غالبية تهمنا تتعلق بالإرهاب، رغم أن الكثير منا من سجناء عامي 2011 و2012، حين لم يكن هناك أصلاً استعمالٌ للسلاح في النشاطات الثورية. معظمنا من المشاركين في المظاهرات والأنشطة السلمية فقط، ومع هذا توجّه إلينا التهم بالإرهاب ودعمه، والمشاركة في حمل السلاح، وقتل عناصر الأمن والجيش والشرطة".

 

ويتابع حديثه: "رضينا بمقابلة رئيس لجنة المصالحة الوطنية في محافظة حماة، محمود صباهي، الذي قدّم وعوداً بمجيء وزيري المصالحة الوطنية والعدل. نعلم أنها وعودٌ فارغة، ولكن لم يكن أمامنا إلا أن (نلحق الكذاب إلى وراء الباب)".

 

 

وعن أحوال السجن يقول: "لم تهدأ الأمور، وسوف نصعّد الموقف، وسنعلن إضراباً مفتوحاً إن لم تتحقق مطالبنا بمحاكماتٍ عادلة. فليس لدينا ما نخسره، حياتنا كلها ذلٌّ وعذابٌ مستمرٌّ".

 

بداية القصّة

 

وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان 56 حكماً صادراً عن محكمة مكافحة الإرهاب بحقّ معتقلين سياسيين منذ بداية شهر حزيران الماضي. ثمانيةٌ منهم حكموا بالإعدام، واثنا عشر خُفّف حكمهم مع مرسوم العفو الرئاسيّ، الصادر مع بداية شهر رمضان، من الإعدام إلى السجن المؤبد، مع دفع غرامةٍ قدرها 40 مليون ليرةٍ. فيما حُكم على 25 بالسجن لمدّة عشرين عاماً، وعلى أحد عشر بمددٍ تتراوح بين 2-115 عاماً. وكانت المحكمة المذكورة قد أصدرت أحكاماً بإعدام 7 معتقلين بتاريخ 21 حزيران، ليصل عدد المحكومين بالإعدام إلى خمسة عشر شاباً.

 

التشويش الإعلاميّ

 

في أعقاب تسرّب الأنباء عن الإضراب، دخل الإعلام السوريّ التابع للنظام إلى السجن، عبر برنامج "سوريا تتحاور" الذي يعرض على التلفزيون الرسميّ. فأجرى مقابلاتٍ مع بعض السجناء، وسألهم عن الحياة ضمن السجن، وعرض تفاصيل يوميةٍ لهم.

ويؤكّد عددٌ من السجناء تواصلت معهم المجلة أن التلفزيون دخل الجناح الاحترازيّ، وهو مبنىً ملحقٌ بالسجن وليس ضمنه، يُعتقل فيه ما يقارب 100 سجينٍ، هم من قوّات النظام وميليشياته، عوقبوا لمخالفتهم أوامره العسكرية. يقول أبو النور: "تمّ إجراء اللقاءات مع هؤلاء، بناءً على أوامر من قيادة السجن، بعد اجتماعهم معهم. لم يقترب المصوّرون من أجنحة المعتقلين السياسيين، ولم يتحدّثوا مع واحدٍ منهم".

 

الحياة داخل السجن

 

يعيش نزلاء السجن حياةً غايةً في الصعوبة، في ظلّ غياب أية رقابةٍ قانونيةٍ مستقلةٍ، وغياب إعلامٍ محايدٍ يطرح قضيتهم للعالم. ويُحتجَز كلّ ثلاثين معتقلاً في غرفةٍ لا تتجاوز مساحتها 45 متراً مربعاً، تحوي على أسرّةٍ عسكريةٍ مؤلفةٍ من طابقين. المساحة المخصّصة لكلّ سجينٍ هي مساحة السرير الذي ينام ويأكل ويمضي يومه عليه. تقدّم إدارة السجن وجبتي طعامٍ يومياً، الفطور والغداء، وتغيب وجبة العشاء.

 

يتحدّث أبو الفتح عن طعام السجن قائلاً: "تتألف وجبة الفطور من قالبٍ من الزبدة النباتية بوزن 200 غرام لستة أشخاصٍ، وبيضةٍ مسلوقةٍ لكلٍّ منا. أما الغداء فهو وجبةٌ من الأرزّ أو البرغل أو الشوربة، وجميعها مطبوخٌ بطريقةٍ سيئة. طعامنا يشبه طعام الحيوانات، ولكننا تعوّدنا عليه من أجل البقاء على قيد الحياة".

 

يوجد في السجن محلٌّ لبيع الخضار، ومطعمٌ صغيرٌ، ومغسلةٌ للألبسة، ومحلٌّ للحلاقة، وفرنٌ بدائيٌّ يدويٌّ للخبز، تحدّد صلاحية تشغيله بحسب نتيجة مزادٍ علنيٍّ تعلن فيه إدارة السجن عن مناقصةٍ لاستثماره، ولا يستطيع أيّ مواطنٍ عاديٍّ التقدّم إليها.

 

يقول أبو الفتح للمجلة: "تجار الأزمات هم من يربح المناقصة بشكلٍ دائمٍ. وهم ليسوا دائماً من مناصري النظام، فقد يكونون معارضين ويصعدون على ظهور الفقراء والمستضعفين باحتكارهم للسوق ورفع الأسعار. لمدير السجن ومعاونيه حصّةٌ من أرباح المحلات، فأصحابها يعملون لصالحهم. كما تنتشر عبر هذه المحالّ تجارة الحبوب المخدّرة والحشيش. ولا يستطيع أحدٌ من المعتقلين تقديم شكوى بخصوص هذه الظاهرة، لأن التجّار يقدّمون الرشاوى والهدايا بشكلٍ يوميٍّ للجميع، بدءاً من إدارة السجن وحتى أصغر عنصرٍ فيه".

 

يُجمع السجناء الذين تحدّثت معهم "صوَر" على أنّ المعتقل غير المدخّن يحتاج شهرياً بين 15-20 ألف ليرةٍ لتأمين متطلبات حياته الأساسية. يقول أبو الفتح: "في سجن حماة الجميع فقراء". ويتابع: "حتى الغنيّ لا يستطيع التواصل مع أهله ليرسلوا إليه المال، وبالتالي الجميع سواء. بيننا حوالي 200 معتقلٍ من ريفَي دمشق الشماليّ والشرقيّ، تمّ نقلهم من سجن عدرا إلى سجن حماة بداية عام 2015، في أعقاب هجومين نفذتهما كتائب معارضةٌ على منطقة عدرا، فاتهم النظام السجناء بالتعامل مع الجيش الحرّ، واختار منهم 1600 شخصٍ ووزّعهم على عدّة سجونٍ، كان نصيب سجن حماة 200 منهم".

 

ويضيف: "وضع هؤلاء المعتقلين في غاية السوء، فعائلاتهم إما محاصرةٌ في غوطة دمشق، أو لا تستطيع زيارتهم لأن أفرادها مطلوبون للنظام، أو مشرّدون في دول اللجوء كلبنان وتركيا. وبالتالي يعيش هؤلاء السجناء حياةً بائسةً، ولا تصل إليهم أية مبالغ مالية".

 

الرعاية الصحية

 

يحوي السجن مستوصفاً صغيراً لا يقدّم الرعاية الطبية المطلوبة، كما أجمع المعتقلون الذين تحدّثت معهم المجلة، يزوره بشكلٍ دوريٍّ ضابطٌ طبيبٌ برتبة عقيدٍ، وصيدلانيٌّ مرافقٌ له. يقول أبو النور: "نتعالج على نفقتنا الخاصّة بشكلٍ كامل. نسجّل على الدواء في المستوصف، وندفع ثمنه من جيوبنا ليجلبوه لنا، علماً أننا لا نستطيع الحصول على جميع أنواع الأدوية".

 ويقول معتقلٌ آخر: "يتمّ، عبر المستوصف، بيع الموادّ والحبوب المخدّرة، كالبالتان والكابتاغون، إضافةً إلى الحشيش. وإدارة السجن على علمٍ بذلك".

 

الزيارات

 

بخلاف بقية سجون النظام المعروفة والسرّية، يُسمح في سجن حماة بزيارة المعتقلين السياسيين، لمرّةٍ واحدةٍ كلّ أسبوعٍ، لمدّة نصف ساعةٍ، من خلف القضبان. ورغم أن الزيارات مسموحةٌ إلا أن أهالي المعتقلين يتعرّضون للمضايقات وللابتزاز الماليّ.

 

يقول أحد المعتقلين لـ"صوَر": "لكثرة المضايقات التي تتعرّض لها زوجتي أثناء الزيارة طلبتُ منها أن تزورني مرّةً كلّ شهر. المعتقلون يحلمون بالزيارة ويكرهونها في نفس الوقت. بعد انتهائها نفتَّش تفتيشاً دقيقاً، خشية وصول رسائل لها علاقةٌ بالثورة إلى داخل السجن".

 

ويضيف بلهجةٍ حزينةٍ: "عندما أعود إلى الزنزانة بعد كلّ زيارةٍ أشعر بحزنٍ شديدٍ، فالكثير من رفاقي لا أحد يزورهم ولا يعرفون مصير أهاليهم".

 

 

وقائع ومعلوماتٌ عن سجن حماة المركزيّ

 

يقع بالقرب من أوتوستراد حلب-دمشق، بالقرب من شارع الثلاثين، ويجاور المنطقة الصناعية.

يحوي 1350 معتقلاً: 700 بتهمٍ سياسيةٍ لها علاقةٌ بالثورة، و650 بتهمٍ جنائية.

فيه عدّة أجنحةٍ لمعتقلي الجنايات والجنح (القتل؛ المخدّرات؛ السرقة؛ السير؛ الاغتصاب). أما معتقلو الثورة فيوزّعون على 5 أجنحةٍ تحمل أسماء: (إرهاب1؛ إرهاب2؛ إرهاب3؛ إرهاب4؛ الجناح الاحترازيّ، ويقع خارج كتلة السجن الأساسية).

لا يحوي سجن حماة نساءً، ولكن فيه 20 طفلاً، تتوزّع تهمهم بين الجنائية والسياسية.

 

***

 

سجناء حماة: محاكماتنا مهزلةٌ لا تتجاوز مدّتها 30 ثانية

 

(2)

 

*سامي الحلبي

 

تتولى محكمة الإرهاب التابعة لوزارة العدل في دمشق، والتي أنشئت عام 2012 كبديلٍ عن محكمة أمن الدولة، محاكمة معظم السجناء السياسيين في سجن حماة المركزيّ. ويحاكم السجناء فيها تباعاً. مع العلم أن هذه المحكمة لم تكن، منذ إنشائها، سوى ستاراً للأفرع الأمنية.

 يروي عاطف الحمويّ، وهو أحد المعتقلين: "لا أحد منا يعرف بموعد محاكمته حتى يأتي السجان ويذيع مجموعةً من أسماء الأشخاص الذين سيتمّ اقتيادهم إلى محاكماتهم في صباح اليوم التالي، الذي غالباً ما يكون يوم الأحد".

 

 

وتتراوح أعداد الذين يقادون إلى المحكمة في المرّة الواحدة بين 30 و40 سجيناً. يروي الحمويّ: "يوضع المعتقلون في سيارةٍ متوسطة الحجم، ويحشرون في مساحةٍ ضيقةٍ جداً لا تتجاوز العشرة أمتارٍ طوال الطريق، لا إمكانية للجلوس فيها على الإطلاق. نتمنى أن تسير السيارة بأقصى سرعةٍ، من أجل دخول الهواء بكميةٍ أكبر من نافذتين لا تتجاوز مساحة الواحدة منهما ربع مترٍ مربع".

 

يؤخذ المعتقلون بدايةً إلى حمص. ويستغرق الطريق بين حماة وحمص قرابة الساعة والنصف، إذ تسلك السيارة طريق حماة-سلمية-حمص، بعيداً عن أوتوستراد حلب دمشق الدوليّ، خشية هجوم كتائب المعارضة عليها. وفي حمص يسلَّم المعتقلون إلى مجموعةٍ من الشرطة التابعين لسجن عدرا، لينطلق الموكب مجدّداً سالكاً طرقاً فرعيةً، واصلاً مع غياب الشمس تقريباً إلى سجن عدرا.

 

يحكي أبو النور، وهو أحد المعتقلين أيضاً: "الذهاب إلى المحاكمة بالنسبة إلينا ليس أكثر من يومٍ كاملٍ من الإرهاق النفسيّ والشتائم التي لا تتوقف. ركوب هذه السيارة، مع كلّ هذا العدد، لمدّة ساعتين، كفيلٌ بالتسبّب لأيٍّ كان بانقراصٍ في الفقرات".

 

 

ومع دخول المعتقلين إلى سجن عدرا يتمّ تفتيشهم من جديد. يقول أبو النور: "التفتيش مهينٌ جداً. يجرّدوننا من الثياب وهم يضربوننا بالهراوات والخراطيم، بحجّة أننا قد نحمل أسلحةً أو أدواتٍ حادّة. وبعد انتهاء التفتيش يتمّ إدخالنا إلى مهجع الإيداع الخارجيّ. وهو غرفةٌ بمساحة 12 متراً مربعاً تقريباً، كبيرةٌ بمفاهيم السجناء السوريين، في زاويتها شبّاكٌ صغيرٌ، رائحتها كريهةٌ جداً، في زواياها بقع دمٍ متخثرٍ، لا يوجد في أرضيتها أي شيءٍ للجلوس عليه".

 

يجتمع في هذه الغرفة بين 170 إلى 190 معتقلاً من عدّة سجونٍ في انتظار تقديمهم إلى المحاكمة. ويظلّ الجميع واقفين، ربما لعدّة أيامٍ، بسبب ضيق المكان. يقول أبو النور: "لا إمكانية لفعل أيّ شيءٍ إلا الوقوف بثبات. لائحة الممنوعات طويلةٌ جداً، إذ يمنع الحديث في السياسة أو إطلاق اللحية. الزيارات واستخدام الهاتف ممنوعان أيضاً. الاستراحة في هذه الفترة مرّتان أسبوعياً، ولمدّةٍ لا تتجاوز الساعة. الاستحمام مرّةٌ واحدةٌ في الأسبوع بمياهٍ باردةٍ صيفاً شتاءً. عندما يذهب المعتقلون إلى هذا الحمّام ترافقهم هراوات السجانين في الذهاب والإياب، ولذلك يفضّل الكثيرون عدم الاستحمام".

 

تُنقل يومياً مجموعةٌ من معتقلي الإيداع الخارجيّ بسجن عدرا، عبر طريقٍ طويلٍ يستغرق حوالي الساعتين، قاصدين القصر العدليّ في أوتوستراد المزة. يقول أبو النور: "المشوار إلى المحكمة رحلة عذابٍ أشدّ. الشتائم أعنف وأكثر قسوةً، تمسّ المعتقدات الدينية والأعراض. يوضع حوالي200 معتقلٍ في غرفةٍ تحت الأرض لا تتجاوز مساحتها 30 متراً مربعاً".

 

ويردف: "لا أعرف لماذا يحمل أشدّ السجانين قسوةً في السجون السورية اسم أبو حيدر! رئيس السجانين المذكور يحمل هراوةً كهربائيةً، يرافقه عددٌ من العناصر يحملون خراطيم مياه. لا يميّز ضربهم شاباً أو كبير سنٍّ، ينهال على كلّ بقعةٍ في أجسامنا مع موجةٍ من الشتائم. في البداية يفترض أيٌّ منا أن القصر العدليّ في دمشق الأكثر التزاماً بكرامة المعتقلين، فهو بيت العدالة. ولكن على العكس، هو الأعنف".

 

يشتكي المعتقلون من محاكماتٍ جائرةٍ لا تتاح لهم فيها أبسط حقوقهم، كالدفاع عن النفس أو توكيل محامين من طرفهم. ويرون أن المحاكمات التي يتعرّضون لها هزليةٌ وتفتقر إلى أبسط المعايير القانونية. يصف أبو النور المحاكمة قائلاً: "عادةً ما يرافق رئيسَ المحكمة أربعةٌ من الشبّيحة لحمايته الشخصية، رغم أن المعتقلين مكبّلو الأيدي والأرجل بالأغلال. يجلس، على يمينه كاتب العدل وعلى يساره النيابة العامة، بحضور 3 مندوبين عن الأمن القوميّ، وعنصرٍ من المخابرات". ويتابع: "يرسَل إلى المحاكمة حوالي 200 معتقلٍ بشكل يوميٍّ. ندخل على دفعتين، كلٌّ منهما من 100 شخصٍ، إلى قفص المحكمة في غرفةٍ مجاورةٍ لقاعة القاضي. ويتمّ عرضنا على القاضي على دفعاتٍ، كلّ دفعةٍ من 10 أشخاصٍ. تكون الأضابير مكدّسةً فوق بعضها أمامه. يبدأ بالكلام: "فلان بن فلان، أنت متهمٌ بكذا وكذا، أجّلت قضيتك لتاريخ كذا".

 

ويُجمع المعتقلون الذين تواصلت معهم المجلة على "أن المحاكمة لا تستمرّ أكثر من ثلاثين ثانية. كما لا يُسمح فيها للمتهم بالكلام، وإن أراد ذلك يقوم أحد الشبّيحة من مرافقي رئيس المحكمة بجرّه إلى الخارج".

 

يذكر عاطف الحمويّ: "إن استطاع المعتقل توكيل محامٍ للدفاع عنه يمنعون المحامي من الكلام، ويكون حضوره شكلياً فقط". ويضيف: "أطول محاكمةٍ قد تستمرّ دقيقةً واحدة. المتوسّط هو ثلاثين ثانية. يتمّ الحكم على حوالي 200 معتقلٍ في حوالي ساعةٍ واحدةٍ فقط".

 

 

يعود المعتقلون بعدها إلى غرفة الإيداع الخارجيّ في القصر العدليّ حتى نهاية النهار، ليُرحّلوا باتجاه سجن عدرا، حيث يبقون لمدّة أسبوعٍ أو اثنين.

يقول أبو النور: "عندما نبقى أسبوعاً في عدرا فهذا يعني أننا سنمكث لأسبوعٍ آخر في حمص. نوضع مع عناصر النظام وشبّيحته الذين عاقبتهم أجهزة المخابرات لارتكابهم مخالفاتٍ متعدّدة، وهنا يبدأ مشوارٌ آخر من الذلّ المضاعف. تخيّل أنك خرجت ضدّ هؤلاء القتلة الذين سرقوا ونهبوا ودمّروا مدينتك وقتلوا أبناء حيّك وتسكن معهم في نفس المكان! العذاب مضاعفٌ لأنك لا تستطيع أن تتفوّه بأيّ حرف. يسرقون طعامك، يحتكرون مكان نومك، يخلقون المشاكل والفتن من أجل أن تعاقَب من قبل السجّانين".

 

أما عاطف فيقول: "رحلة أسبوعين من أجل محاكمةٍ مدّتها ثلاثين ثانيةً، يذوق فيها المعتقل كلّ ألوان العذاب والشتائم والذلّ، وفي النهاية تؤجّل المحاكمة، وعليك أن تبدأ فصلاً جديداً من الانتظار والأمل في محاكمةٍ عادلةٍ لن تأتي، أو في عفوٍ يخرجنا من الجحيم، أو في تحرير المعارضة للسجن وإخراجنا منه".

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard