info@suwar-magazine.org

عن "عسكرة الثورة" وتبريرها

عن "عسكرة الثورة" وتبريرها
Whatsapp
Facebook Share

 

 

 *جاد الكريم الجباعي

 

 

قد يبدو الحديث عن "عسكرة الثورة" اليوم في غير محلّه، إذ لا يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. حدثت العسكرة وانتهى الأمر، وأسفرت عمّا أسفرت عنه، مما لا سبيل إلى ردّه. ولكن ما يلفت النظر هو المثابرة على تبرير العسكرة، كأن من يبررونها يشعرون بمسؤولية أخلاقية تثقل ضمائرهم، لا سيما أن حصادها كان كارثياً.

 

هناك فارق مؤكّد بين من عملوا على العسكرة بالفعل، وهذا ما يقتضي بحثاً معمّقاً وموثَّقاً، يبدو ألّا سبيل إليه، في خضمّ الحرب، وبين من سوّغوا الأمر أو دافعوا عنه أو ظنوه نوعاً من "حتمية" لا مهرب منها، وهؤلاء مدنيون، موالون ومعارضون. فالعسكرة لم تكن خيار بعض المعارضين فقط، بل كانت ولا تزال خيار بعض الموالين أيضاً، وكذلك "الحسم العسكري".

 

ما يمكن التأكّد منه أن السلطة كانت بادئة بما يسمّى الحلّ الأمني أو الخيار الأمني، وهذا كان ديدنها، في جميع المجالات، ولا يزال كذلك. ولكن، من السذاجة أن يتصوّر أحد أن الحلّ الأمني يمكن أن ينفصل عن الحلّ العسكري، في نظام تأسّس على انقلاب عسكري، سمّاه الانقلابيون "ثورة" ثم صدّقوا ذلك، وصدّق بعضنا أيضاً. ولو كان أولئك الانقلابيون ناصريين أو شيوعيين أو إسلاميين لما اختلف الأمر، من حيث التسلّط والاستبداد، بحكم القواعد البطركية، الراسخة تاريخياً، لتشكّل السلطة، في بلادنا. أمّا على الجانب المقابل الموصوف بالمعارضة فمن الصعب، على أمثالي، معرفة كيف تشكّلت الفصائل المسلحة، وكيف حصلت على السلاح والعتاد والمال، ولِمَ اصطبغت بعضها بصبغة إسلاموية، ضخّمها الإعلام المحلّي والعالمي حتى صبغت الثورة، منذ أواخر ربيعها القصير.

 

يقول قائل: "أثارت ظاهرة العسكرة، التي وسَمَت الثورة السورية بميسَمها بعد انطلاقتها بأشهر كثيراً من الجدل والنقاش حول حتميّة هذا التحوّل عن السلمية من عدمه, ويلاحَظ من خلال تتبّع هذا الجدل وتفحّصه، بالدرجة الممكنة من الموضوعية، محاولة المناهضين للعسكرة، بغضّ النظر عن دوافعهم وغاياتهم، التي تستبطن أحياناً موقفاً مناهضاً للثورة، قطع هذه الثورة العظيمة عن شرطها التاريخي، الذي انطلقت منه، وعن مجمل التعقديدات التي راكمها عنف النظام وهمجيته، والتدخل الخارجي الكثيف، وصراعات المشاريع والإستراتيجيات الإقليمية والدولية من أجل النفود والمصالح المتضاربة ...". إذاً، المسألة الأساسية هي حتميّة التحوّل عن السلمية أو عدم حتميّتها. الحتميّة هي الموضوع، الذي تُساق الحجج للبرهنة عليه، والثورة إحدى هذه الحجج.

 

"يستبطن" النصّ السابق مقولة "الحتميّة التاريخية"، ويدافع، بكل ما أوتي من قوة الحجة عن "حتميّة التحوّل عن السلمية"، ويصف مناهضي العسكرة بأنهم "يقطعون هذه الثورة العظيمة عن شرطها التاريخي"، أي عن قدرها المحتوم، أن تتحوّل إلى حرب قذرة.

 

فكرة الحتميّة أقرب ما تكون إلى فكرة القضاء والقدر، وهي فكرة خرقاء، بما في ذلك "الحتميّة التاريخية" عند ماركس، كذّبها الفكر الحديث وكذّبتها العلوم الأحدث، واستبدلت بها فكرة الإمكان أو الاحتمال. (كان إلياس مرقص يعرّف التاريخ بأنه توقيع أو وقعنة ممكنات على حساب ممكنات أخرى). فالشرط التاريخي للثورة لا يتّفق مع الحتميّة، بأي وجه من الوجوه، خاصة أن مفهوم الثورة، إذا نحّينا النماذج الثورية، التي لا يزال الثوريون يعتدّون بها لتبرير العنف، أقرب إلى مفهوم الفوضى، أو الكايوس أو العشوائية في علم الفيزياء، لأن "عشوائية الصغائر تفضي إلى انتظامية الكبائر"، حسب هيزنبيرغ، والفوضى تحمل ما لا حصر له من نماذج التنظيم الممكنة. وقد تعلّمت من إلياس مرقص أن "الفوضى شقيقة الحرية"، لذلك نحن لا نحب الفوضى، ونفضل عليها حكم العسكر.

 

ليس هنا بيت القصيد؛ بل في قول النص السابق: "ويلاحظ، من خلال تتبّع هذا الجدل وتفحّصه، بالدرجة الممكنة من الموضوعية، محاولة المناهضين للعسكرة، بغضّ النظر عن دوافعهم وغاياتهم، التي تستبطن أحياناً موقفاً مناهضاً للثورة، قطع هذه الثورة العظيمة عن شرطها التاريخي". إذاً، المناهضون للعسكرة، وأنا منهم، يستبطنون أحياناً موقفاً مناهضاً للثورة، ولذلك يحاولون، بكل خسّة ونذالة، أن يقطعوها عن شرطها التاريخي، الذي انطلقت منه، أي إنهم يقطعونها عن ظروف العسف والتسلّط والاستبداد والفساد ونظام الولاءات والامتيازات، الذي هدر إنسانية الإنسان والقِيَم الاجتماعية والإنسانية وهدر الوطن والوطنية. هكذا يغلق النصّ أي إمكانية للنقد، وأي إمكانية للحوار. أن تكون مناهضاً للعسكرة يعني أنك مناهض للثورة. لم يفطن النصّ إلى أنه يطابق بين الثورة والعسكرة، ويهدر القِيَم التي انطوت عليها الثورة السلمية والأهداف التي قامت من أجلها.

 

         لقد افترضتُ أن الثورة السلمية (الشابة)، التي أُجهضت، والحرب الدائرة اليوم ظاهرتان مختلفتان؛ الأولى تعبّر عن إرادة الحرّية، والثانية تعبّر عن إرادة السلطة والصراع عليها، لذلك يصعب الجزم بتحوّل الأولى إلى الثانية، إذ كانت العوامل المختلفة والمتعالقة لكل من الظاهرتين المستقلتين والمتعالقتين، تعتمل تحت سطح الواقع. فالإشكالية، في أعمق مستوياتها هي إشكالية العلاقة بين إرادة الحرّية وإرادة السلطة. والإرادتان كلتاهما من خصائص الإنسان، أياً كان موقعه الاجتماعي أو السياسي، وأياً كان مستوى وعيه وثقافته. الفرق بين إرادة الحرّية وإرادة السلطة أو بين الثورة السلمية والحرب، على ما بينهما من التباس وتداخل، يعزّز فرضية الانقسام الشاقولي بين مجتمعين، المجتمع الأهلي، التقليدي، ومجتمع السلطة، التقليدي المحدَّث، ويطرح إمكانية رؤية جديدة للثورة السلمية، ويكشف عن آليات تشكُّل الثورة المضادة وشروط إمكانها. ولا مراء في أن إرادة الحرّية أجّجت إرادة السلطة لدى المجتمعين كليهما، وإرادة السلطة، في أوضاعنا، هي إرادة الحرب، ما دامت السلطة لم تُؤخذ إلا بالقوة العسكرية، باستثناء تجربة ما بين عامي 1954 - 1958.

 

لقد نالت سوريا استقلالها عام1946 ، وغدت "دولة" أو كياناً سياسياً، يشبه الدولة، من بعض الوجوه، قبل أن يتشكّل السوريون أمة وشعباً؛ أو مجتمعاً مدنياً، يتوفر على قوة ذاتية تمكّنه من إنتاج نفسه مجتمعاً سياسياً حديثاً. فاختلط مفهوم الدولة بمفهوم السلطة أو الحكومة، ومفهوم السيادة بمفهوم السياسة، وغدت "الحكومة"، التي ورثت الإدارة الاستعمارية أو "الدولة الكولونيالية"، عَلَمَاً على السيادة الوطنية، والسلطة السياسية، والإدارة المدنية، ونواة لمجتمع جديد موازٍ للمجتمع التقليدي (بالمفرد والجمع). آية ذلك أن الناس كانوا يسمّون من يعمل في أي دائرة أو مؤسسة من دوائر "الدولة" الناشئة ومؤسساتها "ابن حكومة"، وهو تعبير عن مكانة مرموقة يتبوّؤها من واتاه الحظ بعضوية هذا المجتمع الناشئ والمحظوظ، ولو كان شاباً فقيراً غرّاً سِيق إلى الخدمة الإلزامية في الجيش، وتطوّع في صفوفه، أو في قوى الأمن الداخلي، أو موظفاً في أحد الدواوين.

 

هذه المكانة، التي تملأ صاحبها بشعور من الزهو بالنفس، وتمنحه قوة ونفوذاً تتناسبان وموقعه في المجتمع الجديد، تجاور، ولو عن بعد، مكانة الوجيه التقليدي، وتطاولها. فأضحى الوجيه التقليدي مضطرّاً أن يعزّز وجاهته ونفوذه بعلاقة ما بأحد أجهزة السلطة الحكومية أو أشخاصها، بدءاً من رئيس مخفر أو مدير ناحية أو منطقة أو محافظ أو وزير أو ضابط في الجيش أو المخابرات .. وكان المعلم والمدرس وأستاذ الجامعة يمثّل الوجه الثقافي لابن الحكومة، الذي سينافس الشيخ أو رجل الدين، مثلما سيتنافس المثقَّف والفقيه، ويتبادلان الأدوار. وكان العامة يطلقون على المعلم اسم "الخطيب" أو "الشيخ" أو "الملا"، إشارة إلى أن العلم والتعليم كانا مقصورين على المؤسسة الدينية، وأن للقراءة والكتابة بُعداً سحرياً ومقدّساً في "مجتمعات الكتاب" حسب تعبير محمد أركون.

 

وكان لانضواء الأفراد في المؤسسات والوظائف الحكومية عدة معان من أبرزها: 1 -  الانتقال من الوسط التقليدي أو البيئة التقليدية الراكدة المحكومة بالعُرف والعادة إلى بيئة جديدة، تنظمها قوانين وضعية وثقافة قانونية وخبرة إدارية، وانتقال الريفيين من هؤلاء إلى الحواضر الزراعية والمدن. 2 – حيازة كل واحد من هؤلاء سلطة مادية ومعنوية تتناسب وموقعه في المؤسسة أو الإدارة المدنية أو العسكرية أو الأمنية. 3 – تغيّر نمط الحياة وتحسّن سويتها. 4 – نشوء علاقات داخلية جديدة، أفقية وعمودية، ستشكّل بمرور الوقت قوام المجتمع الجديد ومؤسساته، وتحدّد علاقاته بالمجتمع التقليدي. 5 – الراحة التي توفّرها الأعمال المكتبية، وتقلقها إرادة السلطة وهواجس الارتقاء، باستثناء المؤسستين العسكرية والأمنية، اللتين تعملان على تحفيز إرادة القوة وتوجيهها. 6 – الامتثال لمنطق التسلسل الوظيفي والتراتب الإداري، المقرون بالطموح. ويمكن القول إن إرادة السلطة وإرادة القوة خاصّيّتان أساسيتان للمجتمع الجديد، تتكاملان وتتبادلان المواقع، وتتغلبان على إرادة الحرّية، وسيكون لاتّحادهما أثر عميق في تحديد معنى السياسة ومعنى السلطة وإستراتيجياتها وآليات عملها، وقد يفسّر الانقسام الحاصل اليوم.

 

من طبيعة السلطة أنها تميل دوماً إلى التوسع والشمول والسيطرة على الفضاء الاجتماعي برمّته، إذا لم تواجه مقاومة من المجتمع المدني، الذي يميل بطبيعته إلى الحرية والاستقلال، ويتحلّى أفراده بالشعور بالمسؤولية الملازمة للحرّية. أمّا في البلدان المتأخرة والتي عاشت تجربة الاستعمار الحديث و"تحرّرت" من سيطرته المباشرة، فإن توسُّع السلطة لا يواجه مقاومة تذكر، إمّا بسبب الاستجابة السلبية لخطابها "الوطني" و"التحرري"، وإمّا بسبب الطموح إلى الارتقاء الاجتماعي، من طريق الالتحاق بها والاندماج في عالمها، وإمّا بسبب العزوف واللامبالاة المعزّزين بالفقر والجهل والأمية، علاوة على رهبة السلطة والخوف المزمن من بطشها، وهذه كلها تعبّر عن ضعف أو فتور في إرادة الحرّية، التي استُنفدت في مقولة "التحرر من الاستعمار"، والتحرر من الإقطاعيين. وهو ضعف تمتد جذوره إلى نسيان الذات الفردية، أي إلى "الغيرية الجذرية"، التي تعني ذوبان الأفراد في البنى والتشكيلات ما قبل الوطنية، وضعف، إن لم نقل عدم الشعور بالمسؤولية .. فلم تلبث السلطة إلا قليلاً حتى اخترقت الفضاءات الاجتماعية الخاصة، ثم سيطرت عليها سيطرة تامة، من دون أن تكون فضاء عاماً، ولا سيما بعد استيلاء العسكر على السلطة، بصورة نهائية، عام 1963، وانطلاق سيرورة توسُّع المجتمع الموازي، تبعاً لتوسُّع أجهزة السلطة وتوسُّع نفوذها وتعدُّد أدوات سيطرتها.

 

أردت أن أقول: إن الحرب الدائرة اليوم لا تعدو كونها صراعاً ضارياً ومتوحشاً على السلطة، من أجل "الغنيمة والعشيرة والعقدية"، حسب الجابري، وليست امتداداً للثورة، وليست امتداداً للسياسة بوسائل أخرى، حسب مأثور كلوزفيتز.

 

في الحروب، لا تنتصر الشعوب، بل تنتصر الجيوش، ثم يختار المنتصرون شعوبهم.

 

.

.

اقرأ المزيد للكاتب..

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard