السوريون بحاجة لمعجزة اقتصادية تنقذهم من المجهول
إطلاق القبضة الأمنية لمعالجة الأزمة الاقتصادية ينذر بكارثةٍ
خبير: الإجراءات المتخذة تعيدنا لمرحلة الثمانينيات القاسية
90 % من السكان تحت خط الفقر (الليرة فقدت قيمتها، والزراعة والصناعة دون دعم)
تتدحرج كرة الاقتصاد السوري بسرعةٍ إلى قاع الهاوية، ولم يعد لدى حكومة النظام ما يمكن أن تفعله لإيقاف الانهيار المتوقع بأي لحظةٍ، لاختيارها الطريق غير الشعبي، والمسار غير الاقتصادي، لمعالجة الأزمات الخانقة المعيشية والنقدية والإنتاجية. ما ينبئ بدخول الاقتصاد السوري المنهك في مرحلة الموت السريري، نتيجةً للخسارات التي مني بها، والدمار الذي لحق به، والخيبة العارمة من الفشل في تحقيق نقلةٍ تبثّ الحياة في أوصاله، والتقاعس الحكومي عن مواجهة التحديات التنموية. هذا المشهد الذي يرتبط حتماً بحجم الديون، وكلفة الإعمار، ومعدل التضخم، يجعل من محاولة إنقاذ هذا الاقتصاد المتنوع ووقف غرقه في الوحل بحاجة إلى معجزة حقيقية.
الليرة السورية
تعبّر العملة ومستوى قيمتها أفضل تعبير عن الحالة الاقتصادية المتردية في سوريا، ورغم المحاولات الحثيثة لتجنّب فقدان الليرة ما تبقى من قيمتها أمام القطع الأجنبي، والذي لايتجاوز 10 %، ومزاعم حكومة عماد خميس بأن سعر الليرة المتداول في السوق هو سعرٌ وهميٌ، إلا أن واقع السوق يعبر بشكلٍ أكثر دقةٍ وشفافيةٍ عن ذلك. وبدا واضحاً أن الانخفاض المطَّرِد في قيمة الليرة منذ نيسان الماضي، كان أقوى من كل الإجراءات الحكومية الرامية لكبح جماح القطع الأجنبي أمام الليرة، فإن وصول أسعار الصرف إلى 1250 ليرةٍ مقابل الدولار، فهو المؤشر الذي لايريد السوريون الاعتراف به، بأن ليرتهم فقدت 25 ضعفاً من قيمتها، واقتصادهم يعيش حالياً سكرات الانهيار. ولم ينفع الإجراء الحكومي النقدي الوحيد القاضي برفع سعر شراء القطع الأجنبي إلى 700 ليرةٍ بدلاً من 435 ليرةٍ وفقاً لـمصرف سورية المركزي، في تحسين واقع الليرة وقيمتها. ومرد ذلك إلى أن معالجة المشكلة النقدية في شقها المهم تحتاج إلى قراراتٍ اقتصاديةٍ وتنمويةٍ جريئةٍ، وموقفٍ حكوميٍ تدخليٍ فاعلٍ في الحياة الاقتصادية. وهذا ما لم تفعله حكومة دمشق التي تسير بتحفظ كبير نحو تفعيل العمل الاقتصادي، ووضع حدٍّ للفساد والمتنفذين الذين يستحوذون على مقدرات البلاد، وطرح مشروعاتٍ تنمويةٍ تعود بالنفع على الناس.
إطلاق القبضة الأمنية
فوجىء السوريون بجملة قراراتٍ اقتصاديةٍ مطلع العام الجاري، تطلق القبضة الأمنية لمعالجة المشكلات الاقتصادية. وأبرز تلك التوجهات كان صدور المرسومين 3 و4 في 18 كانون الثاني 2020 اللذين فرضا عقوباتٍ صارمةٍ بحق كل من يتداول بالقطع الأجنبي كوسيلة مدفوعاتٍ أو ينشر أخباراً عن أسعار الصرف. وتضمن المرسوم 3 المعاقبة بالأشغال الشاقة المؤقتة لمدةٍ لا تقل عن سبع سنواتٍ، والغرامة المالية بما يعادل مثلي قيمة المدفوعات أو المبلغ المتعامل به أو المسدد أو الخدمات أو السلع المعروضة. فيما مضى المرسوم 4 إلى أنه يعاقب بالاعتقال المؤقت وبغرامةٍ ماليةٍ من مليون إلى خمسة ملايين ليرةٍ سوريةٍ، كل من أذاع أو نشر أو أعاد نشر وقائعٍ ملفقةٍ أو مزاعمٍ كاذبةٍ أو وهميةٍ، لإحداث التدني أو عدم الاستقرار في أوراق النقد الوطنية، أو أسعار صرفها المحددة بالنشرات الرسمية، أو لزعزعة الثقة في متانة نقد الدولة وسنداتها، وجميع الأسناد ذات العلاقة بالثقة المالية العامة.
اقرأ أيضاً:
الاقتصاد السوريّ، الانهيار واستحالة العودة
وأغلقت السلطات العديد من مكاتب الصرافة، وقبضت على متهمين يتعاملون بتصريف العملة، وكما وجهت اتهاماتٍ بحق بعض الصفحات والمواقع الإلكترونية التي تعمل بالخارج وتنشر أسعار الصرف. ويرى الخبير الاقتصادي جلال السيد أحمد أن هذه الإجراءات "لاتعالج الوضع النقدي المتأزم، كما لا يسهم إطلاق القبضة الأمنية في الموضوع النقدي في حلّ معضلة ارتفاع سعر الصرف وانخفاض قيمة الليرة، بل أن كل ذلك يزيد من القضية النقدية تعقيداً".
تُعدّ هذه الإجراءات صورةً معدلةً عن الإجراءات التي اعتمدها النظام السوري في ثمانينيات القرن الماضي، عقِب تعرضه لأكبر خسارةٍ اقتصاديةٍ، وانهيار سعر صرف الليرة وفقدان الليرة للجزء الأكبر من قيمتها، ما بين 3,5 و5 ليراتٍ إلى 50 ليرةً دفعةً واحدةً، ما دفع بالنظام إلى إطلاق اليد الأمنية لمعالجة المشكلة الاقتصادية. ولكن هذا لاينفي أن عدداً من رجال الأعمال طالبوا مراراً بالعودة إلى تشريعات تلك الفترة الزمنية التي لن ينساها السوريون نظراً لقساوتها، وأبرزهم رئيس اتحاد غرف الصناعة فارس الشهابي الذي يكرر في صفحته على الفيس بوك مقترحاته الرامية إلى العودة إلى ما يسميه "تشريعات الثمانينيات".
ارتداداتٌ اقتصاديةٌ
كما جاء تقييد حركة المبيعات في سوقي السيارات والعقارات عبر فرض فتح حساباتٍ بنكيةٍ وفقاً لقرار الحكومة الذي سيطبق بدءاً من 15 شباط القادم ليزيد من الطين بلة، ويفضح عمق المشكلة الاقتصادية من جهة والمشكلة النقدية من جهة ثانية. ويوضح الخبير السيد أحمد لـ (صور) أن هذا القرار سيكون له "ارتداداتٍ خطيرةٍ على الاقتصاد، وهو يخالف الدستور الذي يصون حقي الملكية والتصرف، وسيخلق مشكلاتٍ جديدةٍ ستظهر عقابيلها في المستقبل القريب". ويقارن الخبير مع تلك الإجراءات المماثلة التي اتخذها النظام في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي والتي مُنع المواطنون السوريون بموجبها من نقل ملكية السيارات ما دفع بهؤلاء إلى توثيق عقود البيع بشكلٍ غير قانونيٍ، وتعرض الكثير منهم لعمليات نصبٍ واحتيالٍ كبيرةٍ، متوقعاً تكرار حدوث هذا السيناريو في حال استمرت حكومة عماد خميس في إصرارها على تنفيذ قرارتها.
ضائقةٌ معيشيةٌ خانقةٌ
تحلّ الضائقة المعيشية على السوريين كضيفٍ دائمٍ ثقيل الظل، ولم تعدِ الدخول تكفي رغم محاولة ترميمها عبر الزيادة الصادرة في 21 تشرين الثاني الماضي بإضافة 20 ألف ليرةٍ على رواتب الموظفين و16 ألف ليرةٍ للمتقاعدين. ومن غير الممكن أن يكون متوسط دخل الأسرة السورية يتراوح ما بين 50 إلى 60 ألف ليرةٍ شهرياً، في حال كان رب الأسرة يعمل فقط، وضعف هذا الرقم في حال كان اثنان من الأسرة يعملان. علماً أن متوسط عدد أفراد الأسرة في سوريا هو خمسة أفرادٍ. بينما تصل قيمة الاحتياجات إلى 400 ألف ليرةٍ وفقاً لتقديراتٍ شبه رسميةٍ. ولم تعد مصادر الدخل الإضافية التي تدعم الأسر السورية كافيةً، لا سيما المساعدات التي يرسلها المغتربون والمهاجرون السوريون، كما أن شدّ الأحزمة بات خياراً غير ممكنٍ، إذ تجاوزت نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر 90% من السكان.
ويحذر الخبير السيد أحمد من "مغبة بقاء الحال المعيشي للأسر السورية على واقعه المتردي، لا سيما لجهة ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية الرئيسية والخدمات، وعدم توفر المحروقات لزوم الاستخدام المنزلي فضلاً عن ارتفاع أسعاره، وضيق ذات اليد التي تعصف بحياة الأسر السورية قاطبة، ما يفسر انتشار الجرائم وزيادة معدلها لا سيما السرقة والقتل والسطو فضلا عن الدعارة، وهذا أخطر ما يهدد المجتمع السوري وعقده الاجتماعي".
بلا صناعةٍ وبلا زراعةٍ
يعزِف المزارعون عن ممارسة عملهم التقليدي، ويتخلون عن زراعة أراضيهم، ومتابعة أعمالهم في الزراعة. يترك هؤلاء المهنة التي كانت تقيهم الفقر، وتحول دون بحثهم عن مصدر رزقٍ آخرٍ. فتجربة الموسم الماضي كانت فاجعةً على فلاحي البلاد، إذ التهمت الحرائق معظم الحقول في منطقة الجزيرة السورية والمنطقة الجنوبية قبيل حصاد الفلاحين لموسمهم، وحلّت الكارثة في العام الذي انتظره الفلاحون بعد صبر سنوات الحرب، لينضم الموسم الماضي إلى ما سبقه من مواسم، مُنع خلالها الفلاح من زراعة أرضه، ولم تكتحل عيناه لحصاد الموسم الوفير الذي سبقته الأيدي الآثمة لتفتعل الحرائق. وفي غياب الضمانات ـ كما يرى الخبير السيد أحمد ـ "لن يكرر الفلاحون التجربة المريرة، كما أن تخلي الحكومة عن الفلاحين وعدم الدفاع عن مصالحهم، وعجزها عن تسويق منتجاتهم لا سيما موسم الحمضيات تلك المعضلة السنوية، لن تشجع فلاحاً على تجديد خسارته الهائلة كل عام".
وبالمسطرة ذاتها يمكن القياس على الصناعة، جناح الاقتصاد السوري الحقيقي الثاني إلى جانب الزراعة كجناحٍ أولٍ، إذ تغزو البلاد المُهرَّبات المتفوقة من الناحية التنافسية على السلع السورية المماثلة، التي يعاني منتجوها الأمرين لتأمين المواد الأولية والمحروقات. ما يعني أن الاقتصاد السوري يتعرض للاختناق الإجباري.
الدمار الثاني
يقف السوريون حالياً على مفترق طرقٍ نهائيةٍ، فإما تقود حكومتهم البلاد نحو مستقبلٍ طبيعيٍ من خلال جملةٍ من القرارات الاقتصادية والإصلاحية التي تعيد للحياة الاقتصادية بعضاً من دورها ريثما يتم إقلاع القطار الاقتصادي، أو أن تقود هذا الاقتصاد إلى الهاوية وتدمر ما تبقى منه بقوة القرارات الإدارية غير الشعبية التي تتخذها، وتسهم في إفقار المزيد من الناس، وتدمير ما تبقى من الاقتصاد. وبات جلياً أن حكومة النظام اختارت الطريق الثاني غير المرغوب، والذي من الواضح أن نتائجه الكارثية تلوح بالأفق. وهنا على السوريين أن ينتظروا المعجزة الاقتصادية لتجنبهم الدمار الثاني بعد ويلات الحرب وسنينها التسع المنصرمة.