لماذا عبد الله أوجلان؟
لماذا عبد الله أوجلان؟
كما لو تسأل لماذا جورج حبش؟ لماذا جلال طالباني؟ أو لماذا كارلوس، مرتضى بوتو، آغوب آغوبيان؟ أو لماذا أحمد بن بيلا؟ بل لماذا ياسر عرفات؟
لأن لكل من هذه الأسماء ما قبله غير ما بعده، في الاختلاف أو في الائتلاف، فلكلٍّ من هذه الأسماء ما يولّد السؤال، وفي لحظة ما، ما يستدعي الخيال، فهؤلاء رجال لا يشبهون الزجاج الأملس، وإنما تشظِّيات الزجاج، ملامسته تجرح، غير أنها تترك ندبة في كف من يلامسها، والكف الخالية من جرح، أفضل لها أن تكون يد متسوّل لا يد رجل يولد مصادفة، ويرسم حياته بالمجازفة، يتكلّل بالانتصار، أو يخيب ظنه بالنتائج ويخيّب الآخرين، ومع الخيبة يتولد سؤال جديد، وتلك نكهة الحياة فالأموات لا يسمحون لك بممارسة الخيبة، كما لا يرسمون لك طرق النجاة.
ونعود للسؤال:
ـ لماذا عبد الله أوجلان، وكيف حدث ذلك اللقاء وقد أنتج ذلك الكتاب؟
مطلع التسعينيات، وصولاً لحواف الألفين من القرن العشرين، كنت أعمل في مجلة "الكفاح العربي" اللبنانية، ولم تكن المسألة الكردية شاغلاً ثانوياً بالنسبة لي.. كانت مسألة مرتبطة بـ:
ـ حقوق مهدورة، تعبيراتها في نفي المواطنة عن مواطن له مالي من تراب، وتراث، وتاريخ، وأغنية، ونشيد، وكلها ممنوعة، أو محاصرة بفقه محمد طلب هلال، أورثها لأنظمة تناسلت متشابهة وصولاً لعهد "البعث"، بشقّيه في دمشق وبغداد.
وكانت المسألة الكردية تعني بالنسبة لي:
ـ أمّة مزقتها الأمم، وما من أمّة حرّة تضطهد أمّة، ولن أكون حرّاً وحقوق الكردي منتقَصة، أو مصادَرة أو مهانة، فارتبطت حريتي كفرد من أمّة، بأفراد من أمّة أخرى، قلّما شهدت الأمم مقاتلون، بمناقبية مقاتليهم أقلّه بصمودهم الأسطوري في قلعة شقيف، يوم قاتلوا الإسرائيلي حتى باتت القلعة أسطورة اعترف بأسطوريتها جنرالات إسرائيل، وكانوا من مجموعات عبد الله أوجلان، وكنت إبان الاجتياح في بيروت.. صحفياً، ومتسكعاً، ومشروع منتحر، انتشله من الانتحار شباب اهتدوا إلى الحياة بالأغنية والنكتة وقيم الحياة، وللصدفة البحتة كانوا من الأكراد.
اقرأ أيضاً:
ذلك هو قاتلي
في "الكفاح العربي"، كان لي سلسلة من التحقيقات الصحفية، أستطيع القول بأنها لافتة، وكانت السلسلة متصلة بالمسألة الكردية، ومن أبرز تحقيقاتها، تحقيقات متصلة بأكراد تركيا، تلك الأمة التي مزَّقها الطوراني، كما مزَّق الأرمن / اليونانيون، وكما أحرق عثمانيوها حقول أجدادي وطاردهم في العراء.
كان الأمر لافتاً بالنسبة لأنصار عبد الله أوجلان، وكان أن توطدت علاقتي بهم، كـ:
ـ حرّ يحاور أحرار.
لم أكن حزبياً في يوم من الأيام.. لَمْ أنتمِ إلى ناد رياضي.. لم أنتمِ إلى طائفة.. عشيرة، وكنت أفضّل الملاكمة على كرة القدم، لأكون فرداً لا واحداً من مجموع.. ولدتُ وحيداً لعائلتي، وكان عليّ أن أثابر وحيداً، والوحيد يصعد وحيداً ويموت كذلك، وتلك مأثرة على ما أظن، وتلك لعنة على الحياة.
مع أنصار أوجلان، رتَّبتُ لقائي بالرجل.. وكان اللقاء.
كان عليّ أن أخرجه من عزلة القائد، وأنحاز إلى الشخصي فيه.
ـ إلى الشخص لا إلى القضية، فالبحث في القضية متوفر في الأراشيف.
وكان عليّ أن أوطّد حسّ التواصل مع رجل عاشق، مغامر، حامل لقضية ومحمول عليها، والأهم تلك الرؤى التي يمكن القول فيها بأنها أكثر من السياسة، وأقل من الفلسفة، وها هو في سجنه اليوم ينحاز للفلسفة، فيما يخوض السياسة رجال أشدّاء، أظن أن صلاح ديمرطاش واحداً من أكثرهم حضوراً، وجاذبية ومناقبية وشجاعة و.... قضية.
كان عليّ إزالة الحاجز مابين الصحفي المحاور والزعيم، وكان عليّ أن أستدرج تفاصيل الإنسان فيه، وكان عليّ أن أرى ما لا يراه محازباً، أو مناصراً، أو خصماً أو عدواً.
وتحقق الكثير مما كان عليّ، حتى بتّ شغوفاً بالمزيد، ولم يكن بيننا حاجز.
كنت أتوهَّج بالسؤال، وكان يتوهَّج بالإجابة.
بانسيابية النهر كان يحكي، وبرضى الحقل كنت أصغي، وكان كتابنا:
ـ سبعة أيام مع آبو.
طبع الكتاب في عام 1996، وأعيدت طباعته 1998.
ووُزِّع الكتاب وبكامل محبَّته ورضاه، أما ما لم يقل، فسأقوله الآن:
ـ ما أن طبع الكتاب حتى استدعيت إلى ما يسمى شعبة الأمن السياسي، وفيها كل العنف والتغوّل، والاعتداء على كرامة كاتب مسّ بهيبة دولتهم، أما المساس، فكان بالنسبة إليهم قد جاء تحت عنوان:
ـ لماذا لم تنلْ موافقتنا على طبع الكتاب؟
وكان الكتاب قد طبع في بيروت، ولن يحتاج إلى موافقتهم.
وللإنصاف أقول:
ـ لولا تدخل الدكتور حامد خليل لمكثت في زنزانتهم ربما لسنين، وثمة من يتساءل:
ـ وكيف يكون ذلك، وكان أوجلان على أرضهم وحليفهم؟
وأجيب:
ـ وكان كارلوس على أرضهم وباعوه، وكان آغوب آغوبيان على أرضهم وقتلوه، وكان مرتضى بوتو على أرضهم وخانوه، وكان جورج حبش على أرضهم وحاصروه.
وبعد:
سبعة أيام مع آبو هو كتاب "آبو" الزعيم، وكتابي الصحفي، ولو تسنى لي استكماله اليوم، لكان روايتي:
رواية من نافذة ضيِّقة تفتح على حديقة واسعة، وشمس كثيرة.
لو كان لي اليوم أن أكتب عن أوجلان، سأعيد البحث ثانية في الرماد الكثيف الذي يتساقط من هذا البركان، في بحثه أو امتناعه عن التعرف على الله، وفي تصوره للوقت.. بل للشيخوخة والأجساد المرهقة والمتيبِّسة، وفي الكيفية التي يسعى فيها الإنسان إلى النقاء.
لو تسنى لي ذلك، لأفردت مساحات أوسع عن عشقه لـ "كسيرا".. عن دوافع القتل، والتقديس وقد سكنا رجلاً اختار "الثورة"، كمواز للحب.
لو تسنى لي، لما حكيت بالسياسة، تلك المادة السائلة التي لا تحترم السؤال.
لو تسنى لي، لحكينا أكثر في ذلك الغموض، وتلك الخيانات التي تغلّف حياتنا.
ولو تسنّى لي، لحكينا أكثر عن أولئك الرجال الذين دهستهم شاحنات الطرق السريعة.
اثنان ممن عرفتهم لا يزالا يحفران بي السؤال:
ـ عبد الله أوجلان، وجورج حبش.
لايشبه أحدهما الآخر، سوى أنهما يتشابهان في أنهما يقدمان لنا خبزاً غير مباع.
أما عن الجلَبَة التي يحدثها الكتاب الآن، وبعد أربعة وعشرون عاماً على نشره، فهي جلَبَة، لا تساوي سوى الضجيج وأنا بحاجة للكثير من الهدوء.. الكثير من الصمت، ريثما يتوقف الثرثارون عن الكلام.