ما هو السِّعر اليوم لحُضن الوطن؟
قامت السّلطات السّوريّة في حزيران الفائت، بإبرام تسويةٍ لعصابة بلدة عريقة في الرّيف الشّمالي الغربيّ لمحافظة السّويداء، شَمِلت 22 شخصاً، حيث تمّ الإعلان عن عودتهم لحُضن الوطن؛ الذي لم يغادروه أساساً. وقدّمت لهم السّلطات ضماناتٍ بعدم تعرّضهم للملاحقة الأمنيّة، من الجدير بالذّكر: أنّ هذه العصابة جنّدتها السّلطات السّوريّة في بداية الصّراع في سوريا ضمن اللّجان الشّعبيّة، والميليشيات المختلفة وعلى رأسها جمعية البستان، وقاتلوا إلى جانب تلك الميليشيات في مناطق مختلفةٍ من سوريا، ولكن بعد أن قُطع التّمويل عنهم، شكّلوا عصاباتٍ محلّيّةً، مارست بالتّواطؤ مع أجهزة الأمن في محافظة السّويداء عمليّات الخطف والسّلب والقتل.
لم يكن هناك رِضىً عن هذه التّسوية من غالبية الأطراف في محافظة السّويداء، بل كان هناك استنكارٌ شديدٌ في أحاديث النّاس وعلى مواقع التّواصل، والكثير من الأسئلة التي تنطوي على مقارنةٍ جادّةٍ أو متهكّمةٍ، بين من عادوا لحُضن الوطن من خلال هذه التّسوية، ومن طُردوا ويُطردون من حُضن الوطن، وخاصّةً أنّ هذه التّسوية ترافقت مع جُملة الأحداث التي وقعت ما قبلها وما بعدها، ويمكننا استعراض بعض من هذه المقارنات: "كيف يحدث أنّ عصابة خطفٍ وقتلٍ تعود لحضن الوطن دون أدنى محاسبةٍ، وأصحاب الرّأي يُعتقلون ويُفصلون من وظائفهم؟ هل حضن الوطن يتّسع لعصابةٍ، ولا يتّسع للسوريّين العالقين على الحدود السّوريّة اللّبنانيّة؟ أين حضن الوطن من الأطفال السّوريّين الذين تمّ اغتصابهم وقتلهم في لبنان وتركيا؟ لماذا لا يتّسع حضن الوطن للجوعى والمتسولين في الشّوارع؟ هل حضن الوطن للقتلة والمجرمين فقط، بينما يدير وجهه عن أكثر من ألفي طفلٍ في ريف السّويداء صنّفتهم منظّمة اليونيسيف ممّن يعانون من سوء التّغذية؟ أين حضن الوطن من طلاب المدارس الذين تعرّضوا للتنمّر في وسط قاعاتهم الامتحانيّة من قبل اللّجان الوزاريّة؟
ثمّ جاء اعتراض محامي السّويداء الأحرار على الانتهاكات المستمرّة للقانون والدّستور السّوريّ، إن كان من خلال التّسوية التي وضعت القانون وراء ظهرها، أو بالإجراءات التّعسفيّة التي طالت المعتقلين وانتهت بتحويلهم إلى العاصمة دمشق في مخالفةٍ واضحةٍ لأصول المحاكمات. ليشكّل المشهد الصّورة البيانيّة لانحطاطٍ شاملٍ، يُعتبر غياب وتغييب القوانين أهمّ شروطه، وهذا بجملته يجعل من المقارنات السّابقة وغيرها مقارناتٍ عاطفيّةٍ تحكمها أوهام الوطنيّة (الوطن، القانون، المواطنة)، التي غذّتها على مدار العقود الفائتة الانفعالات العاطفيّة وغياب التّفكير النّقديّ، برعاية سلطة الاستبداد المتمثّلة بالنّظام ضمن إعلاناتها الكاذبة بالممانعة والمقاومة. إنّ أهمّيّة هذه الوقائع وغيرها تتعلّق بإعادة التّفكير بالكثير من المفاهيم، التي شكّلت الحقل الدّلالي لتناقضات الواقع المعاش، وإن كانت هذه الخلخلة للواقع تحمل أبعاداً كارثيّةً على مستوى الوجود اليوميّ، إلّا أنّها بالمقابل تحفر نفقاً عقلانيّاً قد يقود إلى الوضوح المغيّب، ضمن أيديولوجيا السّلطة الهرمة والمتهالكة.
اقرأ أيضاً:
إنّ الاجترار المفهوميّ لمجموع الجمل النّسقيّة التي يمارسها النّظام من عيار(حضن الوطن، الوطن الأم، أبناء الوطن)، كانت الرّكيزة الأقوى لدعايته، إذ أنها تُشكّل الذّراع النّظريّ لحربه على المجتمع، بالتّالي إنّ التّلاعب بها، يؤسّس للتلاعب بالعقول، وهذا ما كان ديدنه منذ الأب القائد إلى الوارث الهزيل الذي بات يحيا في ظلال الصّورة القاتمة للمجتمع الدّوليّ، وقد عزّزت سيطرة السّلطة على مؤسّسات الدّولة، مِن جَعلِ هذه المؤسّسات أبواقاً تضخّ الصّورة النّمطيّة للمفاهيم، وبهذا الخصوص تُعتبر وزارة التّربية والتّعليم الشّاهد الأقوى، فحضن الوطن الذي تربّيه مناهجها في وعي الطّفل، يحيلُ إلى إضفاء الطّابع الأموميّ والمقدّس على الفهم، لتتحوّل العلاقة التّفاعليّة بين الوطن والمواطن إلى علاقة مديونيّةٍ، نحن مدينون للوطن(الأمّ)، فقط لأنه الوطن الذي نعيش فيه.
فاستراتيجيّة التّلاعب العاطفيّ التي ينتهجها النّظام، والتي أماط اللّثام عنها المفكّر "نعوم تشومسكي"، تعزّز الجانب العاطفيّ اللاعقلانيّ بدلاً من الجانب التّأمليّ العقلانيّ، حيث أنّ الاستثمار في الرّواسب التّراكميّة للأيديولوجيات والعقائد التي يغذّي الخوف جذورها، يحقّق للأنظمة المتسلّطة الشّرعيّة التي تُقصي الشّرعيّات الأخرى وتجعلها تختنق، وبهذا فإنّ آليات الشّحن العاطفي التي تسمح بالمرور اللاواعي للأفكار، تنجح في زرع المخاوف والنّزعات والسّلوكيّات التي ترتئيها السّلطة، ممّا يبقي المجتمع مُغيّباً، ويترسّخ الانطباع لديه بأنّ قدراته محدودة، بحيث تتضاءل قدرة المجتمع على فهم الأساليب التي تُستخدم للسيطرة عليه، والتّعامل مع طبقاته كعبيدٍ أو توابعَ.
ولكن إنّ تصدّع الواقع، يُنتِج بالضّرورة تصدّعاً في الأيديولوجيّات التي تغلّفه، ممّا يمنح بالرّغم من تفشي الفوضى فرصةً فريدةً للتخارج عن مفاهيمه، أو النّظر إليها من زاويةٍ مختلفةٍ، فالسّلطة التي لم تعد تستطيع أن تحمي شعاراتها، لن تقوى على حماية نفسها، إلّا في الهروب إلى الأمام الذي بات يضيق بها يوماً إثر يوم، والمعارضة التي رهنت نفسها للقوى التي تقف فعليّاً ضدّ المشاريع التّحرّريّة والدّيمقراطيّة في المنطقة بشكلٍ عامٍّ، وطابع العجز الذي يقف الجميع حوله مكتوفي الأيدي، ويعود إلى فقدان الثّقة بين جميع الأطراف، هذا بحدّ ذاته قد يشكّل فرصةً مواتيةً لإعادة النّظر في كلّ ما جرى ويجري ضمن عمليّة تعريةٍ، يقودها الواقع لجميع المفاهيم التي تشكّلَ منها.
في الحقيقة هناك الكثير من الدّراسات التي تناولت مفهوم الوطن، وتتبّعته تاريخيّاً منذ أفلاطون وأرسطو إلى وقتنا الرّاهن، وقد تسعف العودة إلى المعاجم كثيراً في تحديد ماهيّته، كما يمكن للشعر العربيّ أن يوضّح الالتباس إذا ما عقدنا مقارنةً بين / بلادي وإن جارت عليّ عزيزةٌ وأهلي وإن ضنوا عليّ كرامُ/ وبين ما قاله حديثاً الشّاعر العراقيّ أحمد مطر: / نموت كي يحيا الوطن/ يحيا لمن؟ / إنْ لَم يَكُن بِنا كريماً آمناً/ ولم يكن مُحترماً/ ولم يكن حُراً/ فلا عِشنا ولا عاشَ الوطن/. إن مطلع قصيدة أبو فراس الحمداني، والذي تحتفي به كثيراً أبواق السّلطة، إنّما هو التّغييب القسريّ لمفهوم الوطن بمعناه الحديث، هذا التّغييب هو ما يفضحه أحمد مطر في قصيدته السّابقة.
فالصّورة الأبرز التي تُستعاد اليوم، في ضوء الفوضى النّاتجة عن انفراط عقد الدّولة، والتّدخل المباشر للكثيرين في قراراتها، هي الصّورة التي تعكس علاقة الوطن بالمواطن، حيث بدأت تميل هذه المرّة باتّجاه المواطن، والذي بدأ يُنظر إليه بعد 2011 كأساسٍ للوطن، وهذا بحدّ ذاته ينزع عن المفهوم الصّيغة العاطفيّة المتمثّلة بقصيدة أبو فراس الحمداني، ويعيده إلى سياقه الواقعيّ والمنطقيّ، فالتّغيّر في بنية الوعي بات ملحوظاً في السّنوات الفائتة، وقد تشي الأحداث الثّلاثة الأخيرة في مناطق سيطرة النّظام بهذا التّغيير، من خلال التّهكّم العامّ على انتخابات مجلس الشّعب وقلّة أعداد النّاخبين، وإعلان المؤسّسة السّوريّة للتجارة عن تقسيطٍ للموادّ المتوفّرة في صالاتها لمدّةٍ محدودةٍ، بمناسبة اقتراب عيد الأضحى، يشمل الموظفين فقط، الإعلان الذي لم يُحتفى به بقدر ازدرائه "حتّى الأكل صار بالتّقسيط"، إلى استثمار النّظام في الكورونا، لابتزاز المئة دولارٍ من جيوب المسافرين خارج حدودها ومئةٍ أخرى للعائدين إليه، ليعلّق أحدهم ساخراً ""سعر حضن الوطن اليوم، مبيع 100 دولار/ شراء مية دولار".
يصبح مفهوم الوطن مفهوماً إشكاليّاً فقط، في ضوء التّعميم الأيديولوجيّ لمعنى محدّد يخدم غرضاً محدّداً، حيث تُسقط الأيديولوجيّة العلاقات الدّيناميكيّة التي تشكّل الوطن، وتختصرها في علاقةٍ ميكانيكيّةٍ عكسيّةٍ، تجعل من الوطن مقدّمةً ومن المواطن نتيجةً له، وبهذا تقتصر المواطنة على الانتماء الجغرافي للمكان، دون أن تأخذ بالمعنى السّياسيّ العميق لجملة الحقوق والواجبات التي يقبلها المواطن طوعاً، على اعتباره لا يتشكّل إلّا من خلالها، ويمكن أن نستفيد من خلاصة "غسّان كنفاني" بمقاربتها مع الواقع السّوريّ، في جملته، "أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألّا يحدث ذلك كلّه".