info@suwar-magazine.org

رجالُ السّاحلِ السّوريِّ وقودُ الحربِ السّوريّةِ

رجالُ السّاحلِ السّوريِّ وقودُ الحربِ السّوريّةِ
Whatsapp
Facebook Share

             

رجالُ السّاحلِ السّوريِّ وقودُ الحربِ السّوريّةِ  

 

السّاحلُ السّوريُّ بينَ نزيفِ أبنائهِ.. وفقرِ سكّانهِ

 

انعدامُ فرصِ العيشِ يجعلُ التّوجّهَ إلى الجيشِ خيارَهمُ شبهَ الوحيدِ

 

التّفرّغُ للحربِ تسبّبَ بإهمالِ الأراضي بعدَ خسارةِ اليدِ العاملةِ

 

 

 ربّما لم تتعرّض المناطق السّاحليّة لدمارٍ وخرابٍ، كالذي عايشته مناطق أخرى، لكن ما يجري منذ سنواتٍ في سوريا، لم يترك أهل السّاحل بمنأىً عن المصائب التي لم تترك بيتاً في تلك البلاد ينجو منها. استنزفت السّنوات الأولى للحرب غالبية الرّجال والشّبّان في منطقةٍ تعاني من وضعٍ اقتصاديٍّ هشٍّ، وتعتمد على العمل الزّراعيّ المرهق بشكلٍ رئيسيٍّ.

 

لم تكن المشكلة في التحاقهم بالجيش فقط، بل في أعداد التّوابيت المتزايدة التي كانت تُنذر بمستقبلٍ يزداد سوءاً، وهي تصل إلى كلّ المناطق على ذاك الشّريط السّاحليّ، حتّى أصبح لقب "مدينة الشّهداء" يُطلق على أكثر من منطقةٍ، وكاد الشّبّان الذّكور يغيبون عن الحياة في كثيرٍ من القرى، ومن لم يفقد ابناً أو حفيداً، مازال يصارع في علاج قريبٍ له مصابٍ بإصاباتٍ تركت نسبةٍ كبيرةٍ من الشّبّان معوّقين يحتاجون لمن يرعاهم بدل أن يعودوا لأعمالهم السّابقة.

 

وتشير إحصاءاتٌ سابقةٌ لـ "مكتب شهداء طرطوس" بأنّه قد بلغ عدد من فقدوا حياتهم منذ بداية الأزمة وحتّى تاريخ 2017، نحو 7986 قتيلاً، و975 مفقوداً، و5450 جريحاً، في محافظة يقلّ عدد سكّانها عن المليون نسمةٍ، باستثناء المهجّرين الذين استقبلتهم المحافظة خلال الحرب.

 

أحد المصابين من محافظة طرطوس بنسبة تفوق 70% حدثني بأنه تمنّى لو أنه أُستُشهد؛ لأنّه كان قد ضَمِنَ لأسرته ولأولاده بعض المزايا التي تُمنح لأسرة "الشّهيد" عوضاً عن الحالة المزرية التي يعيش فيها الآن هو وأسرته، إذ أنه عجز عن تأمين فرصة عملٍ لزوجته، وليس لهم من مصدر دخلٍ بعدما تحوّل إلى معوّقٍ لا يستطيع العمل، وتأمين حاجيات أولاده الصّغار!

 

خيارٌ وحيدٌ

 

 يعتمد سكّان السّاحل على الزّراعة، رغم الصّعوبات التي تجعلها بيئةً زراعيّةً غير مناسبةٍ، إذ تتميّز بالحيازات الصّغيرة والمناخ الرّطب؛ الذي يَحول دون إنتاجٍ زراعيٍّ داعمٍ لسكّان السّاحل، والمحاصيل الأساسيّة التي يعتمد عليها السّكّان، هي الحمضيات والزّيتون، إضافةً إلى الزّراعات المحميّة (البيوت البلاستيكيّة)، ولكلّ هذه المحاصيل مشاكل تسويقيّةٍ انتهى بعضها بقلع أشجار الحمضيات؛ لأن تكاليفها أصبحت أعلى من مردودها.

 

 

يعتمد على إنتاج الحمضيات نحو 57 ألف عائلةٍ، موزّعةٍ على 357 قريةً، كما في إحصاءات وزارة الزّراعة، ولكن وبسبب مشاكل تسويق إنتاجٍ يفوق المليون طنًّ، وارتفاع تكاليف كلّ مستلزمات العمل الزّراعيّ، تكرّرت في السّنوات الماضية خسائر المزارعين؛ حتّى صار مألوفاً أن تسمع عبارة "ترك الإنتاج على أمّه" في تلك المنطقة، إذ أنّ ثمنَ المحصولِ لا يكاد يُغطي تكاليف إنتاجه، وبالتّالي يُترك الإنتاج الزّراعيّ دون قطافٍ أقلّ خسارةً، كما في مواسم الحمضيات، حالةٌ دفعت بعض المزارعين إلى قلع أشجار الحمضيات، وهذا ما شبهه الخبير التّنمويّ أكرم عفيف "بقلع الأظافر" لأنّ علاقة المزارع بالشّجرة كعلاقته بأولاده، يزرعها بذرة ويرعاها حتّى تنمو وتثمر أمام عينيه، ثمّ يضطرّ لقلعها وهي مثمرةٌ،  وتشير إحصاءات مديريّة زراعة اللاذقية إلى أنّ عدد الأشجار التي تمّ قلعها في 2017، وصل إلى 20338 شجرةً.

 

مشاكل الزّيتون والبيوت البلاستيكية لا تقلّ سوءاً عن الحمضيات، إذ يكتشف العاملون في هذا المجال أنهم ركضوا طوال العام، ولم يعودوا بشيءٍ، خاصّةً بعد الاعتماد على التّشغيل بالأجرة، لأن القوّة العاملة في غالبية الأسر ذهبت إلى الحرب. تقول المحامية في جبلة لارا، التي ذهب إخوتها الثّلاثة إلى الجيش تاركين خلفهم أراضٍ وبساتين بلا عملٍ :"إنّه من غير المنطقي أن يهجر كلّ هؤلاء الشّباب قراهم ومنازلهم ويذهبوا للدفاع عن الوطن، لكن ما يجري هو أن يتمّ تسخير الكثير منهم في كثيرٍ من الحالات باستثماراتٍ شخصيّةٍ لهذا المتنفذ أو ذاك؟!"

 

مهملٌ ومهمّشٌ

 

 الكنز المدفون الذي يملكه السّاحل هو السّياحة، لكن ورغم امتلاك كلّ مقومات وعناصر السّياحة، ظلّ هذا القطاع غير مستثمرٍ تاريخيّاً، وهو الذي كان من المفترض أن يُحدِثَ فرقاً جوهريّاً قبل اندلاع الحرب في سوريا، لكنه ظلّ مهملاً.

 

 يقول عضو غرفة سياحة المنطقة السّاحليّة السّابق د. إياد حسن في إحدى تصريحاته: " إنّ البحر والجبل والآثار كلّها أماكن غير مستثمرةٍ، لغياب الخطط الاستراتيجيّة والرّؤية الواضحة، رغم كلّ أهمّيّة السّاحل السّياحيّة، وأهمّيّته كمصدرٍ للدخل، خاصّة مع اقتصار الملكيات الزّراعيّة لما دون 10 دونمات للأسرة".

 

لكلّ تلك الظّروف ظلّ العمل في الأرض، والبحث عن وظيفةٍ في الدّولة هو الخيار المتاح مع غيابٍ شبه كاملٍ للمشاريع الصّناعيّة، أو لفرص الدّخل، وأصبحت الوظيفة في القطاع العامّ حلم كلّ مواطنٍ مهما حاز من شهاداتٍ، تقول دنيا، وهي محاميةٌ من إحدى قرى جبلة :"إنّها تقدّمت إلى أكثر من عشرين مسابقةٍ للحصول على وظيفةٍ، رغم أنّها أنهت مرحلة التّدريب كمحاميةٍ، وترى أن المنطقة لا يوجد فيها عملٌ حرٌّ، وأن ما يحصّله الفرد من راتبٍ، وإن كان لا يشبع، يبقى أفضل من لا شيء في المهن الأخرى،  ولأنّ الوظائف الحكوميّة لا تستوعب الجميع، في محافظاتٍ ترتفع فيها نسب الدّارسين والمتفوقين؛ أصبح التّوجّه إلى الجيش هو الخيار شبه الوحيد، وعاد الكثير من الشّبّان إلى الجيش بعدما أنهوا جامعاتهم، ولم يجدوا عملاً، فقبل الحرب حين بدأ العمل على تقليص أعداد الجيش كان الحصول على موافقة للتطوع يحتاج إلى الكثير من الوساطات".

 

أصبحوا وقوداً

 

 عندما بدأت الحرب، ومنذ عامها الأول صارت الطّلبات المتزايدة لاستقدام "الاحتياط" قصصاً يوميّةً، وفي السّنة الثّانية من الحرب تزايدت الأعداد المطلوبة للاحتياط بنسبٍ كبيرةٍ جداً، بحيث تصل قائمةٌ بأسماءٍ جديدةٍ من الشّبّان كلّ شهرين، حيث لم يكن يزجّ بالمحاربين الجدد في ساحات القتال بعد دوراتٍ تدريبيّةٍ قصيرةٍ، حتّى تصل إلى شعب التّجنيد قائمةٌ جديدةٌ، ويبدأ البحث والتّحرّي وملاحقة أسماء الواردين فيها المتأخرين عن الالتحاق.

 

 

لا يوجد خياراتٌ كثيرةٌ أمام الشّباب الرّاغبين في الاستنكاف، فالتّعامل مع المتخلّفين عن الالتحاق شديد القسوة من جهةٍ، ومن جهةٍ ثانيةٍ تكاد تنعدم خيارات السّفر إلى الخارج أيضاً لأسبابٍ عدّة.

 

لكنّ بعض الشّبّان طلبوا الالتحاق بالجيش لشعورهم بضرورة مؤازرة الأب أو الأخ في ساحات القتال، واعتقادهم بأنّ مناطقهم مستهدفةٌ من قبل من حملوا السّلاح. يرى عضو قيادة فرقةٍ سابقٍ في حزب البعث العربيّ بشير أحمد، إنّ دول العالم كلّها تكالبت على الوطن، ويقول: " لولا دماء أبنائه خاصّة السّاحل الذين حاربوا على امتداد مساحة الوطن، لكانت البلد سقطت في يد " داعش"، وداعميها، وأنّ أمر التّطوع لم يقتصر على الشّباب بل هنالك فتياتٌ تطوعن أيضاً في صفوف الجيش"

 

وسواءً ذهبوا بمفردهم، أم بعد طلبهم يودّعهم أهلهم وأسرهم، وكأنّهم في رحلة "السّفر برلك"، حيث لا يعلم أحدٌ منهم متى يعودون، وفيما إذا كانوا سيعودون؟ خاصّةً مع الحرب المدمّرة التي تعيشها سورية منذ 9 سنواتٍ بين أطراف الصّراع، والتي تحمل في بعض جوانبها بصمات الصّراع الطّائفيّ.

 

عندما استدعي مازن من ريف بانياس إلى الاحتياط، كان قد مضى على تسريحه من الخدمة الإلزاميّة أكثر من عشر سنواتٍ، وكان في الثّلاثين من عمره، ولكن لأنه خدم في قطاع الشّرطة كان من أوائل الذين طُلبوا إلى الاحتياط، فأغلق محلّه الذي كان يبيع فيه الألبسة في مدينة بانياس، والتحق ليصبح عسكرياً يحمل السّلاح والذّخيرة الحيّة في معاركَ حقيقيةٍ تختلف عن كلّ ما عايشه.

 

 في العام التّالي جاء اسم أخيه يامن، الذي أنهى خدمته العسكريّة منذ أكثر من 14 عاماً، وكان في الخامسة والثّلاثين من عمره، ولديه ثلاثة أولادٍ صغارٍ، جاء خبر طلبه إلى الاحتياط بمثابة الكارثة لزوجته وأهله كما يقولون، إذ لم يكن لهم أيّ صلةٍ مع قطاع الجيش، وكانوا يعتمدون على الزّراعة ومحلّ أخيهم لتأمين الدّخل.

 

 بعد التحاقهما بفترةٍ قصيرةٍ أصيب الأب بنوبةٍ قلبيّةٍ أودت بحياته من شدّة خوفه وقلقه على ولديه.  فجأة لم يبقَ لدى تلك الأسرة سوى شابٍّ أربعينيٍّ وقعت على عاتقه أعباء كلّ العائلة الاجتماعيّة والزّراعيّة.

 

 تراجع إنتاج بستان الحمضيات، وقضى الإهمال على الكثير من أشجاره، كانت والدتهم السّبعينيّة أم يوسف تبكي النّهار وربّما اللّيل بطوله، وهي تعيش كلّ هذا الضّيق، وتراقب تلك الأشجار التي أكلت من يديها وصحتها، حتّى أصبحت على هذا الحال، فهي مسنّةٌ لا تستطيع العمل، وكذلك لا يتحمّل قلبها منظر تلك الأشجار تموت دون حيلةٍ.

 

خرج الأخ الأول من الحرب بعدما أمضى ثمانية أعوامٍ من عمره تنقل فيها بين الكثير من الأماكن السّاخنة، وبعمرٍ قارب الأربعين عاماً، ليبدأ حياته من جديدٍ، بعدما ترك محلّه. فيما تعرّض الأخ الثّاني لإصابةٍ جعلته يُعاني من مشكلةٍ دائمةٍ في السّمع، وتسرّح بعدما أمضى سبع سنواتٍ، لأنه تجاوز الأربعين أيضاً.

 

 مع الأعداد الكبيرة من الشّباب الذين كانوا "يساقون" إلى الجيش أصبح المنظر العامّ للأراضي الزّراعيّة متشابهاً، بساتينٌ يملؤها العشب والنباتات البرّيّة، وأشجارٌ تميل إلى الاصفرار والتّيبس في الكثير من الأماكن التي تمتدّ عليها تلك البساتين، وأراضٍ زراعيّةٌ أكلتها "الدّيس"، والأعشاب المتطفّلة، إذ أن تراجع اليد العاملة أصبح ظاهرةً عامّةً، بالتزامن مع ارتفاع أجور يوم العمل إلى مستوياتٍ تفوق الدّخل الذي يمكن أن يحصل عليه صاحب الرّزق.

 

تُقسِمُ أمّ معين من ريف جبلة، أنها ربحت مئة ليرةٍ سوريّةٍ فقط؛ مقابل سيّارة حمضياتٍ قطفتها بالأجرة، لأن ولديها في الجيش، وكذلك نقلتها إلى سوق الهال، ودون أن تحسب تكاليف الصّناديق، لأنّها موجودةٌ مسبقاً، بالتّزامن مع الأسعار المنخفضة لكيلو الحمضيات في سوق الهال لذاك اليوم.

 

 

قِصّةٌ لكلّ بيتٍ

 

لكلّ أسرةٍ وفي كلّ بيتٍ قصّةٌ مع هذه الحرب، هنالك آلاف الأسر التي فقدت الكثير من أبنائها ما بين قتيلٍ ومصابٍ ومخطوفٍ.

 

طارق شابٌّ عشرينيٌّ، من ريف اللاذقية طويلُ القامةِ أخضرُ العينينِ صاحب ضحكةٍ لا تفارقه، أحد ضحايا تلك الحرب،  بعدما أنهى طارقٌ سنوات الخدمة الإلزاميّة، دخل فترة "الاحتفاظ"  تعرّض لإصابةٍ في منطقة الشّيفونة بريف دمشق برصاصةٍ استقرّت في مفصل الورك وظلّت عصيّةً على الخروج، ما تسبّب له بأذىً كبيرٍ في المفصل، رغم إصابته لم يتمكّن من التّسريح لأنّ المشافي في تلك الفترة تتشدّد كثيراً بمنح نسب إصابةٍ عاليةٍ، لكي لا يتمّ تسريح الشّباب المصابين، وبعد علاجاتٍ كثيرةٍ، ظلّ يعاني ألماً كبيراً في الحركة والجلوس، إلى أن التحق أخوه بالخدمة الإلزاميّة، فتمّ تسريحه لأنّ التّعليمات العسكريّة تقتضي أن يبقى عند الأسرة ولدٌ واحدٌ معيلٌ.

 

بعد التّسريح تدهور وضع طارق الصّحّيّ، إذ كان عليه أن يعود للعمل في الأرض والبيوت البلاستيكيّة، فتطوّرت إصابته كثيراً نتيجة الجهد الذي يتطلّبه العمل في الزّراعة. يتحرّك طارق بصعوبةٍ، يحمل أوجاعه كلّ صباحٍ، ويدخل إلى "الهنكار" لتأمين ما يمكنه، من مال تحتاجه أسرته وطفلاه، وهو يعرج على قدمٍ تحتاج إلى تبديل مفصلٍ إسعافيٍّ.

 

جافاهم النّوم

 

للجيش حضوره الأكبر في جميع البيوت، فمن لم يذهب متطوعاً، يذهب "سوقاً" إلى الخدمة الإلزاميّة، ومن أنهاها منذ سنواتٍ طويلةٍ، عادت لتقرع بابه باسم "طلب الاحتياط".

 

كثيراً ما تسمع من الشّباب هناك، بأنّهم كانوا وقوداً لتلك الحرب دون غيرهم من المناطق أو أبناء المسؤولين، وكانت ليالي الكثير من الأمهات مثل نهارهنّ، لا يعرفن النّوم ولا السّكينة. تتحدّث تيماء من جبلة عن أمّها التي يبدو كلّ شقاء العمر على وجهها، وعلى جسدها الذي تعتقد أنه سيتلاشى من شدّة النّحول، النّاتج عن الجهد الكبير الذي تبذله في الأرض، بعدما وصلت السّتين من العمر، مع قلقٍ تعيشه كلّ لحظةٍ من أن تبتلع الحرب أولادها الثّلاثة، كما ابتلعت غيرهم، أما الوجع الذي لا يدركه إلا من عايشه؛ فهو حياة الأسرة التي لديها ابنٌ مخطوفٌ، فحال هذه الأسر لا يمكن للكلمات أن تعبّر عنه.

 

دون تمييزٍ

 

لم توفّر الحرب أحداً، المتطوعون في الجيش وخرّيجو الجامعات والأطباء والموفدون، الجميع عليه الالتحاق بالجيش حالما ينهي دراسته.

 

تقول الصّيدلانيّة حنان: " كنت أنتظر تخرّج ابني من كلّيّة الصّيدلة على أحرّ من الجمر، لكي أسلّمه العمل بعدما أرهقتني سنوات العمل الطّويلة، لكن كان عليه الالتحاق بالخدمة الإلزاميّة حال تخرّجه" تصمت.. ثمّ وبقلبٍ يعتصره الألم تكمل حديثها، كيف أنه عاد إليها بعد عامٍ من خدمته مكفّناً، بعدما زجّوا شابّاً راقياً مثله في منطقةٍ خطرةٍ ليواجه الموت.

 

أما الدّكتور في الإحصاء علي فقد كانت  تعابير وجهه تقول كلّ شيءٍ دون أن ينطق، عاد بشهادة دكتوراه من فرنسا، وتمّ استدعاؤه من المطار إلى صفوف الجيش، يقول:" إنّ أغلب مجموعته الذين عادوا من الإيفاد استُشهدوا في المعارك، وإنه تعرّض للموت أكثر من  مرّةٍ، لا يدري لماذا لم يهتم أحدٌ لشهاداتهم وللتكاليف التي دفعتها الدّولة لتدريسهم، قبل "رميهم في أماكن كأنّها مخصّصة للموت فقط" بينما استمرّ زملاؤه الذين لم يعودوا إلى الوطن بحياتهم الطّبيعيّة هنالك، والبالغ عددهم نحو 35 ألف موفدٍ، أحياناً يلوم نفسه لأنه عاد، وفي أحيان أخرى يؤكّد أنه لو عاد الزّمن لكان خياره العودة.

 

انتظارٌ وآمالٌ معطّلةٌ

 

الفقد والخطف وسنوات الخدمة الطّويلة جعلت الحياة شبه متوقّفةٍ؛ في الإنتاج كما في المجال الاجتماعيّ، إذ تراجعت مشاريع الزّواج كثيراً، لأن أغلب الشّباب يجهلون مصيرهم، متى يعودون وهل يعودون؟ والوضع الاقتصاديّ الضّاغط على الحياة.

 

تقول المهندسة الجميلة حلا إنّها أحبّت زميلها في كلّيّة الزّراعة باللاذقية (علي) لنحو 9 سنواتٍ، لم يتمكّن من تجنّب الالتحاق في الخدمة الإلزاميّة رغم كلّ المحاولات، بعد انتهاء كلّ الخيارات رمى بنفسه بين صفوف الجيش، "عندما يذهب الشّباب إلى الجيش تتوقّف كلّ مشاريع الحياة" تقول حلا، ثم تتابع وكأنّها تواسي نفسها، "بل أيضاً قبل أن يذهبوا لأنهم في الحالتين لن يستطيعوا عمل أيّ شيءٍ".

 

بعد انتهاء المدّة المحدّدة لخدمة العلم تزوج عليٌ وحلا في إحدى إجازاته، تضيف إنها لم تشعر يوماً بالاستقرار، إذ يعود من خدمته في المناطق الشّرقيّة كلّ شهرين عشرة أيامٍ، تمضيها معه في بيتٍ يتكلّفون أعباء أجاره، إضافةً للتكاليف الأخرى المرتفعة من مواصلاتٍ ومعيشةٍ، مع توقّفٍ لأيّ مشروعٍ يحسّن حياتها ريثما ينتهي من خدمة لا تعرف نهايتها.

 

تكاد تكون لكلّ صبايا السّاحل قصصٌ متشابهةٌ من انتظار حبيبٍ أو العيش مع ذكرياتٍ بعد فراقه، أو انتظارٍ لعلّه يعود ويتزوّجوا، والنّتيجة أنّ الكثير من نساء السّاحل موزّعاتٌ بين أرامل أو زوجات مصابين، أو مفقودين، أو منتظراتٌ نهايةً لهذه الحرب وعودة هؤلاء "الوقود" إلى منازلهم أحياء.

 

 

سناء من مصياف لم يعد زوجها، وترك لها أربعة أطفالٍ قبل أن تبلغ الثّلاثين عاماً، وكان عليها تدبّر تربيتهم في ظروفٍ اقتصاديّةٍ خانقةٍ، تسبّبت بنشوب الكثير من الخلافات الاجتماعيّة التي كان سببها الرّئيسيّ الفقر والوضع الاقتصاديّ السّيء.

 

يقول العضو السّابق في مجلس الشّعب: " إنّ أكثر ما يلاحظه القاصي والدّاني؛ هو حجم الفقر الذي يعانيه سكّان السّاحل عموماً، ومنطقته الشّيخ بدر خصوصاً، إضافةً إلى صعوبات الحياة الكبيرة". كان من آثار هذه الحرب أيضاً نشوب الكثير من المشاكل الاجتماعيّة، النّاتجة عن رحيل الأزواج، وتركهم لزوجاتٍ شابّاتٍ في مقتبل العمر يواجهن الحياة بكلّ قسوتها، بأعمارٍ لم تكن كافيةً لصقلهنّ في مواجهة الحياة، ولهذا كانت المشاكل والمحاكم كثيرةً بين أهل الزّوج والزّوجات الأرامل.

 

على حساب أهاليهم

 

 لا تتوقّف أعباء الأسر عند "أخذ أبنائهم" إلى الحرب فقط، بل يقع على عاتقهم أمر متابعة علاجهم عند الإصابة، إذ أن ما تقدّمه لهم المشافي العسكريّة لا يفي بالغرض، بسبب الضّغط الكبير على تلك المشافي التي تقدّم خدماتها مجّاناً، يشكّل هذا الواقع حالةً شبه عامّةٍ إذ أن مسؤوليّة علاج الأبناء المصابين غالباً ما تقع على عاتق أهاليهم، الأمر الذي يشكّل ضغطاً إضافيّاً كبيراً على حياة الأسر هناك.

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard