info@suwar-magazine.org

التماهي بالسلطة والقوة

التماهي بالسلطة والقوة
Whatsapp
Facebook Share

 

التماهي بالسلطة والقوة

أسوأ أشكال العبوديّة، وتجلّيات غريزة القطيع

 

 

 

يجسد كتاب "اثنا عشر عاماً من العبودية" تجربة إنسانية أصيلة لنزوع الإنسان للحرية. وبالآن نفسه يقدم نماذج وتجارب إنسانية على المستويين الفردي والمجتمعي، من خلال التوثيق لقصة حقيقية لمواطن أسود حر "سولمون نورثوب"، والذي اختطف من واشنطن عام 1841، وجرى بيعه في سوق العبيد، بعد أن ولد وعاش في فضاء الحرية لأكثر من ثلاثين عاماً. ولا تتوقف الرواية عند توثيقها لمعاناة العبيد، ومدى بشاعة وشراسة نظام العبودية على النوع الإنساني –حيث أننا نجد في رواية "الجذور" لأليكس هالي أو رواية "كوخ العم توم" لـ هارييت بيتشر ستاو، صورة تنبض بالحياة حتى للأجيال القادمة من الإنسانية، لمدى بشاعة الوحشية التي مارسها الإنسان المالك للسلطة والقوة على بني نوعه. كما تلقي الضوء على هؤلاء (السادة) كاشفاً الصورة الحقيقية لوحشيتهم، منتقداً الآراء التي تحطّ من شان المستعبَدين، وبأنهم لا يدركون الحرية...؟!

 

نجد في كتاب "العبودية المختارة" لإيتان دي لابوسي، (صدر في منتصف القرن السادس عشر) " إن الحيوان لا يتنازل عن حرّيَّته إلا بعد دفاع ضروس ! ولكن الإنسان يفعل ذلك بسبب الحاجة أو بسبب غياب الوعي".

 

وفي معرض حديثه عما إذا كانت الحرية حقاً طبيعياً أم لا، وبأننا مفطورون عليها، يورد العديد من الحكايا والأمثلة من التاريخ البشري، لتوكيد دور (التطبيع والتطبع) بالمفهوم السياسي والاجتماعي المعاصر، في سلب تلك الحرية، عبر السلوك المفروض، والتكرار بحيث يصبح عادة تغلب الطبع، وتهيمن عليه، وهو ما نتلمسه على العموم في مجرى السلوك اليومي العادي للناس، وهنا يتساءل "لابوسي" عن "ما هي تلك الرذيلة التي استطاعت أن تمسخ طبيعة الإنسان (...) وأن تجعله ينسى ذكرى وجوده الأول، وينسى الرغبة في استعادته؟".

 

ويورد لنا "يحكى أن ليكورج (مُشَرِّع إسبرطة) قد ربَّى كلبين خرجا من بطن واحد، ورضعا الثدي ذاته، فجعل أحدهما يسمن في المطابخ، وترك الأخر يجري في الحقول وراء أبواق الصيد. فلمّا أراد أن يبِيّن لشعب لاسيدومونيا أن الناس هم ما تصنع بهم تربيتهم جاء بالكلبين وسط السوق، ووضع بينهم حساءً وأرنباً، فإذا أحدهما يجري وراء الطبق، والأخر وراء الأرنب. فقال ليكورج: ومع هذا فهما أخوان !

 

صرخة القهر المستلب..!

 

في معرض (نبوءة) رئيس مجلس الوزراء في سوريا قبيل رفع سعر الخبز بسوريا، توجس الشارع السوري شراً. وصباح تحققها، انفجر زعيق وصراخ لامرأة تقليدية في العقد الرابع من عمرها، تقف في آخر حشد جماهيري أمام أحد أفران اللاذقية :"امسكوه عم يصور، لا تفلتوه، سلموه لحاجز الأمن... ولا.. نحنا رضيانين عن رفع السعر..!"

 

اقرأ أيضاً:

 

الخدمات المتدنّية لسكان الساحل يفاقمها استيلاء المتنفّذون على مخصّصاتهم

 

ما حملته تلك الصرخة في طياتها، يختزل الوجه الآخر للتاريخ البشري، الوجه الأكثر عنفاً ووحشية، تاريخ عريق من الاستلاب، والقهر، يغوص عميقاً في تاريخ المنطقة، لآلاف السنوات. حيث لم تتنفس هواء الحرية أو تذق طعمه لبضع سنين، في منتصف القرن العشرين، لتنتكس بعدها بسلسلة من الانقلابات العسكرية، وتتوج بالانقلاب الشهير، انقلاب البعث الثاني عام 1970، ليكون خاتمة الانقلابات.

 

"لا يوجد خبز لا يؤكل"

 

مادام الخبز خط الدفاع الأخير للبقاء على قيد الحياة، وعندما يسقط هذا الجدار الأخير فذلك يعني الهاوية..! فالحالة الذهنية والنفسية للإنسان المقهور هي وجدانية أكثر مما هي عقلية، وترزح تحت أعباء وانفعالات نفسية معقدة، هي نتاج عملية قيصرية، بدأت منذ سبعينات القرن الماضي، ولا تزال سارية حتى اليوم، مع فارق في الدرجة بين القرنين، إذ استوحشت في القرن الواحد والعشرين، بينما كانت تكتنفها علاقة تسلطية مغلفة بفضاء من التسلط الغامض، والمترسخ عبر علاقة أبوية بين القاع ورأس الهرم.

 

في الربع الأخير من القرن العشرين، طبق الشارع القول (نمشي الحيط الحيط، ونقول يارب السترة). بينما أدار ظهره للعالم.

وكما يرى لابواسيه في كتابه المذكور أعلاه، بأنه عندما يرزح شعب ما تحت نير الاستبداد لمدى طويل، تنشأ أجيال وأجيال من الناس لا تحتاج إلى الحرية وتتواءم مع الاستبداد، شأنها شأن الجياد البرية التي ترفض اللجام ومن ثم تعتاد عليه.

 

وفي كتاب "الطريق إلى العبودية" يتساءل المؤلف فريدريك ا.هانك "هل من التشاؤم البالغ، أن نخاف من أن جيلاً ينشأ تحت هذه الظروف لا يحتمل أن يتخلص من الأغلال التي نشأ معتاداً عليها؟".

 

أما في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، نتيجة للانتكاسات التي تلقاها الشارع السوري من كل ما يحيط به، وتحت كل الرايات، ولحالة العجز والشلل في مواجهة العالم الخارجي (خارج الذات)، انكفأ على ذاته كحالة دفاع أولية، ولكن نهائية، بديلاً عن تحدي الواقع الراهن، وفيها أدار ظهره للعالم محاولاً قمع أي محاولة لتغيير حياته، متقبلاً مصيراً ويعتبره قدره الموسوم به وله، ولا بديل عنه. وما قوله "يا الله مالنا غيرك" و"حتى الله تخلى عنّا"، إلا صورة أخرى عن صرخة المرأة السورية :"نحنا رضيانين عن رفع السعر"، كانت تعبيراً عن عمق المأساة الإنسانية التي يعاني منها القاع السوري، فمن جهة هي حالة من التماهي مع المتسلط، كما أنها علاقة تبعية ورضوخ لمنطق الاستبداد وما يولده في الناس من رعب وخوف نتيجة لفقدان حس الأمان برغيف الخبز، رمز الحياة والاستمرارية، بغض النظر عن النوعية والكمية والتكلفة، المهم توافرها.

 

هنا تبرز تلك العلاقة العكسية بين عالم المستلب والمتسلط، فكلما ازداد عنف المتسلط ووحشيته وتنوعت أدواته وطرقه، كلما فقد الإنسان المستلب شيئاً من إنسانيته المهدورة، ومع استمرار نزيف الذات، تتحول الذات نحو الخارج لصب العدوانية عليه، وإفراغ تلك الشحنات الانفعالية السلبية بطريقة عدوانية. نحو وسطها المقهور والأشد قهراً، كشكل من أشكال التشفي، وقد تتخذ أشكالاً مادية ملموسة، كما في حالة (امرأة الخبز). بينما تلجأ للتعبير اللفظي والمرمّز وغير المباشر نتيجة لعاملي الخوف والرعب، اللذين غرسهما المستبد المتسلط في النفوس. وهو ما يبرر العدوانية في سلوك البعض منا تجاه الخارج، حتى ضمن الإطار الاجتماعي المقرب، من خلال لغة انتقادية هجومية أو عنفية فجة، لا مبرر لها.

 

كل ما هو خارج الذات (العالم الخارجي) يشكل بؤرة توتر واستفزاز، لا حد وسط في التعامل أو العلاقة مع الآخر، لا مكان لقوس قزح، فكل الألوان أبيض أو أسود. فالحالة النفسية هنا تتمظهر بأشكال متنوعة وكل منها يعبر عن حالة اضطهادية أو اعتُبرت اضطهادية، فأي سلوك من الآخر يعتبر هجوماً على الذات، وما تمثله، وما الحالات العنفية والتي انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي إلا شكل من أشكال،  وتعبير عن تلك النفسية المقهورة حتى القاع، وفي مرحلة من مراحل القهر والضغط النفسي تنفجر بطريقة لا يمكن تلافيها، أو التحكم بها.

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard