المجتمع المُتخلّف حضارياً
يتّسم الإنسان المُخلّف اجتماعياً بجملة من الخصائص والديناميات النفسحركية والعقلية، تميّزه عن غيره في المجتمعات الإنسانية المنفتحة على فضاءات من الحرية، الفكرية والثقافية والسياسية. حيث يهيمن العنصر الجماعي على الفردي فيه. ويطغى الأنا الجمعي على الأنا الفردي، بكل تابوهاته وطواطمه، إن كان في علاقته مع الوسط المحيط، أو الآخر.
ويشكل الشارع (العفوي)، غير المنظّم أو غير المؤطّر سياسياً الغالبية العظمى من المجتمعات (المُخلّفة)، وتتجلى الخصائص النفسية والآليات الدفاعية (الحياتية) لديه كما نظرته للكون بنمط من الجمود، والسكون إلى حد ما المرتبط بالماضي، والمثقل بإرث الزمن المفقود (الماضي الجميل)، مع محاولة للدخول في عالم الحداثة عبر النمط الاستهلاكي، الذي يتلقّفه من وسائل الإعلام النيوليبرالية، وتشييئه بالتدريج بحيث يصبح عبداً للتكنولوجيا، تسليعاً واستهلاكاً. وهنا يبدأ التفارق والصراع بين الماضي- الجميل- الذي يرتبط دائماً بفعلِ ماضٍ مُتخيّل، وحاضر ومستقبل ملموس، متخيل ونقيض بالآن نفسه، وعليه فهو بالأساس يعيش ازدواجية على المستوى الفردي والاجتماعي العام، هذه الازدواجية التي تفعل فعلها على المستوى النفسي، وتؤدي لاضطراب وعدم الاستقرار في الشخصية، ولحالة من الانفعالية والتوتر..إلخ، ومن ثم النكوص عند أول عقبة أو صدام أو مواجهة، أو حتى احتكاك مع الأخر، أو إجهار العدوانية كحالة دفاعية وقائية، لأن المحاكمة العقلية والمنطقية العلمية تكون منعدمة لديه، بسبب مصادرتها بالأصل عبر أنماط التربية والتعليم التقليدية، سواء المدرسية أو عبر العادات والتقاليد والتلقين التراثي. وهو ما لمسناه في الحاضر السوري من خلال الدعوة لدولة إسلامية، ونشدان العيش في الغرب الديمقراطي..! حيث يشكل هذا الغرب –الآخر- ملاذاً، لهارب من الموت، وتوقاً لحرية مفقودة، وبالآن نفسه عدواً ونقيضاً لحنين يعشعش في أعماق ذاته الإنسانية، لماض يرى فيه المثل الأعلى، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن ذلك ينطبق –إلى حد ما- على الفئات المؤطرة، والتي تَعتبر نفسها فاعلة في المجال السياسي، أو الفكري أو الثقافي، أو حتى الأكاديمي، وتتجلّى لدى الفئة الأخيرة من خلال التابوهات التي تضعها وتتعلّل بها خلال ممارستها. وهو ما يمكننا تلمسه من خلال ما يُطرح على المستوى النظري العام، والسلوك اليومي الخاص، ضمن البيئة الاجتماعية المعاشة. وبكلتا الحالتين هنا نوع من التغريب، العفوي أو الواعي عن الواقع المادي أو الظاهرة الاجتماعية لكليهما.
وتجليات هذه الحالة تختلف بين النمط الأول والثاني، حيث أن الأخير تأخذ لديه أبعاداً من الفاعليات الديناميكية والسلوكية على شكل تمرد ومواجهة، أو انتهازية وصولية نفعية، وهي ما عبّر عنها إعلامي بقوله في جلسة خاصة بأنه "فكر ودولار"..!. بينما لدى النمط الأول، فهي تشكل طريقة وجود مميز، بديناميات نفسية وعقلية وعلاقات نوعية، تَشرّبها من بيئته الاجتماعية ووسطه المحيط، وينتقل من الحالة الانفعالية المنفعلة، إلى الحالة الفاعلة في تلك البنية، مما يؤدي لاستمراريتها، وثبات واستقرار في صيرورتها، ومقاومة أي تغيير ممكن أن يطرأ عليها، وإعادة إنتاجها على المستوى الجمعي العام، لأنه يجد فيها الملاذ والدرع الحامي من كل عوامل القهر والسطوة والاستبداد. وتتجلى الخطورة في ذلك بإعادة إنتاج تلك البنية المُخلّفة لذاتها، أي ترسيخ عوامل التخلف، التي يسعى أصحاب السلطات والقهر، الداخليين والخارجيين لترسيخها، ومقاومتها لرياح التغيير. وليس أدل على ذلك من التكرار الأعمى للكثير من الأقوال والأمثال الشعبية التي ظهرت في عهود سابقة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: (العين لا تقاوم المخرز، جَري الوحوش غير رزقك ما بتحوش، من شب على شيء شاب عليه، القناعة كنز لا يفنى..إلخ)، وإن دلّ ذلك فعلى تلك العلاقة الجدلية بين جملة العوامل النفسية لدى الفرد والتي تشكل بنيته النفسية، والبنية النفسية الاجتماعية العامة، والتي تتطابق مع العقل والضمير الجمعي العام، أو ما يسمى بعلم النفس الأنا الأعلى. ذلك الأنا الذي يهيمن على سلوكيات الأفراد، وبالأخص بما يتعلق بالمقدس والمدنس، في الحياة العامة للفرد.
تجليات القهر والاضطهاد وجودياً:
يتناهش المستلب عالمان، أو فضاءان كَوّنا محور وجوده الحياتي، الطبيعي والاجتماعي. الأول منهما عنف الظواهر الطبيعية، من فيضانات وأوبئة وحرائق...إلخ، وأهم ما ميّز وجوده في هذه المرحلة -في المراحل الأولى من وجوده الإنساني- الخضوع لتلك القوى والظواهر، والتي شكلت وجوداً محايثاً بالتعبير الفلسفي لوجوده الإنساني ، ومتحكمة به على المستوى الحياتي، فشخصنها واتجه لعبادتها، وقدم لها القرابين والأعطيات والابتهالات، تقرباً منها واتقاءً لغضبها، ذلك الإنسان البدئي، الذي يمثل المرحلة الأولى للحضارة الإنسانية الوليدة، بمعطيات أولية بالكاد يستطيع فيها أن يمد بعمره يوماً آخر، فكل ما يحيط به نابض بالحياة سواء الحجر أو الشجر أو.. ، فهو يخوض مغامرته الوجودية والمعرفية الأولى. وما زلنا نشهد تعبيرات عنها، وممارسات في سلوكنا الجمعي حتى اليوم، تناقلتها الأجيال عبر ممارساتها الطقوسية الدينية. وعلى سبيل المثال المستفز لوجدان السوري حالياً، تلك الدعوة للقيمين الدينيين في السلطة السورية الحالية لصلاة الاستسقاء لإطفاء الحرائق التي اندلعت فيما تبقى من روح في الطبيعة مؤخراً..؟! (طبعاً بغض النظر عن تداعيات وتحليلات الحدث على المستوى السياسي، لأنه يحتاج بسبب ذيوله وتداعياته لندوات وأبحاث لا يتسع المجال لها هنا.
اقرأ أيضاً:
والفضاء الثاني، العلاقة القهرية بين ذلك الإنسان المستلب وسلطات الأمر الواقع، سلطة استبداد تبدأ من رب والأسرة العمل والمرجعيات كافة على المستوى المادي والفكري بشكل عام، حتى رأس الهرم الاجتماعي المتمثل بالسلطة السياسية، وتعمل كحلقات مترابطة بعضها ببعض عبر لقمة العيش، والتي تجعل جلّ القاعدة الاجتماعية خاضعة لعلاقة قهرية لما يليها في الدرجة، والمتحكمة في لقمة العيش، لأنها بالأساس خاضعة لتسلط عماده التحكم برغيف خبز الناس، وهو ما يولد علاقة تبعية واستزلام، ورضوخ لمنطق القوة المجهر بوجهه، في كل خطوة ومرحلة من مراحل حياته، والسير على قول المثل الشعبي (نمشي الحيط الحيط (بمحاذاة الجدار) ويا رب السترة)، هذا هو عالم الإنسان المستلب. وتكون العلاقة بين عالمه وعالم التسلط والجبروت علاقة عكسية، فكلما ازداد التسلط عنفاً وجبروتاً ووحشية، كلما فقد الإنسان المستلب شيئاً من إنسانيته المهدورة بالأصل، حتى يصل الأمر بالمتسلط للتوحش المطلق، وهذا بدوره ينعكس على سلوكه ونفسيته وعلاقته مع المستلب، من حيث تضخم أناه النرجسي الذي يمزق غلافه الإنساني حتى لا يكون عقبة أمامه بلحظة ما، وبالتالي يفقد بشكل كامل أي إحساس تجاه الآخر المستلب، أي أنه يجرده من إنسانيته، وينظر إليه كأي شيء في الطبيعة يمكن أن يسخره أو يستهلكه. نجد بالمقابل بأن المستلَب يصبح أكثر استكانة، وحتى تماهياً مع مضطهِده في أحيان كثيرة، وهو ما لمسناه في علاقة رموز السلطة السياسية في سورية لدى شرائح اجتماعية محددة على المستوى الوظيفي أو الحزبي أو الديني.
وبتضافر القِوى الاعتباطية للطبيعة، مع قوة القهر لدى السيد، وكأنه القدر المحتوم الذي يهيمن على حياة الإنسان المستلب بكافة نواحيها ومجالاتها ومستوياتها، حتى في أدق تفاصيل حياته اليومية (تجاوزاً)، إذا ما اعتبرنا بأنها حياة..!؟ اعتباراً من علاقة الرجل بالمرأة، والموظف بأي موقع هو فيه من رجل القانون إلى رجل الأمن حتى الآذن أو البواب، كل في موقعه، تترسخ فيه علاقة التغريب والاستلاب، بوعي موسوم بالقهر أو بلا وعي، حتى شمل كافة الجوانب الحياتية. نجد تلك العلاقة القسرية بين القاع الاجتماعي ومحيطه، وهو ما يرسخ لديه الشعور بعدم الأمان وانتفاء القدرة على التحكم بمصيره، وعليه يقول: (ضع رأسك بين الرؤوس وقول يا قطّاع الرؤوس). في هذه المرحلة تنتفي كل بارقة أمل، لدى المستلب، فضاءه سكون القبور، ويُرسخ هذه القناعة ويعززها بكل أنواع القهر التي يتفتق عنها ذهنه القمعي، وكل فنونه، وهو ما نتلمسه أيضاً وأيضاً في كل صنوف الأزمات التي يعيشها الداخل السوري الخاضع لسيطرة النظام. فهو ينقله من أزمة لأزمة ومن نفق لنفق ومن كابوس لكابوس، وليس آخرها حرق الأخضر في منطقة جغرافية تعادل ما يقارب ثلث أو ربع المنطقة الخضراء، والأهم تلك التي كان يعتبرها خزانه الأساسي، ورافده، مستثمراً فيها ومتفوقاً إعلامياً..! ويتبجح عبر الوسيلة الأكثر سطوة بين الناس في القاع، وهي الدين، ويرمي بسدنته لدعاء صلاة استسقاء، هم وهو، متأكدون بأنه (نهيق في صحراء)، وهو ما يعبر عن مدى استهتاره ولا مبالاته، وفقدانه لأدنى درجات الحس الإنساني بمصاب ذلك المقهور. وهذا يتجلى لدى الإنسان المستلب بأشكال شتى من التأنيب والاتكالية والدونية من خلال التسليم بأنه قدره، وحكم الله على أخطائه وخطيئته، (تلك الخطيئة التي لم يقترفها) وبأنها امتحان له من رب العالمين. لا يجروء الإنسان المستلب على التشكيك في قدرة الله وخيره وعدله، وهنا يتجلى دور سدنة التسلط في ترسيم وترسيخ ذلك المفهوم السلبي للذات الإلهية في أذهان العامة.
[1] -فضلنا هنا هذا المفهوم على مفهوم التخلف استناداً على أن الإنسان هو (معطى حضاري)، ويعبر بالتالي عن جملة العلاقات والروابط والفعاليات المجتمعية بكل تشابكاتها على المستوى الاجتماعي لبيئة مجتمعية محددة زمانياً ومكانياً، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فعملية التخلف هي نتاج فعل وإرادة مقصودين، من قبل من يمتلك السلطة والقوة، سواء في الحضارات القديمة أو الحديثة، بغض النظر على ما تستند عليه تلك السلطة في تبرير هيمنتها وتسلطها على المجتمع أو الجماعة الإنسانية.