info@suwar-magazine.org

الفساد في سوريا.. بين السلطة والمجتمع

الفساد في سوريا.. بين السلطة والمجتمع
Whatsapp
Facebook Share

 

 

عند معالجة أية مشكلة، فهذا يقتضي التعامل معها بموضوعية وصدقية والنظر إليها من زواياها المختلفة لفهم أسبابها وأبعادها ومواقعها، ودراسة كل ذلك، وبناء عليه تلمس سبل الخروج منها!

 

ولو نظرنا إلى حالة السورية، فسنجد أنه رغم كل وطأة وثقل الماضي والتاريخ والموروث، كانت البلاد تشهد منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر حركة نهضوية، وصلت إلى ذروتها في الخمسينات بعد رحيل المحتل الفرنسي، اسفرت تلك الحركة عن حالة من التقدم الاجتماعي على صعد متعددة، وأهمها الصعيد السياسي، وضع البلاد على مسار ديمقراطي أثبتت قدرتها الفعلية على المضي فيه بشكل يمكن اعتباره إيجابياً، وأخذت البلاد فيه تمتلك مقومات الدولة الحديثة والممارسة الديمقراطية الفعليتين من فصل للسلطات والانتخابات، وحرية العمل السياسي والإعلامي.

 

ساهمت هذه التجربة الديمقراطية في نشوء العديد من الأحزاب والحركات السياسية المختلفة، تمكنت من لعب أدوار مؤثرة على المستويين السياسي والاجتماعي في البلاد. لكن هذه القوى السياسية الناشئة كانت متأثرة بالخارج بدرجات وأشكال مختلفة، إلى جانب تأثير المورث المحلي بكافة مجالاته، التي تدخل فيها العوامل الثقافية الدينية والعُـرفية والبنى الاجتماعية التقليدية كالطائفية والعشائرية، وأساليب وعلاقات الإنتاج الاقتصادي التقليدي.

 

كانت في سوريا بعد الاستقلال، خمسة نماذج من الحركات السياسية، وهي: العروبية والاشتراكية والإسلامية والقومية السورية والليبرالية. هذه الحركات لم تكن منفصلة كلياً عن بعضها البعض، فالبعثيون مثلاً جمعوا بأسلوبهم الخاص بين العروبة والاشتراكية، ولم يتخلوا عن الإسلام الذي وافقوا بينه وبين العروبة ووحدوا تاريخيهما أيضاً، وحتى الليبراليون السوريون، ولم يتبنوا ليبرالية علمانية كما هو الحال في الغرب، بل حاولوا إنتاج ديمقراطية هجينة تجمع بين الليبرالية الغربية والتقاليد الإسلامية.

 

لكن مع ذلك، فكل تلك الحركات تأثرت بشكل رئيس بالغرب، وما نشأ وتطور فيه من قوى، فالليبراليون اقتدوا كثيرا بالديمقراطية الغربية، والقوميون العروبيون والسوريون تأثروا كثيراً بالحركات القومية التي ظهرت في الغرب، والاشتراكيون العروبيون منهم أخذوا أيضاً الكثير من اشتراكيي الغرب، وحاولوا التوفيق بينه وبين الثقافة العربية الإسلامية كما فعل البعثيون والناصريون، والشيوعيون أخذوا بالكامل بالماركسية التي نشأت في أوروبا، وبعضهم حاول تعريبها، وحتى الإسلاميون كانوا بدورهم متأثرين بقوة بما يحدث في الغرب، ورغم تركيزهم على الإسلام وتاريخه وتراثه ورفضهم وعدائهم للثقافة الغربية، فقد طوروا مفهوماً مسيـّساً لفكرة "الأمة الإسلامية" جعلها تصبح ضرباً من "الأمة القومية القائمة على رابطة الدين" في مقابل مفاهيم الأمم الأوروبية التي طرحت على أساس العرق أو الرابطة الاجتماعية أو المصلحة المشتركة أو سواها!

 

اقرأ أيضاً:

 

من يومياتِ حكومةٍ فاجرة

 

كل ما تقدم من قوى كانت تتميز بطابعها الشمولي باستثناء الليبراليين، الذين لم يتطوروا كمّاً وكيفاً إلى مستوى القوة المتبلورة الفاعلة، وظلوا قوة هشة متذبذبة ومرتبطة بشكل رئيس ببرجوازية المدن الكبرى، ولاسيما دمشق وحلب، ما أدى إلى بقائهم بعيدين عن البيئات الشعبية الفقيرة الواسعة في الأرياف والمدن الصغيرة وأطراف المدن الكبيرة، وأفسح المجال للقوى ذات التوجهات اليسارية بأن تنشط وتنتشر أكثر في هذه المناطق كما فعل البعثيون.

 

تلك الشمولية لدى القوميين العروبيين والسوريين والشيوعيين والإخوان المسلمين كانت متأثرة كثيراً بنمط الأحزاب الشمولية في الغرب، القومية منها أو اليسارية، فالأحزاب الشيوعية في الغرب لم تكن تعترف بالتعددية الليبرالية، وكانت ترفضها بل وتحاربها.. وترى فيها لعبة سياسية لخدمة البرجوازية والرأسمالية، كما كانت تركز على ديكتاتورية البروليتاريا، التي أصبحت ديكتاتورية الحزب الواحد في النموذج السوفييتي الستاليني، الذي أصبح قِبلة جُلّ شيوعيي العالم بعد انتصاره في الحرب العالمية الثانية، وتالياً ضخَّم ورسّخ دور الشخصية القيادية ليعيد إنتاج ظاهرة الزعيم، وعلى خطّها سارت الأحزاب القومية التي قدمت تجارب بارزة في ألمانيا هتلر وإيطاليا موسولوني.

 

 وهذه التجارب رغم عواقبها الكارثية الوخيمة.. خلقت بدرجة أو بأخرى وبشكل مباشر أو غير مباشر نموذج قدوة للكثير من الحركات القومية الأخرى، ومن بينهم قوميونا العروبيون والسوريون وإسلاميونا السياسيون، وإن لم يعترفوا بذلك.

 

وبالطبع هذه الشمولية توافقت تماماً لدينا مع مواريث "تعظيم الزعيم" و"الفرقة الناجية" المتجذرة تاريخياً، والتي تكرّس وتعزّز نزعات السيطرة الفردية، ورفض الاختلاف وإقصاء أو إلغاء الآخر، وهذا ما عزّز ونمّى، وفاقم تلك التوجهات الشمولية ذات المنشأ الخارجي.

 

وعدا عن ذلك فقد تأثرت كل القوى السياسية الناشئة بقوة، وإن اختلفت درجاتها وأشكالها، بما في واقعها من عوامل ثقافية واجتماعية راسخة، كتدنّي مستوييّ العقلانية والعلمية في التفكير، وقوة الذهنية الإيمانية، وتفشي وحِدّة الانتماء والولاء للجماعة كالطائفة والقبيلة والعرق وهلم جرى.

 

في حصيلة كل ما تقدم، إضافة إلى الدور الضخم للقوى الخارجية وما في سياستها من تنافسات وأطماع ومآرب ومؤامرات، وإلى دور وجود إسرائيل الهدام في المنطقة، وإلى تجربة الوحدة الفاشلة وديكتاتورية دولتها التي أوهنت الديمقراطية السورية، وقوضت الوحدة نفسها، انتكست التجربة السورية، وسقطت البلاد تحت نير الديكتاتورية في غطاء "ثورة البعث" المزعومة.

 

ما تقدم يوصلنا إلى نقطة هامة في تقييمنا لحالة الفساد والفشل الاجتماعي الطاغية المستفحلة على المستوى السوري، وهو أن الدكتاتورية الحاكمة فيها هي ليست من نتاج الماضي ولا هي من إفراز الموروث -رغم أنهما بكل تأكيد لهما حصّتان وازنتان مؤثرتان في ذلك- كما يحلو للبعض أن يطرح على مبدأ "كما تكونوا يولى عليكم"، وبذلك يحمّلون وزر الفساد، بل، وقيام وبقاء الديكتاتورية لفساد الشعب اجتماعياً وثقافياً، المتوارث عبر الأجيال على مدى القرون، فهذه الحالة الديكتاتورية هي محصلة عوامل عديدة، ومن بينها بكل تأكيد "شمولية الحزب الواحد" المتعاضدة مع "موروث الفرقة الناجية"، وهي صفة كانت تتصف بها.. بل وتنطبع بها جل الحركات السياسية التي كانت ناشطة في سوريا، ما يعني أن المشكلة ليست محصورة في "البعثيين" وحدهم، فالناصريون أثبتوا بدليل التجربة المحلية القاطع أنهم ليسوا أفضل، والشيوعيون ما كانوا ليكونوا أفضل، فهم يحملون نفس تلك الأفكار الشمولية، وقد أثبتت تجاربهم فشلها في دول عديدة بسبب ذلك، وأسوأ من ذلك الإسلاميون وتجاربهم الكارثية الواقعية في أكثر من بلد.. التي تجعلنا نجزم بأنها كانت ستكون وخيمة العواقب فيما لو حكموا سوريا، فهل كان القوميون السوريون سيكونون أفضل لو حكموا؟ هذا ما يمكن الإجابة عليه بثقة بـ "لا"، فهم بدورهم ينتمون إلى نفس الذهنية الشمولية، وتضاف إليها الطبيعة العنصرية، وفي معظم الأحيان كانت العواقب سيئة أو شديدة السوء حيث حكم القوميون أيا كانت قومياتهم كما تدل تجاربهم السياسية في العديد من دول العالم، ما يعني استبعاد احتمال أن يشكل القوميون السوريون استثناء.

 

خلاصة الأمر هي أن الشمولية، ولاسيما سياسة الحزب الواحد، أثبتت فشلها ووخامة عاقبتها في كل مكان اتـُّبعت فيه، وهذه حتمية لا استثناء فيها، فحيث يحكم الحزب الواحد يتم إفقار البلاد على مستوى النشاط السياسي والمدني والثقافي، فالحزب الواحد لكي يُحكم وحدانية سيطرته.. يقضي على منافسيه من القوى السياسية من أحزاب ومنظمات أو يخضعهم عنوة لسيطرته، ويحولهم إلى مجرد أتباع هامشين، ونفس الأمر ولنفس الغاية يفعله مع منظمات المجتمع المدني ومع المؤسسات الثقافية والإعلامية، ولكي يتم له ذلك ينتهج سياسة بوليسية قمعية شديدة، ويصبح معيار الولاء هو المتبع في تولي المسؤولية والتكليف والتوظيف، فتمنح الامتيازات للموالين ... ويقصى الآخرين ويوضعوا في دائرة الشك والاتهام، ما يؤدي في المحصلة إلى انتشار ثقافة الخوف والسكوت والرياء، وإلى تفشي الانتهازية.. حيث يتقاطر الانتهازيون والفاشلون إلى الحزب الحاكم متظاهرين بالولاء ليحصلوا على الامتيازات التي يقدمها.. وتتم توليتهم ووضعهم في مراكز المسؤولية في الحزب ومؤسسة الدولة التي تكون في شمولية الحزب الواحد متماهية مع الحزب الحاكم، وفي النتيجة يفسد هذا الحزب نفسه ويفسد معه مؤسسة الدولة، وحين تفسد الدولة سيفسد المجتمع بكل تأكيد، لأن الدولة هي مركز قيادة المجتمع التي يفترض فيها أن تقود المجتمع في سبل الصلاح وتبعده عن سبل الفساد، فإذا تحولت هي نفسها إلى مفسدة، فهي حتماً ستدفع المجتمع إلى الفساد، وفي حالة الدولة الشمولية، التي تصبح القوة الفاعلة الوحيدة في المجتمع، ولا يعود لدى المجتمع أية قوى أخرى، عندما تفسد هذه الدولة تكون الكارثة أكبر ويغرق المجتمع في الفساد، فمركز ومصدر القوة الوحيد المتمثل في هذه الدولة يصبح عندها مركزاً ومصدراً وحصناً للفساد، فمن سيحارب الفساد عندها والفساد هو السيد العتيد، ومن أين سيأتي "الصلاح" وليس لديه من موقع أو قوّة؟!.

 

في هذه الحالة يصبح من العبث أو الكذب تحميل أي وزر في الفساد للمجتمع أو الشعب أو المثقف أو المواطن، الذين يصبحون جميعهم بلا قوى، ولا يمكنهم في وضعهم هذا أن ينتجوا خيراً أو شرّاً، فالدولة هنا تصبح هي ربّة وإمامة وسيدة الفساد، والوزر الوحيد الذي يتحمله الشعب والمجتمع والمثقف والمواطن هنا هو وزر تحمّل هذه الدولة، والخضوع لفسادها، والحل الوحيد يكون عندها هو التحرر منها ومن فسادها.

 

وهذا ما ينطبق على حالتنا السورية، وعلى بقية (العرب)

 

 

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard