السوريون و سؤال الحرب
عامٌ آخر سيمضي قريباً، ويغلق دائرة العقد، والسوريون بلا عيد منذ اقترفت أيدي أبنائهم الخطيئة الثانية بالامتداد إلى ثمرة الأبد، وعامٌ آخر ربما سيحل ثقيلاً كسابقه ويضيف إلى آلام السوريين وأحزانهم وجعاً جديداً، وجع الأسئلة الواخزة للعقل والضمير كسؤال الحرب. الحرب التي باتوا ينتظرون من يطفئ حرائقها وينصف ضحاياها أمواتاً وأحياءً، ويخرجهم من برزخ العبور العسير من الموت إلى الحياة. فمن ينهي الحرب اليوم ليس من بدأها، ومن بدأ الحرب لا يتحكم بمصيره ولا بمصيرها، ولا فائدة بعد ذلك من لعن من أيقظ الفتنة النائمة.
متى وكيف تتوقف الحرب؟ ومن ينهيها؟ هو السؤال الصعب، والذي قد تغدو الإجابات المتنافرة عليه سبباً آخر في استمرار الحرب وإطالة أمدها رغم وصولها إلى ما يعرف بنقطة "الجمود الضار"، أي عدم الجدوى من استمرارها، وزيادة خسائر المتحاربين على أرباحهم بميزان الربح والخسارة، الذي لا تدخل فيه قيمة الإنسان على كلّ حال، وتراجع إمكانية تحقيق تقدّم عسكري جديد لأي من أطرافها رغم إمكانية إدِّعاء ذلك من أي طرف. وتزداد صعوبة السؤال كلّما تجاوز حدود الحاضر ولامَسَ تخوم المستقبل المفتوح على احتمالات تفرضها ممكنات الواقع وليس رغبات المتحاربين.
فسؤالنا لماذا لا تتوقف الحرب السورية؟ ومن يوقفها؟ ينفتح على سؤالٍ أكبر عن مستقبل سوريا ما بعد توقُّف الحرب، ما هي جغرافية سوريا الجديدة؟ وما هي هويتها؟ وما نوع علاقتها مع الدول الإقليمية والدولية الكبرى، وقواتها العسكرية الموجودة على أرضها؟ ما هي المشاريع الوطنية التي تحملها أحزابها السياسية الجديدة، التي تشغل أسماؤها التي لا تحصى حيزاً في العالم الرقمي، ولم يتح لها أن تشغل مكاناً يساويه على الأرض؟ وهل تستطيع الحركات الاحتجاجية ومنظمات المجتمع المدني كفاعلٍ اجتماعي جديد لا يستقلُّ تماماً عن السياسة في بلداننا أن تساهم في عملية الانتقال السياسي، ورأب الصدوع الاجتماعية الناتجة عن العنف، والتأسيس لعقدٍ اجتماعي جديد وهوية وطنية جامعة؟ ما طبيعة الدولة السورية ونوع نظامها السياسي، وشكل حكومتها، وبرلمانها، وأحزابها السياسية؟ وما هو مصير طغاتها وجيوشها ومليشياتها ونسيجها الاجتماعي المفكَّك والمتهتِّك؟ وما هو مصير المحاربين؟ ما مصير المعتقلين والمعتقلات والمغيَّبين والمغيّبات قسراً في سجون ومعتقلات السلطة والمليشيات المتحاربة؟ ومن سيردّ الحقوق إلى أصحابها؟ وما نوع العدالة التي ستحاسب المسؤولين عن الفظائع التي ارتكبوها؟ ومن يدفع فاتورة إعمار المدن المهدَّمة ويعيد النازحين والمهجرين والمشردين إلى بيوتهم ويجبر أضرارهم، ويعيد الألوان البهيجة لبلدٍ تلوَّن بالكاكي والأسود بالكامل، وينقله من ثقافة الموت إلى ثقافة الحياة، ويوقف مشاعة السلاح ليوقف مشاعة الإنسان...؟
أسئلة أخرى كثيرة تتناسل من تلك الأسئلة التي تلحّ على طلب الجواب والتفكّر فيها، وتقدير الوقت اللازم لإنجازها، والعقل القادر على تفكيك رموزها، حتى تعرف الأجيال التي ستقرأ غداً تاريخ أسلافها أنها لا تقرأ تاريخاً مزوَّراً، وتعرف ما هو ثمن الحرية وما هو ثمن غيابها، ولماذا وكيف وقعت الحرب؟ ولماذا لم يستطع الشعب السوري أن يبني دولة حديثة ونظاماً سياسياً يتوافق مع منطق العقل ومنطق التاريخ؟ دولة تليق بتميّزه وتليق بمستقبل أبنائه، ويتحاشى الانحدار نحو القطيعية والتوحش.
أسئلة لا نمتلك حتى اليوم أجوبة حقيقية لها، وليس لدينا مقاربات متقاطعة حولها حتى اللحظة، ومنّا من لا يزال ينكر ضرورتها، ومنّا من يعتقد أن عنده جواباً واحداً ونهائياً عن جميع الأسئلة. ولو كانت لدينا تلك الأجوبة والمقاربات من قبل لما وقعت الحرب، أو لما استمرت حتى اليوم على أقل تقدير.
اقرأ أيضاً:
تقرير لجنة التحقيق الدولية يكشف الانتهاكات المروّعة بحق المدنيّين في سوريا
ليست الحرب السورية هي الحرب الوحيدة في التاريخ الحديث، وقد لا تكون الأخيرة حتى في سوريا ذاتها، لكنها الحرب الأقبح والأكثر وحشيةً ودمويةً وعنفاً وتدميراً، فكلّ السلطات الاستبدادية قهرت شعوبها وحكمتها بالقوة العارية، لكنّ دكتاتوريات العسكر التي تحوَّلت إلى توتاليتاريا متوحشة، حسب تحليل حنا آرندت، لم تقف عند ذلك فحسب، بل أنهكت مجتمعاتها، وحرقت بلدانها، وأخرجتها خارج التاريخ، ورهنتها لمصالح الدول الأخرى، وهدرت ثقافتها وعمرانها وفنونها وتراثها، وهدرت إنسانها. وأصبحت عاجزة موضوعياً عن وقف الحرب ووقف الهدر لأنها لا تستطيع أن تتحمّل تبعات السلام، ما دام السلام الحقيقي والوئام في مجتمع متنوع الثقافات، ومتعدد الإثنيات والطوائف لا يتحقّق إلا على أساس التشاركية الحرّة الخلاقة والتعددية، وقيم التضامن والتسامح، والمواطنة الحديثة، والمساواة بالكرامة الإنسانية لجميع المواطنين دون تمييز على أساس الجنس أو العرق أو اللون، والاعتراف بالاختلاف وحقّ الاختلاف. وهذا لا يتحقّق إلا على حسابها، وبنفي الاستبداد، ونفي منظومته الفكرية والسياسية، ونفي مقومات التسلّط.
قد تتوقّف الحرب غداً أو بعد غد، لكن توقّفها لا يعني عدم احتمال تجدُّدها ما لم ينتهِ الاستبداد. فالاستبداد في مجتمعاتنا ليس واقعاً سياسياً فحسب، إنما هو ثقافة بكلّ ما تعنيه كلمة ثقافة. ثقافة الاستبداد تلك التي تربّي الفرد على الطاعة والولاء والخنوع والامتثال في البيت، والمدرسة، والوظيفة العامة، والخاصة، والنقابة، والحزب، والمؤسسة الدينية والعسكرية، وتحطّ من قيمته الفردية لترفع من قيمة الجماعة، وتخلط بين معنى الضعة والتواضع، وبين الاحترام والخوف، عن جهلٍ أو عن نفعٍ ومكرٍ ودهاء، لا تنتج غير الرعيّة و"سلطة الراعي المسؤول عن رعيته"، وسلطة الأبوية البطريركية والأبناء الطائعين، أو سلطة القوة والغلبة وأخلاق العبيد. ولا تستبطن غير التعصب والعنف الذي يتمظهر بالتماهي مع المستبد، أي مستبد، وعبادة شخصية الفرد والاستعداد لفدائه والحرب من أجله وحرق المدن من أجل بقائه.
لقد حلم الكثير من السوريين بالحرية والكرامة الإنسانية، ومن حقّهم أن يحلموا كسائر شعوب الأرض، وصرخوا باسمها ملء حناجرهم، لكن لم يُتح لهم الانتقال من الصرخة إلى الكلمة، ومن عقل اللغة إلى لغة العقل، فكانت الحرب، وكانت أسئلتها الحارقة التي تفرض العودة في كل مرّة إلى كلمة البدء ولحظة الصفر، وإعادة بناء كلّ شيء قبل إعادة بناء المدن والبيوت: إعادة قراءة التاريخ، وإعادة تأثيث الذاكرة الجمعية، وإعادة بناء الهوية، وإعادة بناء الدولة، وإعادة بناء السياسة والأحزاب السياسية، وإعادة بناء الثقافة، والتربية والتعليم، ... وسلسلة طويلة من المراجعات التي لا تنتهي ولا يحوز أي منها أدنى إجماع ينقلها من ساحة السجال الكلامي إلى ساحة الفعل التي أعادتها الحرب إلى صلصالها الأول، وأعادت المجتمع إلى حالته البدائية في حرب الكلّ على الكلّ، حسب تحليل هوبز، وتركت الأسئلة معلّقة من أعناقها بذيل نهايتها.
ومع تقلص حظوظ السوريين في تقرير مسار الحرب وتقرير مصيرهم، غدت الأسئلة أكثر تعقيداً وأكثر ألماً، وصارت أجوبتها معلَّقة بتغيّرات العالم المحيط من حولهم ومدى توافق مصالح أصحاب القرار مع ما تبقى من إرادتهم. وماذا يتبّقى من إرادة الكائن البشري عندما تنحصر همومه في الدرك الأدنى من هرم ماسلو في ترتيب حاجات الفرد، تلبية حاجات الجسد والمأوى الآمن، غير إرادة البقاء وتنازع البقاء، ولو على حساب انحدار سلَّم القيم والأخلاق.
فهل سيغلق العام الجديد سلسلة العقد الأول من الحرب، ويحمل العقد القادم تغيّراً دراماتيكياً يفتح الطريق أمام السوريين نحو بناء عقد اجتماعي جديد يعيدون من خلاله بناء حياة خميرتها الفوضى؟ أم سيبقى الناجون منهم يزاولون مهنتهم القديمة، دفن أمواتهم بأكفان الحيرة وتعقيم جراحهم بالصبر وملح الانتظار؟