info@suwar-magazine.org

أزمة الإبهام والإقصاء في الهوية السورية

أزمة الإبهام والإقصاء في الهوية السورية
Whatsapp
Facebook Share

 

 

يتداعى السوريون ويأتمروا ويتناقشوا في النقاط المتقدمة، قبل أن يتفقوا على حجر الأساس الذي يجب أن يبنوا عليه، وهو الهوية! تكمن أهمية الإجابة على سؤال هوية أبناء الدولة السورية، في أن هذه الهوية سيكون من شأنها تحديد كل ما يتعلق بالمؤسسات والقوانين، والتفاصيل الثقافية، وحتى المشاريع المؤقتة والخطط الاستراتيجية. وبسبب أن الهوية السورية غير محسومة لا نزال نحيا في تخبط وضياع، وتتجاذبنا الهويات الأخرى الفرعية أو الشخصية أو حتى الارتماءات إلى هويات مغايرة أو كبرى! وتفتح المجال واسعاً أمام القوى الخارجية للتدخل فينا تحت أسماء مشاريعها الإقليمية والدولية والدينية وغيرها..

 

قد يكون من السهل علينا، القول أننا سوريون! لكن الغوص في تفاصيل هذه الإجابة سيكشف عن تناقضاتٍ هي التي لن تسمح في المستقبل باتفاق على تفاصيل هذه الهوية، وبالتالي تفاصيل شكل الدولة ومؤسساتها وقوانينها، فكل تيار وفئة تُدرِج تحت هذا العنوان ما يمثلها، وتستثني ما لا يمثلها، ولا يستطيع أحد الوصول إلى صيغة جامعة للجميع، بل إن البعض في تلك اللحظة التي يكتشف بها تناقض الهوية وتخبطها، يلجأ إلى الطريقة البدائية في حل التناقضات والخلافات، وهي الإقصاء أو الإلغاء أو الإخضاع! وقد تعتقد التيارات التي تتصدى للهوية أنها تملك الرؤية الأوسع أو الأفضل أو الأشمل أو الأعدل.. إلا أن مناقشة بسيطة لتلك الأفكار ستُظهِر لنا عيوب شموليتها، وقصور مقاربتها للواقع بما يكفي لتفي كل شرائح وفئات المجتمع وتياراته حقها، دون أن تسأل تلك التيارات التي تتحدث باسمها إن كانت فعلا تُمثلها؛ بل ولا يراودها شكٌ بأنها قد تكون مخطئةً! وهو ما يعتبر إحدى سمات المجتمعات التي تعيش فترة ما قبل الهوية الوطنية.

 

 

يذهب التيار الديني، من وجهة نظر أصحابه إلى اعتبار أنه المُحق والحاكم باسم الله، وحسب العدالة الإلهية التي تنصف أبناء طائفة أو مذهب أو دين ما وتَسَيُّده على باقي الأديان، والأخطر من ذلك اقتناع معتنقيه أنهم يستمدون هذه السلطة المفوضة لهم من الله ذاته، وبالتالي فإن تعاملهم مع أبناء باقي المذاهب أو الأديان هو عدل حتى لو كان ذلك قتلهم نحراً بالسكاكين! وسبي نسائهم واستعبادهم، وفرض التزام عليهم في اللباس والسلوك، ودفع مبلغ مالي وحرمانهم من بعض الحقوق والواجبات. لذا، فإن تمثيل هذه التيارات بجزئية هيمنتها، ووصايتها على باقي فئات المجتمع السورية في الهوية السورية، هو مصيبة وطنية على الهوية والمجتمع والدين.

 

في الوقت الذي يطالعنا فيه التيار اليساري، باعتباره ينظر إلى نفسه كفئة نخبوية "انتلجينسيا"، ويسعى أن يكون المجتمع على شاكلتها؛ فهم يعيشون في المستقبل أو في القصور العاجية، ولا يرضون أن يكون هناك لبعض التفاصيل التي يمكن أن تجمع الفئات التي تعارضهم في مشروعهم مكاناً، كالزواج المدني الذي ترفضه التيارات الدينية وتفرضه التيارات اليسارية! والقانون الوضعي والديمقراطية بالتصور الذي لا يمكن لليسار فيه أن يقارع اليمين لأن الشارع لليمين حتماً! وفكرة فصل الدين عن الدولة والمواطنة، بل والمسألة القومية على اعتبار أن هناك من يقر علناً أنها من إفرازات الرأسمالية، والدين ودوره الاجتماعي، وكلها من المآخذ التي تستفز النقيض الكلاسيكي لهم وهم الدينيون، وبالتالي فإن هويتهم التي يعلنوها تستثني بعض الفئات من القوميين واليمينيين؛ ولا يمكن أن تعتبر مشروعاً جامعاً.

 

بينما ينطلق القوميون العرب من نظرية تمزج العرق بالتاريخ باللغة، ويربطونها بالدين ليجترحوا هوية عربية تستثني الأقليات العرقية والدينية والإثنية الحضارية التي عاشت قبل وصول العرب إلى سورية، كالأكراد والآشوريين والبابليين والفينيقيين والآراميين، وحتى حديثاً كالأرمن والشركس والتركمان، بل ويذهبوا إلى أبعد من ذلك عندما يعتبرون أن بعض هذه المكونات الحضارية هي عربية الأصل، فيجردوهم من كل خصائصهم وفق نظرية لا تزال محط جدل، حيث يعتبروها حقيقة مطلقة، ويصيغوا هوية عربية لمن لا يعتبروا أنفسهم عرباً، ويساهموا في خلق مظلوميات تاريخية؛ وهذه الفكرة أيضاً لا تعتبر فكرة جامعة ولا داع لمناقشتها، خصوصاً أنه أصحابها يعتبروا أن هذه الأرض باتت للعرب القادمين من شبه الجزيرة بمجرد وصولهم على مبدأ (الأرض لمن يحتلها).

 

في الوقت الذي ينطلق القوميون السوريون من فكرة يعتقدون أنها جامعة، لكنها في نفس الوقت لو وضعت على الخط الزمني، فإنها الآن ليست جامعة، ويعتبروا أن المجتمع كله يجب أن يسير على رؤيتهم، فهم يعيشوا في المستقبل أو الماضي وليس في الحاضر، ورغم أن فكرتهم لا تعتبر أن العرب والدينيين مخالفون للقومية السورية لأنهم من مكوناتها، إلا أن اليساريين والعرب واليمينيين على نقيض أيديولوجي معهم، وهم في نفس الوقت يفترضون هوية يجب أن تُفرض على الجميع لإيمانهم بصحتها، لكن الخلاف في الدولة التي ينشدوها، والتي لا تختلف عن الدول القومية القمعية الشمولية التي ولّى زمانها كما ولّى زمن الدولة الدينية حسب عقيدتهم.

 

كما أن فكرة المواطنة ذاتها بصيغتها الليبرالية قد لا تكون فكرة جامعة من حيث أنها قد تصادر حق البعض في العيش بحرية وفق قناعاتهم، وبالتالي كانت هذه الفكرة تستوجب التعديل حتى تستوعب كل الفئات الاجتماعية السورية؛ فالكردي يجب أن يتمتع بحقوق العربي، والعلوي والدرزي والمسيحي والشيعي يجب أن يتمتع بحقوق، وميزات السني على سبيل المثال، ولا يجب أن تقف هذه التفاصيل أمام ممارسة كامل الحقوق، كترشح مسيحي إلى رئاسة الجمهورية، التي تعتبر طامة كبرى لدى اليمينيين، أو أن يتزوج اليميني زواجا مدنياً، هو لن يوافق، ومنه كان على فكرة المواطنة التي تنشد حلا لأزمة الهوية السورية بعيدا عن التيارات الإقصائية، وأن تصمم مفهوما خاصا بالإطار السياسي السورية بعيداً عن النقاط الإشكالية بالدرجة الأولى؛ والبحث عن القواسم المشتركة بالدرجة الثانية؛ ويجب أن تكون مضمونة دستورياً.

 

تبدأ بالبنود التي توضع لتمنع تتضرر المواطنين نتيجة اعتداء الآخرين عليهم على خلفية عرقية أو دينية أو مذهبية وغيرها؛ وأن يكون القانون منصفاً للجميع فمن يود أن يحيى حياته وقناعاته وإيمانه يحيى بحرية، ولا يجب أن تصادر حق الشعب في تقرير هويته القومية، فمن أراد أن ينادي بأي قومية، ومن أراد يدعوا لفكرته وأن يناقش، يمكن له ذلك، شرط أن لا يفرضها على البقية إلا بالإقناع، وأن لا تثير الشغب والارتهان لقوى خارجية غير وطنية. حتى لا تتكرر مأساة البعث، ومآسي صراع الأحزاب صبيحة الاستقلال التي ضيعت البلد، وأفرزت صراعات ومؤامرات وانقلابات، مما دفع بالبعث إلى خوض السباق والفوز به، لأن أي حزب كان سينتصر سياسياً كان سيفرض هويته على الدولة، كون الصراع وقتها كان على السلطة، وكانت الأحزاب هي أدوات على ما يبدوا، والمشروع الخاص بكل حزب كان هدفاً ثانوياً.

 

إن أهمية إبقاء هذا البند مفتوحاً هو ضمانة للمستقبل، حتى لا تتحول الهوية السياسية السورية إلى هوية قومية محصورة في الإطار السياسي الحالي، وبالتالي ستكون أية محاولة في المستقبل للاتحاد بين دولتين، مشكلة أولها التخلي عن القومية السياسية، والثانية الاندماج في هوية قومية جديدة، وقد تكون الدولتان اللتان تودان الاندماج قد شكلتا مفاهيماً خاصة بهما متناقضة مما يزيد الصعوبة.

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard