info@suwar-magazine.org

ما مدى واقعيّة فكرة حياديّة الدولة الديمقراطيّة

ما مدى واقعيّة فكرة حياديّة الدولة الديمقراطيّة
Whatsapp
Facebook Share

 

1- مقدّمة:

 

عند الحديث عن الدولة الديمقراطيّة الحديثة، فمن أهمّ الأسس التي يتمّ التركيز عليها في هذه الدولة هو حياديّتها تجاه جميع أشكال الاختلافات الموجودة في مجتمعها، سواء كانت هذه الاختلافات هويويّة أو عقائديّة أو سياسيّة أو طبقيّة أو غيرها، وهذا ما يجب أن يكون عليه حالها بالطبع، وإلّا فهي تنتقص من ديمقراطيّتها بقدر ما تقترب أكثر من أحد أشكال الاختلاف القائمة بين مواطنيها، وقربها هذا يمكن وصفه عندها بالانحياز الفئوي الذي يجب ألّا يكون له أيّ مكان في الديمقراطيّة، وهو يتناقض تماماً مع مبادئها.

 

لكن حياديّة الدولة على أرض الواقع هي مهمّة جسيمة صعبة التحقيق، فـ "أصحاب الاختلافات" الذين يُفترض بالدولة أن تكون على مسافة واحدة منهم، يفترض بهم أيضاً أن يبقوا على مسافة واحدة منها، وعلاقة الفعل وردّ الفعل هذه بين الدولة والمختلفين من مواطنيها هي شرط أساسي من شروط تمكّن الدولة من أن تكون دولة حياديّة حقيقيّة، إلّا أنّ هذا الأمر ليس مضموناً في معظم الأحوال، فأنماط الاختلاف الموجودة هي نفسها قادرة على تكوين قوى اجتماعيّة قابلة للتسييس أو قادرة على الضغط سياسيّاً على الدولة، بحيث تغدو عاملاً معرقلاً لفعلها الديمقراطيّ أو مؤثّراً فيه بحيث يحرفه عن مسار الاعتدال باتجاه إرادة أو مصلحة نمط الاختلاف المالك للقوّة.

 

وعلى سبيل المثال في مجتمع طبقي اقتصاديّاً يُفترض أن تكون الدولة الديمقراطيّة محايدة وتقع على نفس البعد من كافة الطبقات، بحيث تعمل على موازنة اختلاف مصالح هذه الطبقات، وتحلّ تضارب هذه المصالح بشكل عادل، ولكن فعليّاً هذا ما يُفترض نظريّاً فقط، أمّا على أرض الواقع فلا يمكن للدولة أن تكون حياديّة في مجتمع طبقي تتباين فيه بشدّة قوى الطبقات، والطبقة الأقوى تستطيع بما لديها من قوّة فرض إرادتها على الدولة وتسخيرها لصالحها، بحيث تصبح عمليّاً "دولة الطبقة الأقوى"، وهذا ما نجده -مثلاً- بشكلٍ جليّ في "الديمقراطيّات البرجوازيّة" التي هي فعليّاً "برجوازوقراطيّات" والدولة فيها هي "دولة البرجوازيّة"، هذا بالطبع إضافة إلى استحالة قبول فكرة أنّ حياديّة الدولة تجاه الطبقات في الحالة الطبقيّة -بفرض أنّها قابلة للتحقيق بشكل ما- هي عدل، فالعدل هنا سيفترض بشكل عجائبي أنّه سيتم في حالة لا عدل فيها من الأساس، وستبدو مثل محاولة العدل بين السيّد والعبد في مجتمع عبودي، وهي حالة مستحيلة التحقيق إلّا بإلغاء العبوديّة، وبالتالي ففكرة الحياد الطبقي للدولة في وضع تتغوّل فيه طبقات على سواها، حتّى إن بقيت الدولة مستقلّة تماماً عن الطبقة الأقوى، هي من حيث مبدئها انحياز تام لصالح المتغوّلين ومساواة خرافيّة بين الظالم والمظلوم بذريعة قبول الاختلاف!

 

 

ولكي تتحقّق حياديّة الدولة، فلا بدّ من أن تتوّفر مجموعة متكاملة من الشروط الذاتيّة (في الدولة نفسها) والشروط الموضوعيّة (في مجتمع الدولة) لكي تتمكّن الدولة فعليّاً من أن تكون دولة حياديّة، وبدون توفّر هذه الشروط، ستكون حياديّة الدولة، وبالتالي ديمقراطيّتها، منقوصة بقدر النقص الموجود في تلك الشروط.

 

فما هي شروط حياديّة الدولة؟

 

2- بداية عن أيّة دولة يتمّ الحديث؟

 

كما سلفت الإشارة في العنوان، فالدولة التي يتم الحديث عنها هي فقط "الدولة الديمقراطيّة"، فهي وحدها المعنيّة والمُفترض بها والتي تريد هي ويُراد منها أن تكون حياديّة، لأنّ ديمقراطيّتها لا تتحقّق بدون حياديّتها، أمّا الدول الاستبداديّة فهي قطعاً لا تريد ولا يمكنها أن تكون حياديّة، فالدولة المستبدّة هي إمّا دولة سلطانيّة تقليديّة تتحكم فيها العائلة الحاكمة والطبقة العوائليّة المتحالفة معها، وهي بذلك تكون منحازة تماماً لصالح عائلة وطبقة من العائلات، أو هي دولة ديكتاتوريّة يحكمها ديكتاتور بمساعدة طغمة محدّدة، وعندها تسخّر هذه الدولة لخدمة مصالح وأهواء هذه الطُغمة، أو هي دولة قومويّة لا تساوي بين القوميّات فيها، أو دولة دينيّة تُمايز وتفرّق بين الناس أيضاً على أساس ديني، أو دولة دوغمائيّة تتّبنى مذهباً عقائديّاً أو سياسيّاً ما وتعامل الناس على أساس ولائهم لهذه "الدوغما الرسميّة"، وهكذا دواليك.

 

أما الدولة الديمقراطيّة، فهي موجودة أصلاً لتكون بديلاً صالحا لكلّ تلك النُظم البائسة أو الفاسدة أو الفاشلة أو كلّ ذلك معاً، ولكي تتمكّن من أن تكون ذلك البديل الصالح الحقيقي، فهي يجب أن تكون نقيضاً لكلّ تلك الأشكال من الدول، وألّا تتصف قطعاً بأيّة صفة من صفات سوئها وشرها. 

 

3- ماذا تعني الحياديّة وما هي أهميتها؟

 

حياديّة الدولة تعني استقلاليّتها وانفصالها عن كلّ أشكال البنى التقليديّة ما دون المجتمعيّة كالدين والذكوريّة والطائفة والقوم والطبقة والجيش، وغير التقليديّة كالحزب والتنظيمات الحديثة، والغاية من ذلك هي أن تكون الدولة دولة المجتمع ككّل، ودولة الجميع فيه بالتساوي، وحرّة من أيّة هيمنة فرقيّة وجهويّة وأحاديّة، وذلك مهم لكي تتساوى الدولة في كونها دولة جميع مواطنيها المختلفين، وتضمن المساواة بينهم كمختلفين، وتضمن للاختلاف أن يصبح عاملاً تنوّعيّاً إثرائيّاً فعّالاً وبنّاءً في حياة المجتمع والفرد، فتكون بذلك دولة ديمقراطيّة، وليس دولة هذه الفئة أو تلك أو سلطة هذه الطغمة أو تلك، وهذه الحياديّة للدولة لا تتحق إلّا بوجود مجتمع مناسب، أي مجتمع يكون هو الآخر حياديّاً إزاء كلّ أنماط الاختلاف المذكورة وغير مجيّر لصالح أي منها أو مسيطر عليه من قبل أي منها، وبذلك يكون المجتمع هو أيضاً مجتمع الجميع بالتساوي، ويساوي بين جميع أبنائه، ولا يميّز أحداً على حساب أحد، ولا يعطي لأحد فيه إمكانيّة لأن يفعل ذلك، أو ليهيمن عليه هو نفسه كمجتمع، أو على الدولة التي تحكم فيه.

 

4- الصفات الذاتيّة للدولة اللازمة لتحقّق حياديّة الدولة:

 

كما سلف الذكر، هذه الدولة يجب ألّا تكون قائمة على أيّ شكل من أشكال التسلّط والاستبداد، وألّا يدخل فيها كمؤسّسة أيّ عنصر أو عامل ذي طابع فِرَقي أو فئوي أو جهوي أو مللي، وهي يجب أن تكون قائمة على أُسس عقلانيّة وعلميّة ووظيفيّة، ويجب أن تكون بنفس القدر "دولة الجميع"، وأن تضمن مصالح الجميع بشكل متساو وبشكل كاف، وعليه فهذه الدولة يجب أن تكون منفصلة عن الدين والقوم والجنس والطبقة والحزب والزعامة، وكلّ شكل آخر من أشكال التجمّع أو الانتماء أو الاعتقاد أو العصبيّة أو المصلحة الخاصّة، أو الشخصنة.

 

لكن هذا لا يمكن فعليّاً، وإن أمكن جدلاً فهو وحده لا يكفي، إن لم تتوفّر الشروط والعوامل المناسبة في مجتمع هذه الدولة، فلكي تتمكن هذه الدولة من أن تكون دولة ديمقراطيّة حقيقيّة، فهي يجب أن تكون "دولة المجتمع الذي تحكمه" أي أن تكون دولة منبثقة من صميم هذا المجتمع، وهنا تكمن المشكلة العويصة، فمثلاً.. عندما يكون المجتمع مجتمعاً أميّاً يتفشّى فيه الجهل، لن يكون ممكناً فيه إنشاء "دولة وظيفيّة حقيقيّة متكاملة" تعتمد الأساليب العقلانيّة والعلميّة في حلّ مهامها وأداء وظائفها، ولن يكون ممكناً استيرادها له، وحتّى نظريّاً إذا ما تمّ استيراد مثل هذه الحكومة الافتراضيّة وفرضها على هذا المجتمع بشكل انتدابي مثلاً، فعندها ستكون هذه الدولة المفروضة فرضاً حكومة استبداد وليس دولة ديمقراطيّة.

 

 

ومن المهم جدّاً عند الحديث عن "الجميع" بمعنى "مجموعة أنماط الاختلاف الموجودة في المجتمع" الحذر إلى أقصى الحدود من الخلط في المفاهيم، فالحالات التي يوجد فيها طرف جائر وطرف مجور عليه، وطرف صالح وآخر طالح، أو طرف ضار وطرف مفيد، هي قطعاً لا يمكن أن تُقبل كحالات اختلاف، وفهمها بهذا الشكل هو فهم متناقض كليّاً مع العقل والضمير الإنسانيّين، وبالتالي فلا بدّ من التعامل بمعيار إنساني عقلاني حازم مع مفهوميّ "الاختلاف" و"الجميع"، ووضع معياريّة "الصالح الإنساني" المعقلَنة حدّاً فاصلاً بين المقبول والمرفوض فيهما.  

 

5- جدليّة الدولة والمجتمع:

 

كلّ دولة لكي تقوم تحتاج إلى القوّة الكافية، فهناك دول تعتمد على قوّة السلاح كالدول الديكتاتوريّة الطغموية، وهناك دول تعتمد على قوّة الأعراف والبنى الاجتماعيّة السائدة كالدول الملكيّة، وهناك دول تعتمد على قوّة الدين كالدولة الدينيّة، أو على قوة الانتماء كالدولة القوميّة، وهناك أيضاً دول عميلة تعتمد على قوّة الدعم الخارجي، وهلمّ جرّى...

 

مقابل كلّ ذلك الدولة الديمقراطيّة تعتمد على قوّة شعبها ومجتمعها، والمجتمع في النظام الديمقراطي هو من يمدّ الدولة الديمقراطيّة بالقوّة اللّازمة لكي تكون دولة وتكون ديمقراطيّة، وهو أيضاً من يمتلك القوّة الكافية ليمنع هذه الدولة من أن تكون أو تصير دولة غير ديمقراطيّة ومن الانحراف عن الديمقراطيّة، أي أنّ المجتمع هو الذي يضمن ديمقراطيّة الدولة، ولكي يتحقّق له ذلك فلا بدّ له هو نفسه من أن يكون "مجتمعاً ديمقراطيّاً"، وكما هو الحال بالنسبة لعلاقة ديمقراطيّة الدولة بحياديّتها، فكذلك هو الأمر بالنسبة للعلاقة بين ديمقراطيّة وحياديّة المجتمع، أي أنّ المجتمع لكي يكون "ديمقرطيّاً فهو الآخر يجب أن يكون حياديّاً"، فكيف يمكن للمجتمع أن يكون حياديّاً؟

 

6- حياديّة المجتمع هل هي ممكنة واقعيّاً؟

 

في بيئة اجتماعيّة تتفشى فيها الانتماءات والذهنيّات الفئويّة يصبح من بالغ الصعوبة ضمان حياديّة حتّى مؤسّسة رسميّة صغيرة، فما بالك بمؤسّسة شاملة كالدولة نفسها، وهنا قطعاً لا يمكن الحديث عن "حياديّة المجتمع" لا بشكل عام، ولا بشكل خاص، وفعليّاً ترتبط مستويات الحياديّة ببعضها البعض بشكل جدلي متكامل من المؤسّسات الرسميّة الصغرى حتّى مؤسّسة الدولة ككّل والمجتمع بكليّته.

 

لكن ماذا تعني حياديّة المجتمع؟

 

حياديّة المجتمع تعني ألّا يكون في هذا المجتمع أي شكل من أشكال التمييز أو التحيّز أو التسلّط ذي الطابع الفئوي أو الجهوي، فمثلاً في مجتمع متديّن يصبح الإلحاد وصمة وقد يؤذى صاحبه بشدّة بسببه بتهمة الكفر شعبيّاً أو حتّى رسميّاً، وفي مجتمع متزمّت تُعتبر ممارسة الجنس بدون زواج عاراً يمكن أن تكون عقوبتها الشعبيّة أو الرسميّة أحياناً قصوى في عنفها ووحشيّتها، وفي مجتمع طائفي، أي يكون فيه فئة دينيّة غالبة أو مذهب ديني سائد مسيطر، يتمّ التمييز بين الناس على أساس دينهم، وهذا يؤديّ إلى الانتقاص من حقوق أبناء الأقليّات الدينيّة المختلفة أو تهميشهم أو قمعهم وما شابه، وكذلك هو الحال في المجتمع القومي أو العرقي، وفي مجتمع ذكوري تنتقص قيمة المرأة وتُهمَّش أو تُقصى وتعتبر كائناً دونيّاً، وهكذا دواليك.

 

اقرأ أيضاً:

 

عن الهويّة الجامعة والوطنيّة السوريّة

 

لكي يكون المجتمع "حياديّاً" يجب أن يكون متجاوزاً لكلّ أشكال العصبويّة وكلّ أنماط الأحاديّة السائدة، فلا يكون فيه تحيّزات جنوسيّة أو هوويّة أو انتمائيّة أو اعتقاديّة أو أخلاقيّة أو مواقفيّة، ويقبل فيه بشكل تامّ مساواة المختلفين في الجنس والهويّة والانتماء والاعتقاد والأخلاق وسواها، وهذا يعني أن يكون المجتمع تعدديّاً ومساواتيّاً في كلّ جوانبه.

 

هل مثل هذه المجتمعات موجودة؟

 

الجواب المؤكّد هو نعم، فهذا ما قطعت فيه شوطا كبيراً المجتمعات الليبراليّة الحديثة، وما زالت تتقدّم فيه.

 

7- ماذا عن ديمقراطيّة النخبة؟

 

إذا ما طرحنا السؤال عن إمكانيّة قيام "دولة نخبويّة" في "مجتمع عصبوي أو فِرقي"، أي تقودها نخبة ذات ثقافة حديثة في هذا المجتمع الذي ما يزال هو نفسه ذا ثقافة تقليديّة، فهل تستطيع هذه الدولة النخبويّة أن تحقّق شروط الدولة الحديثة، وتكون مستقلّة في قرارها وحياديّة ومساواتيّة في مواقفها، فماذا سيكون الجواب؟

 

يمكن القول أنّه ثمة إمكانيّة افتراضيّة لذلك تشترط أن يلتزم "النمط العصبوي" بدوره بالحياديّة تجاه الدولة فلا يسعى لأن يستغلّ قوّته العصبويّة ليتدخّل في شؤون الدولة أو للضغط عليها.

 

على سبيل المثال عندما يكون هناك تديّن عفوي بين الناس، ولا يسعى الناس للخلط بين دينهم وشؤون الدولة، فيمكن للدولة النخبويّة هنا أن تقوم بالعديد من وظائفها بشكل مقبول، ومن الممكن هنا حتى للعصبويّين أن يمتلكوا كفاءة تخصصيّة حديثة في مجال عملي ما، وأن يمارسوا أدواراً في الدولة لا تختلط فيها عصبويّتهم مع وظيفتهم، كحالة عمل مدير محطة كهرباء كفوء ونزيه، ومتديّن بنفس الوقت على سبيل المثال.

 

لكنّ إمكانيّة النجاح في هذه الحالة واقعيّاً محدودة إلى حدٍّ جدّ كبير، وذلك للأسباب التاليّة:

 

أولاً: إن الانفصال بين النخبة والعصبة هو أمر لا يمكن تحقيقه عمليّاً، ولا يمكن للدولة أن تضمن اعتمادها على عناصر نخبويّة تتحلى بالحياديّة الكافية، وسيكون عليها الاعتماد على كفاءات عصبويّة، وعندها لن يكون الأمر مثاليّاً، ولا يمكن للعصبويّة أن تبقى واقعيّاً بلا فاعليّة وهي ستجد الطريق في كثير من الأحيان لفرض نفسها بشكل عفوي أو واع على صاحبها حتّى وإن كان شخصاً طيّباً وكفوءاً، فالشخص العادي لا يستطيع الانفصال عن عُصبته وميله وسيبقى تأثيرهما قويّاً على قراراته وخياراته.

 

ثانيّاً: وهذا أخطر من سابقه، العصبة لا يمكنها أن تبقى ساكتة عندما تتّخذ الدولة إجراءات تتعارض أو تتناقض بشكل جذري مع تقاليدها أو مصالحها، وعندها ستسعى لاستغلال ثقلها العصبويّ لمواجهة الدولة، فمثلاً في مجتمع تسمح تقاليده بتعدّد الزوجات، لن يكون اتخاذ قرار رسمي بمنع ذلك ممكناً بيسر، وسيكون هناك مخاطر بأن يصطدم قرار الدولة بموقف الجماعة العصبويّة، ولا سيما إذا كان هذا التقليد مرتبطاً بالدين، فعندها ستعتبر هذه الجماعة أنّ الدولة تعتدي على مقدّساتها، وسيستغلّ الرجال الذكوريّون التقليديّون هذه "المقدّسات" لحماية مصلحتهم الذكريّة الأنانيّة بتعدّد الزوجات.

 

ثالثاً: وهذا بدوره أخطر من سابقيه، الحالة العصبويّة يمكن تسييسها واستغلالها، فمثلاً يمكن استغلال الدين والقوميّة بشكل كبير وخطير في المنافسات والصراعات السياسيّة والمصلحيّة، ويمكن لمراكز مُغرضة أو متعصّبة أن تعمل على نشر التعصّب والتطرف الديني وحشد الأنصار الدينيّين أو القوميّين لها لاستخدامهم في مشاريعها. 

 

وعليه فأيّة ديمقراطيّة في بيئة عصبويّة هي دوماً معرّضة وبشكل جسيم للاختراق والإفساد أو الانقلاب عليها؛ فالهند اليوم مثلاً تعاني ديمقراطيّتها كثيراً من تجذّر وسعة وقوّة التقاليد الدينيّة في مجتمعها وانقساماته الخطيرة طائفيّاً وإثنيّاً، وديمقراطيّة الخمسينات في سوريا أفشلتها جملة من الأسباب من أهمها أنّ الشعب كان ما يزال قابلاً بعد لأن يُحكَم بشكلٍ استبدادي، والانتماءات الفرقيّة فيه كانت قويّة، وفكرة الحكم العسكري كانت ما تزال قويّة الحضور في الجيش، وحتّى الأحزاب السياسيّة هي الأخرى كانت فكرة الدولة الحزبيّة شديدة القبول فيها.  

 

8- وماذا عن الطبقيّة؟

 

الطبقيّة هي إحدى أخطر العوامل المانعة لحياديّة وبالتالي ديمقراطيّة الدولة، والمصالح لا تقلّ خطورة عن الانتماءات والاعتقادات في مفاعيلها إن لم تزد، وبالتالي لا يمكن لأيّة طبقة اقتصاديّة أن تترك الدولة تتّخذ قرارات يمكن أن تمسّ بمصلحتها دون أن تفعل شيئاً مضادّاً، بذريعة أنّ الطبقة بدورها يجب أن لا تتدخّل في شؤون الدولة ضماناً لمبدأ الحياد، فحتى مبدأ الحياد هذا يمكن أن يُستغلّ بشكل معكوس، وأن تفسّره كلّ طبقة لا تعجبها سياسة الدولة الاقتصاديّة بأنّه تدخّل في شؤون الطبقات لا يحق للدولة التزاماً بحيادها الطبقي أن تقوم به، وعندها سيؤدّي مثل هذا المفهوم للحياديّة إلى شلل الدولة على صعيد الفعل الاقتصادي، وبشكل مشابه يمكن للطائفة والإثنيّة مثلاً أن تعتبرا أيّ قرار تتّخذه الدولة يتعارض مع سلبياتهما ومساوئهما "تدخلاً" أو "تطاولاً" من الدولة على شؤونهما الخاصّة وخرقاً لمبدأ الحياد، وهكذا ستصبح الدولة مشلولة أيضاً على صعيد الوضع الجماعاتي والتقاليدي، وبتعميم هذا المفهوم للحياد ستجد الدولة نفسها في المحصّلة مشلولة على كافة الصعد.

 

ليس من الواقعيّة أن ننتظر من الطبقة أن تسكت طوعاً على سياسة دولة تتناقض مع مصلحتها، وعندما تكون الطبقة قويّة بما يكفي، فهي ستستغل قوّتها الطبقيّة بشكل تام للتصدي للدولة، وبما أنّ المجتمع الطبقي ينقسم عادة إلى طبقة رئيسة تحتكر الثروة وطبقات فقيرة وما بينهما، فستكون القوّة الاقتصاديّة عندها مُمركزة بيد هذه الطبقة الغنيّة، وستكون هي فعليّاً المتحكّمة بالاقتصاد، وهو أحد أهم ركائز المجتمع، وبالتالي فسيكون من المخاطرة الكبيرة على أيّة دولة أن تدخل في مواجهة ضدّ طبقتها الاقتصاديّة المتحكّمة، فهذه الطبقة ستكون هي الحاكمة الفعليّة في ميدان الاقتصاد.

 

 ولكن الأمر لن ينتهي هنا فعليّاً، فهنا قد تمّ الافتراض حتّى الآن أنّ الدولة التي يتم الحديث عنها هي دولة مستقلّة عن تأثير الطبقة المالكة، وهذا أمر غير واقعي، لأنّ هذه الطبقة بصفتها مركز ثقل رئيس وقوي في مجتمعها، والدولة هي بدورها أيضاً مركز ثقل وقوّة، فهي -أيّ الطبقة المالكة- ستستغلّ قوّتها الاقتصاديّة للسيطرة على الدولة، وهذا أيضاً ما ستسعى لفعله بقيّة مراكز القوة، القوميّة والدينيّة والعسكريّة وسواها، وعندها لن تتمكّن الدولة من الحفاظ على استقلاليّتها وحيادها.

 

9- إعادة نظر في بعض المفاهيم الحسّاسة:

 

بناء على ما تقدّم يمكن القول أنّ هناك علاقة جدليّة تكامليّة بين حياديّة وديمقراطيّة الدولة من ناحية وحياديّة وديمقراطية المجتمع من ناحية ثانية، والدولة الديمقراطيّة التي تستمدّ قوّتها من مجتمعها لن تجد في هذا المجتمع القوّة الداعمة اللّازمة إلّا إذا كان مجتمعاً ديمقراطيّاً هو الآخر، وفي الحالة المعاكسة ستصطدم الدولة في هذا المجتمع بقوى خطيرة تتحداها بقوّة أو تسعى للسيطرة عليها.

 

وهكذا يجب إعادة تعريف الدولة الديمقراطيّة بأنّها الدولة التي تقود مجتمعاً مستقرّاً ديمقراطيّاً، وتشكّل فيه مركز قيادة له، والمجتمع المستقر ديمقراطيّاً هو المجتمع المتحرّر من كافة مراكز السيطرة العصبويّة والملليّة والمصلحيّة والكتليّة والشموليّة، أي من سيطرة الطائفة والقوم والطبقة والحزب وسواها من مراكز القوى وأشكال التجمّع والتنظّم والتكتّل ذات النزعات والمصالح الفئويّة أو التوجهات الشموليّة أو المذهبيّة.

 

وما تقدّم يعني أنّ هذا المجتمع يجب أن يكون مبنيّاً على أسس تحقّق حياديّته الهويويّة والانتمائيّة والمعتقديّة والسياسيّة والمصلحيّة والسلطويّة، وبالتالي يكون متحرّراً من سيطرة الطائفة والدين والجنس والطبقة والقوم والحزب والجيش، وأيّ شكل آخر جهوي أو فئوي أو فِرقي من أشكال الاعتصاب أو التمذهب أو المصلحة أو الهيمنة، وعليه يجب أن يكون هذا المجتمع علمانيّاً وأمميّاً وليبراليّاً واشتراكيّاً ومدنيّاً ومساواتيّاً.

 

وستأخذ العلمانيّة عندها معنى تحرّر المجتمع من الطائفيّة والغيبيّة والهيمنة المعتقديّة، فتعريف العلمانيّة بأنّها فصل الدولة عن الدين هو تعريف فضفاض ومنقوص، لا يُفهم منه سبب هذا الفصل ولا موقف العلمانيّة من المعتقدات الإيمانويّة غير الدينيّة الأخرى كالعقيدة القوميّة مثلاً، وهذا الفصل لن يتحقّق فعليّاً بالسعي لإنشاء مؤسّسة دولة لا دور ولا تأثير للدين فيها وحسب، بل يجب ضمان ألّا يبقى المجتمع متديّناً بالقدر الذي يستطيع فيه الدين أن يعرقل عمل هذه الدولة أو يتدخّل فيه أو يهيمن عليه، وهذا يقتضي رفع سويّة الثقافة العقلانيّة والعلميّة في المجتمع وتعزيزها بالقوانين والإجراءات الرسميّة التي تمنع تدخّل أيّة قوى ذات طبيعة دينيّة أو معتقديّة في عمل الدولة، وعليه تكون العلمانيّة فعليّاً هي عقلنة المجتمع بما يكفي للخلاص من الطائفيّة والغيبيّة والإيمانويّة، فالشيء لا يمكنه أن يكون الأمر ونقيضه في الوقت نفسه، والمجتمع لا يمكنه أن يكون علمانيّاً وطائفيّاً وغيبيّاً بنفس الوقت، فباستمرار الغيبيّة والطائفيّة لن يكون المجتمع إلّا طائفيّاً وغيبيّاً و"ضد ديمقراطي"، ونفس الكلام يمكن قوله بشأن أيّ نمط معتقدي إيمانوي آخر مهما كان لا دينيّاً في نمط إيمانيّته.

 

وما قيل عن العلمانية يمكن قوله عموماً بشكل مشابه عن الأمميّة والليبراليّة والمدنيّة والمساواة.

 

10- وماذا عن الاشتراكيّة؟

 

كما سبق القول لا يمكن للدولة أن تكون دولة حياديّة بوجود مراكز قوّة خاصّة منافسة كالطبقة، فإن كانت العلمانيّة -مثلاً- غير ممكنة فعليّاً بوجود الطائفة، ليس بصفتها "جماعة مؤمنين روحيّة وحسب"، وإنما كعصبة مؤمنين يمكنها أن تحوّلهم إلى "جماعة حشديّة" قادرة على القيام بدور سياسي مؤثّر، تعرقل أو تتحدى فيه دور الدولة، وباستثناء صفتها كجماعة روحيّة، فأيّة صفات أخرى للطائفة في المجتمع الديمقراطي يجب حُكماً وتماماً أن تلغى، فمثل ذلك يمكن قوله عن أيّة جماعة أخرى على مستوى كونها أو فعلها كعصبة قابلة للتسييس والتحشيد، وهذا يعني أنّ الطوائف وغيرها من البنى الجماعاتيّة التقليديّة يجب أن تخضع لعمليّة إعادة هندسة دَمَقرطيّة جذريّة.

 

والطبقة بدورها يمكنها أن تكون هي الأخرى "قوّة حشديّة"، وعندما يكون هناك طبقة مهيمنة على الجزء الأكبر من الثروة في مجتمعها، فهي تتحوّل إلى قوّة ضاربة، وإلى "دولة اقتصاديّة مستبدّة" تتحكّم فيها قلّة من المالكين الأنانيّين باقتصاد المجتمع، وتصبح قادرة ليس فقط على منافسة ومواجهة "الدولة السياسيّة"، بل وعلى السيطرة عليها وتسخيرها لخدمتها، وبذلك تصبح الطبقة هي الديكتاتور الفعلي، وتصبح الدولة الديمقراطيّة مجرّد تابع له.

 

ذاك هو واقع الحال اليوم في المجتمعات الصناعيّة الرأسماليّة، رغم القدر الكبير من الليبراليّة السياسيّة والاجتماعيّة الموجود هناك، وهو إنجاز كبير بدوره، ولكن ذلك كلّه يبقى فقط في الحدود التي لا تؤثّر سلباً على مصلحة "ديكتاتوريّة رأس المال" القائمة، الّتي تعلّمت جيّداً كيف  تتسلّق على هذه الليبراليّة وكيف تستغلّها بشكل ماكر.. بل وكيف تتلاعب بها بخبث أيضاً.

 

ولذا ولتحقيق ديمقراطيّة حقيقيّة.. لابدّ من قيام الدولة عبر بعض اللآليّات بالتحكّم بالاقتصاد، وإلا ستتحوّل الديمقراطيّة السياسيّة والاجتماعيّة إلى مجرّد قناع تجميلي لديكتاتوريّة السوق البشعة تتخفّى فيه الرأسماليّة المتوحّشة في أغلب الأحوال.

 

11- خلاصة:

 

وهكذا نصل إلى خلاصة مفادها أنّ الدولة الديمقراطيّة الحقيقيّة لا يمكنها أن تتحقّق في مجتمع غير ديمقراطي، وحياديّة الدولة البنّاءة هي حياديّتها إزاء أشكال الاختلاف الإيجابيّة والمفيدة في المجتمع فقط ، وهي لا يمكنها أن تكون حياديّة بوجود قوى ما دون مجتمعيّة أخرى تهدّد استقلاليّتها وتهدّد وحدة وصالح المجتمع، ولذا وبما أنّ مصدر قوّة الدولة الديمقراطيّة الفعلي هو مجتمعها الديمقراطي، فلا يمكن فعليّاً بناء دولة ديمقراطيّة بدون مجتمع ديمقراطي، وهذا يقتضي حياديّة المجتمع واستقلاليته وانفصاله عن كلّ أنماط القوّة التقليديّة، وهذا ممكن فقط بتجريد هذه القوى من قواها الضد مجتمعيّة والضد ديمقراطيّة، وذلك عبر عقلنة الثقافة والاقتصاد وقوننة نشاط كل أنماط الاختلاف بما يتناسب مع العقلانيّة ولا يتناقض معها أو يشكّل تهديداً لها وخطراً عليها.

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard