ما هي حقيقة وحجم الدور الروسي في سوريا؟
عند الحديث عن دور الأسد، أو بمزيد من الدقة ما تبقّى من دور الأسد في سوريا، تختلف بل وتتضارب الآراء والتحليلات، وتتأرجح بين من يرى أنّ الأسد تحوّل إلى مجرّد تابع لروسيا، وبين من يرى أنّه ما يزال يتمتّع بسلطة وسيادة كبيرتين على نظامه، وأنّه قادر على تحجيم النفوذين الروسي والإيراني في سوريا، والتعامل معهما بنديّة على أقل تقدير.
هذا الرأي الثاني نجده مثلاً عند الصحفي والمحلّل السوري عبدالله الغضاوي، الباحث في مركز السياسة العالميّة في واشنطن، الذي يقول: (تُظهر التحرّكات الأخيرة التي قام بها بشار الأسد في المجال الأمني أنّ الرئيس السوري المحاصَر لا يزال لديه أوراق يلعبها للحفاظ على سلطته، على الرغم من التضحية بالكثير من نفوذه لإيران وروسيا لتأمين بقاء نظامه. وعلى الرغم من كلّ ما يقال عن ضعف الرئيس السوري وعدم قدرته على إدارة البلاد بمفرده، إلا أنّه لا يزال متمسّكاً بالسلطة على الرغم من تعدّي حلفائه الروس والإيرانيّين، وكما فعل والده الراحل، مستغلّاً سلاح النظام السريّ: الأجهزة الأمنيّة. وبنيتهم الطائفيّة. وقد ثبت أنّ هذا هو المفتاح للحفاظ على جوهر النظام وضمان بقاء الأسد)[i].
ويرى الغضاوي أنّ الأسد تجنّب التحوّل إلى دمية يتحكّم بها الروس والإيرانيّون، وذلك من خلال إبعاده الأجهزة الأمنيّة عن دائرتي السيطرة، والنفوذ الروسيّة والإيرانيّة، وإبقاء هذه الأجهزة التابعة له، والتي يديرها مقرّبون موثوقون منه، مشرفة على الجيش والقوّات المسلّحة، بما فيها بعض من القوى أو الميليشيّات التابعة لإيران نفسها، كما يرى الغضّاوي أنّ التغييرات التي أجراها الأسد مؤخّراً في أواخر 2020 وبدايات 2021 بعيداً عن الضجيج الإعلامي على مستوى القصر الجمهوري، والأجهزة العسكريّة والأمنيّة، ولا سيما المخابرات العسكريّة والمخابرات الجويّة وبعض قطاعات الجيش، والتي تتجاوز النفوذين الروسي والإيراني، قام فيها باستبدال العديد من الشخصيّات القياديّة الحسّاسة بأشخاص يثق بولائهم له، هي جزء من إستراتيجيّة الأسد للبقاء في السلطة والحفاظ على سيطرته على نظامه، وتقليل قدرة روسيا أو إيران على تنفيذ انقلاب ضدّه، وبرأي الغضاوي فروسيا قد تحركت منذ بدء تدخلها العسكري في سوريا في أيلول 2015 لإعادة ترتيب وهيكلة الجيش السوري حتّى يتمكن من القتال بفعاليّة موثوقة في المعارك الحاسمة بإشراف المستشارين الروس، ولذلك أضافت إلى هيكليّة هذا الجيش فرق مثل الفيلق الخامس، الذي يخضع لسلطتها مباشرة، كما أنّه كان لروسيا أيضاً دور كبير في تعيين كبار قادة الجيش السوري، ولكنّه يرى أنّه إذا كان هدف روسيا إضعاف الأسد، فقد أخطأت بالتركيز على الجيش السوري وعدم الالتفات إلى الأجهزة الأمنيّة والضبّاط العسكريين المنتشرين في القصر الرئاسي، وبرأيه فالأسد قد نجح مؤخّراً في الحدّ من نفوذ روسيا في التعيينات العسكريّة، وهو -أي الغضاوي- يخلص بشأن ذلك إلى القول: (على الرغم من تنامي اعتماد الأسد على روسيا وإيران على مرّ السنين، إلّا أنّ الرئيس السوري تمكّن من تجنّب أن يصبح دمية في يد موسكو وطهران. لقد أنجز الرئيس السوري هذا، إلى حدّ كبير، من خلال إستراتيجيّة بارعة للحدّ من النفوذ الروسي والإيراني على قوّاته الأمنيّة من خلال منح أجهزة استخباراته الإشراف على الجيش.
ومن خلال تعيين مزيج من العلويّين الموالين و (بدرجة أقلّ) الضبّاط والقادة السنّة في مناصب حسّاسة، تمكّنت عشيرة الأسد، على مدى عقود، من جعل نظامها محصّناً ضد الانقلاب. لذلك، من المهم مراقبة هذه الأجهزة الأمنيّة العديدة حيث يكافح النظام للتعامل مع الانهيار الاقتصادي)[ii].
في السياق ذاته، وحسب فرانس 24 ودويتشه فيلله (WD)، فقد “استفاد الأسد من تقاطع عوامل داخليّة أبرزها تحكّمه بالقوّات الأمنيّة والعسكريّة، وخارجيّة على رأسها تلكؤ الغرب في استخدام القوّة ضدّه، مقابل دعم عسكري حاسم من إيران ثمّ روسيا. يضاف إلى ذلك الصبر واستثمار عامل الوقت”[iii]، وبرأي السياسي اللبناني المخضرم كريم بقرادوني “فقد عرف الأسد كيف يستثمر الوقت”، إضافة إلى “ولاء الجيش”، ووفقاً له فقد “أثبت الجيش السوري أنّه جيش عقائدي ونظامي تمكّن من الاستمرار وحماية النظام في أسوأ الأوضاع، ولم ينقلب عليه كما في دول أخرى، وهذا ما جعل الأسد نموذجاً استثنائيّاً فيما يُعرف بثورات الربيع العربي”[[iv]]، أمّا الباحث في معهد البحوث والدراسات حول العالم العربي والإسلامي توما بييريه، فيعتبر أنّ العوامل الداخليّة التي ساهمت في بقاء الأسد في السلطة تحمل عنواناً واحداً مفاده، “استمرار ولاء قيادة الجيش التي تعزّزت خلال عقود بأقارب الأسد وأتباعه”. وقد بلغت نسبتهم “على الأرجح أكثر من 80% من الضباط في العام 2011 وشغلوا كلّ منصب مؤثّر عمليّاً” داخل الجيش[[v]].
وبالطبع فالصورة التي يقدّمها توما بييريه هي الأنسب لوصف العلاقة بين الأسد وجيشه فكلّ من صفتي العقائدي والنظامي اللتين يطلقهما بقرادوني هما من صفات الجيوش الوطنيّة، ولا يصحّ إطلاقها في الحالة السوريّة، التي تحوّل فيها الجيش إلى جيش طائفي، والطائفيّة هي الرباط الوثيق الذي يربط بين هذا الجيش والحاكم، وهذا ما مكّن النظام السوري من الصمود، إضافة إلى الدعم العسكري الحاسم من روسيا وإيران وعدم تلقّي المعارضة دعماً مماثلاً من الغرب.
في مقابل تلك الآراء التي ترى أنّ بشار الأسد ما يزال صاحب سلطة وقرار مؤثرين وهامين في سوريا، نجد آراء أخرى مختلفة، يرى أصحابها أنّ روسيا هي من أصبحت صاحبة القرار.
ففي دراسة أعدَّها الباحث المتخصص في العلاقات الدوليّة الدكتور بشار نرش، يبيّن الباحث أنّ روسيا بعد قيادتها للعديد من المعارك العسكريّة منذ 2015 أنشأت أكثر من ستّين نقطة عسكريّة في سوريا، وأحدثت تغييرات عسكريّة لإعادة تشكيل مؤسّسة الجيش السوري سواءً في التكوين الاجتماعي لهذه المؤسّسة، أو في مراكز القوّة والفاعلين فيها، أو على مستوى التشكيلات وإعادة الضبط، وقد تمّ ذلك من خلال معالجة ثلاث نقاط أساسيّة هي: السيطرة على وزارة الدفاع السوريّة، وتشكيل هياكل عسكريّة جديدة في مؤسّسة الجيش كالفيالق الرابع والخامس والسادس، وحلّ القوات الرديفة، كمّا أسّست روسيا قواعد عسكريّة إستراتيجيّة في العديد من المناطق الحيويّة في البلاد، وبرأي الباحث فقد أدرك الروس جيّداً أنّ التغيير في سوريا لا مفرَّ منه، وأنّ النظام السوري وفق بنيته وهيكليّته السابقة لن يلقى قبولاً في الحلّ السياسي، لا على الصعيد الداخلي ولا الخارجي، وخاصّة في ظلّ طائفيّة العديد من مؤسّساته، كمؤسّسة الجيش، ولذا بدأ الروس بوضع اليد على مؤسّسة الجيش، وعملوا على إعادة تشكيلها، ليشارك فيها عناصر من كافة المناطق السوريّة، بما فيها المناطق التي كانت خارج سيطرة النظام السوري كدرعا وحمص وريف حلب والقلمون، لجعلها مقبولة من قبل السوريّين، وليضمنوا لأنفسهم السيطرة على الأرض، كما قاموا بتغيير دور الميليشيّات وشكلها من خلال دمجها في الهياكل الجديدة في مؤسّسة الجيش، وشرعوا في نفس الوقت بالسعي لإضعاف النفوذ الإيراني في مؤسّسة الجيش، وذلك من خلال دعم شبكة الضبّاط الموالين لهم، واستبعاد الضبّاط الموالين لإيران، وكذلك من خلال تفكيك وحلِّ القوات الرديفة، والميليشيات المموَّلة من قبل إيران، ودمج عناصر المصالحات في الجنوب السوري ووسط وشمال سوريا، في التشكيلات العسكريّة التابعة لروسيا، وغاية الروس من ذلك كلّه هي تشكيل نظام جديد في سوريا؛ ويرى د. نرش أنّ روسيا نجحت إلى حدّ ما في مساعيها، وأنّ حجم التغيّر طال أبرز التشكيلات العسكريّة والأكثر محوريّة في الجيش السوري، كالحرس الجمهوري، والفرقة الرابعة، والفيلق الخامس، وبالنتيجة وصلت روسيا في الوقت الحالي إلى درجة التحكُّم شبه المطلق بكلّ مفاصل عمل مؤسّسة الجيش في سوريا، وتمكَّنت من فرض جميع إملاءاتها على رأس النظام السوري، وعلى القيادات العسكريّة العُليا في مؤسّسة الجيش[vi].
من ناحية أخرى، تشير بعض الدراسات والتحليلات إلى أنّ روسيا تستخدم أساليب مختلفة لتوسيع نفوذها في سوريا، فقد نشر موقع ’أتلانتك كاونسل‘ (Atlantic Council)[[vii]] دراسة حول القوّة الناعمة التي تفرضها روسيا من خلال المساعدات الإنسانيّة في سوريا، وبحسب الدراسة فإنّه “من خلال تشكيل نظام مساعدات ظل في البلاد، فإنّ هذا النظام الذي يبدو غير ضار يشكّل تهديداً تمّ التقليل من شأنه على المجتمع والمؤسّسات الإنسانيّة والشعب السوري. ويقوّض نظام المساعدات الروسي المكتفي ذاتيّاً الذي لا يحتاج إلى مساعدة خارجيّة من قبل المجتمع الدولي أو الأمم المتّحدة الجهودَ التي تقودها الأمم المتّحدة في سوريا ويقلّل من قيمتها وينافسها”، وتقول الدراسة أنّه إضافة إلى مركز ’حميميم‘ للمصالحة والأطراف المتنازعة (Russia’s Center for Reconciliation and Conflicting Sides -CRCS)، فلدى روسيا خمس وعشرون من الكيانات الأخرى التي لم يسلّط عليها الضوء بنفس الشكل، وترى الدراسة آنفة الذكر أنّه وبقدر ما استخدمت روسيا محادثات أستانا لإعطاء الأولويّة لمصالحها، فإنّها تستخدم نظام المساعدات المحمي هذا لمنافسة النظام الحالي الذي تقوده الأمم المتحدة في سوريا، كما أنّها بذلك تسعى للحدّ من تنامي المشاعر المعادية لها في جنوب سوريا من جماعات المعارضة والقوّات الحكوميّة وفي شمال غرب سوريا التي يمكن أن تتحوّل في وقت لاحق إلى استهداف للمؤسّسات المدنيّة الروسيّة في سوريا[viii].
وعن العلاقة بين روسيا والأفرع الأمنيّة في سوريا، يمكن القول أنّ روسيا لا تجهل مدى سطوة وتأثير وفساد هذه الأفرع، ولذا تضعها في دائرة اهتمامها النشيط، وتسعى إلى مدّ نفوذها إليها وإحداث التغيير المناسب فيها، ففي تموز 2019 مثلاً، أجرى النظام السوري تغييرات أمنيّة جديدة، وبحسب ’مركز تحليل وبحوث العمليات-‘COAR جرت هذه التعديلات بجهود روسيّة لتقليل قبضة “العلويّين” على أجهزة المخابرات، وبالتالي، إلغاء التأثير المباشر لإيران، وهذا ما أكّدته صحيفة ’إندبندنت‘، التي قالت إنّ مراقبين مطّلعين على تفاصيل هيكليّات الأجهزة الأمنيّة السوريّة وعلاقاتها وارتباطاتها الداخليّة والخارجيّة، أكّدوا أنّ كلّ التغييرات التي حصلت كانت بتوجيه وإشراف روسيَّين مباشرَين[ix]، وعن ذلك، في تصريح له يقول الأكاديمي والخبير في الشأن الروسي الدكتور محمود حمزة أنّ “روسيا أسّست عدّة فروع أمنيّة مهمتها حماية المطار والقصر الجمهوري والوزارات والمؤسّسات، ففي حال حصول أيّ حادث مفاجئ تقوم بدور الحماية، كما أنّ هناك ضباط أمن أصبحوا يتحدّثون علناً أنهم يعملون لمصلحة روسيا”، وهذا ما يعتبره د. حمزة دليلاً على مدى اختراق الروس للأجهزة الأمنيّة[x].
وعدا عن كلّ ما تقدّم فقد حصلت روسيا على العديد من العقود الاستراتيجيّة والاقتصاديّة، التي ضمنت فيها السيطرة على مرافق وقطاعات اقتصاديّة حسّاسة في سوريا، فعدا عن حصولها على مطار حميم في اللاذقيّة وتوسيعه وتحويله إلى قاعدة لقواتها من دون مقابل، ولأجل غير مسمّى، فهي قد أنشأت قاعدة عسكريّة بَحرية في طرطوس، تستوعب سفناً حربيّة كبيرة، كما أنّها وقّعت اتفاقيّة مع النظام السوري تقضي بإقامة مركز لوجستي للمعدّات الفنيّة للأسطول الروسي في طرطوس لمدة 49 عاماً، وإضافة إلى ذلك فقد استأجرت ميناء طرطوس لمدة 49 عاماً، من أجل استخدامه من قبل قطاع الأعمال الروسي، وفي عام 2018 دخلت 80 شركة استثمار روسيّة إلى سوريا، وقد سبق للنظام إعطاء عقود استثماريّة لشركات نفط روسيّة، تقضي بمنح الأخيرة حقوق التنقيب عن النفط والغاز في الساحل السوري، لمدة 25 عاماً، بمساحة تبلغ نحو 2200 كيلومتر مربّع، هذا عدا عن عزم روسيا إقامة عدّة مشاريع سياحيّة روسيّة في المنطقة الساحليّة ومشاريع صناعيّة في مناطق مختلفة من سوريا، بالإضافة إلى مشروع زراعي كبير في المنطقة الساحليّة، ومشروع زراعي آخر في المنطقة الوسطى[[xi]]، كما أنّها عبر اتفاقيّة الفوسفات ضمنت التحكم بهذا القطاع الهام من الاقتصاد السوري[[xii]]، وعلاوة على ذلك قد تمّ مؤخّراً توقيع عقد بين وزارة النفط والثروة المعدنيّة السوريّة، وشركة كابيتال محدودة المسؤوليّة الروسيّة للتنقيب عن النفط، بشكل حصري، في البلوك البحري رقم واحد في المنطقة الاقتصاديّة لسوريا، في البحر الأبيض المتوسط مقابل ساحل محافظة طرطوس وحتّى الحدود البحرية الجنوبيّة بين سوريا ولبنان بمساحة 2250 كيلومتراً مربّعاً، ووفقاً لبعض المراقبين، فقد بلغت العقود الروسيّة نحو 40 صفقة تجاريّة إستراتيجيّة خلال 10 سنوات، وحول هذه الأمر يقول الخبير الاقتصادي السوري سمير سعيفان، أنّه بعد أن أصبحت روسيا الداعم الرئيسي للنظام السوري منذ عام 2011، فقد اضطر الأخير إلى إعطاء موسكو كلّ ما تريد، وهنا اتجهت روسيا إلى الاستفادة من الوضع السوري اقتصاديّاً بقدر ما تستطيع[xiii].
اقرأ أيضاً:
وما تمّ عرضه أعلاه هي مجرد أمثلة توضّح مدى هيمنة روسيا اقتصاديّاً على سوريا، وهو يؤكّد على أنّ روسيا لديها اهتماماً استراتيجيّاً كبيراً وبعيد المدى في سوريا، ولذا فهي تسعى بما لديها اليوم من فرصة سانحة لابتزاز النظام السوري الذي ما يزال في القوانين الدوليّة يُعتبر سلطة شرعيّة في سوريا إلى أقصى حدّ، وبالعقود التي تفرضها عليها فهي بذلك تصنع أمراً واقعاً مُلزماً لأيّة حكومة سوريّة مستقبليّة في حال تمّ التغيير السياسي الذي لا مفرّ منه وإن تأخّر حدوثه.
وبعد ذلك، إذا ما عدنا إلى ما يقوله عبدالله الغضاوي عن التغييرات الأخيرة التي قام بها بشار الأسد في نهاية عام 2020 وبداية عام 2021، ويشكّل بعضها -برأيه- تحديّاً جريئاً مباشراً لروسيا، فيمكن اعتبارها صوريّاً نوعاً من الردّ العكسي على التغييرات السابقة التي قامت بها روسيا ولا سيما في الفترة بين تشرين الأول 2018 وتموز 2019، ولكن هذا يضعنا في حالة مفارقة مع ما يقوله بشار نرش عن نجاح روسيا في الوقت الحالي في الوصول إلى درجة التحكُّم شبه المطلق بكل مفاصل عمل مؤسسة الجيش في سوريا، وتمكَّنها من فرض جميع إملاءاتها على رأس النظام السوري، وعلى القيادات العسكريّة العليا في مؤسّسة الجيش، ففي حالة مثل هذه يصبح من المخاطرة البالغة تحدّي روسيا، الداعم الأكبر والأقوى للنظام السوري، وتوتير العلاقة معها، وبالأخص في أوقات تستفحل فيها الأزمة الاقتصاديّة وتتدهور الحالة المعيشيّة في البلاد بشكل شديد التسارع.
لكن مع ذلك فحتّى هنا من الممكن الافتراض جدلاً أنّ الأسد الذي يستشعر أنّ الروس ينوون التخلي عنه، قام بهذه الخطوات معتمداً على دعم الإيرانيّين، الذين لديهم شعور مماثل بأنّ روسيا تسعى إلى تهميش دورهم ونفوذهم في سوريا، وهذا الطرح بات الحديث فيه يكثر في الآونة الأخيرة مع أنّه ليس جديداً كليّاً، فوفقاً للمنسّق العام بين "فصائل الثورة السوريّة"، الدكتور عبد المنعم زين الدين، هناك أسباب عدّة لانحياز النظام السوري لإيران أكثر من روسيا، أولها أنّ “النظام بدأ يشعر بأنّ روسيا ستبيعه بصفقة”، ويرى د. زين الدين أنّ "موسكو مصالحها قد تكون محدودة في إحراز بعض النفوذ في سوريا في الساحل وغيره”، أمّا إيران فأشدّ تمسّكاً بالأسد، وطهران تعتبر النظام السوري “جسر عبور لها يربط بين مشاريعها من العراق إلى لبنان إلى غيره”[xiv].
إنّ الحديث عن احتمال تخلّي روسيا عن الأسد بصفقة، هو ممكن في سياق ترتيبات التوصّل إلى حلّ عامّ في سوريا، ولا يخرج عموماً عن إطار السياسة الروسيّة الباحثة عن تحقيق أكبر قدر من المكاسب الخاصّة في سوريا، وفي حال حدث ذلك، فهو يعني أنّ الأسد لم يبق له من داعم سوى إيران في مواجهة اتفاق دولي على إنهاء دوره، وهذا يعني بدوره أنّ مصيره قد حُسم فعليّا، فإيران وحدها لا تستطيع في مثل هذا الحال إلّا تأجيل هذا الحسم لبعض الوقت، لكن القول بأنّ مصالح روسيا محدودة في سوريا وأنّها تريد فقط إحراز بعض النفوذ في الساحل السوري وغيره من المناطق يبدو متناقضاً بشكل واضح مع كلّ الإجراءات التي قامت بها روسيا وتعني بوضوح أنّها تسعى إلى التحكّم بالنظام السوري وجعل روسيا هي صاحبة القرار في سوريا.
وهكذا يكون أمامنا احتمالان لا ثالث لهما، أولهما هو أنّ الأسد يحاول فعليّاً تقوية دوره ونفوذه في سوريا ومقاومة مساعي روسيا لجعله أداة طيعة بيدها، والثاني هو أنّ ما قام به من تغييرات، حدثت فعليّاً بموافقة روسيّة أو بإيعاز روسي، وهو بالتالي لا يشكّل إلّا استكمالاً لمسلسل التغيير الذي تقوم به روسيا لإحكام سيطرتها على النظام السوري والتحكّم به.
في حالة الاحتمال الثاني لا يعود قطعاً الحديث عن تعزيز موقف الأسد في مواجهة النفوذ الروسي في محلّه، ويصبح العكس هو الصحيح، أمّا في حالة الاحتمال الأول، فهذا يعني أنّ الأسد يقوم بتحدّي الروس الذين- كما تُؤكّد التقارير والتحليلات العديدة- قد قطعوا شوطاً كبيراً في عمليّة السيطرة على مفاصل الحكم في البلاد وتوغّلوا حتّى في الفروع الأمنيّة التي تشكّل مركز السلطة الرئيس في سوريا نفسها، وهنا تصبح مساعي الأسد مغامرة عالية المخاطر وسيئة الحساب، وتُضعف موقفه أكثر عبر زيادة توتير العلاقة بينه وبين الروس، وبالتالي تصبح الخلاصة النهائيّة لكلا الاحتمالين هي المزيد من إضعاف موقف الأسد وتسهيل مسألة إزاحته.
والخلاصة ممّا تقدّم، هي أنّه ليس غريباً بتاتاً أن يحاول الأسد مواجهة النفوذ الروسي المتعاظم في سوريا، أو النفوذ الإيراني المؤثّر فيها، وليس مفاجئاً أن يحاول حتّى الاستقواء بأحد الطرفين المتنافسين في مواجهة الآخر الأكثر خطراً عليه منهما، ومن الغريب فعليّاً ألّا يحدث هذا، لكن ضمن تركيبة الأوضاع التي آلت إليها الأمور في سوريا، والتوغّل الواسع والعميق لروسيا في مختلف مواقع السلطة فيها، لا تعود لدى الأسد خيارات إيجابيّة في مواجهة روسيا، ويصبح عليه أن يختار بين السيء والأسوأ في وقت يصبح فيه فعليّا من الصعب جداً تحديد ما هو الأسوأ، وهل هو الرضوخ للروس أم محاولة تحديهم.
روسيا عندما تدخّلت بقوّة حاسمة في الصراع السوري في أواخر عام 2015، وحدث ذلك دون أي تصدّ غربي لها، وهذا يعني أنّ الغرب على أقلّ تقدير لم يكن ضدّ هذا التدخل، لم تكن لتفعل ذلك بشكل يمكنه أن يعيد للنظام السوري قوّته المفقودة، ويجعله لاحقاً قوّة تستطيع فرض نفسها كأمر واقع في مواجهة المصالح الروسيّة فتقيّد أو تقلّص تحقيقها، ولذا لعبت روسيا لعبتها الحاسمة بشكل مزدوج، فهي بنفس الوقت أعادت هيكلة القوى التابعة للنظام وطوّرتها بما يكفي لاستخدامها بفاعليّة للقضاء على قوى المعارضة، ولكنّها لم تبق على قوى النظام السابقة هذه تابعة للنظام نفسه فتعيد له بكلّ ذلك قوته، وتصبح روسيا وكأنّها فعليّاً عملت بشكل رئيس لصالح النظام السوري ورهنت مصلحتها به، وبدلاً من ذلك وضعت روسيا كلّ القوى التي أعادت تشكيلها وتطويرها في يدها هي، ولم يكن ذلك صعباً عليها في وقت لم يكن فيه لدى النظام السوري، الذي كان على وشك السقوط، رغم كلّ دعم إيران وأتباعها له، أيّ خيار إلّا الاستعانة بالمنقذ الروسي ووفقاً لشروط هذا المنقذ نفسه، وهذا المنقذ الروسي أنقذ الوضع كما يناسبه هو وحسمه لصالحه ضدّ المعارضة التي سحق معظم قوّاتها، وأيضاً ضد النظام الذي سحب منه بنفس الوقت معظم قوّته.
وما فعلته روسيا هو أمر في منتهى الواقعيّة، فما كان من غير المعقول هو أن تتدخّل بكلّ تلك القوّة لحسم المعركة في سوريا، ثم تضع كلّ نتائج ذلك الحسم في يد الأسد، وتعيده حاكماً آمراً ناهياً في سوريا، وتنتظر بعد ذلك حسن مكافأتها منه، وما قامت به روسيا فعليّا وواقعيّاً هو أنّها حسمت الأمور بشكل يضع نتائج حسمها في يدها هي.
هذه هي القراءة الواقعيّة والمنطقيّة لما آلت إليه الأوضاع في سوريا، وبالطبع سيناور الأسد وتناور معه إيران نفسها حفاظاً على مصالح كلّ منهما، وستناور روسيا بدورها، وستستغل حتى مناورة كلّ منهما في مواجهة أمريكا وحلفائها لاستكمال التسوية التي تحصل فيها روسيا على أقصى ما تستطيعه من مكاسب، وبالطبع ستناور كلّ من أمريكا وحلفائها بقوّة أيضاً في لعبة المصالح هذه، إلى أن يصل كلّ اللاعبين الفاعلين فيها إلى الاتفاق المقبول.
واليوم يكثر الحديث عن خطوات حاسمة أو فارقة يتوقّع أن تقوم بها روسيا في ما يتعلّق بالنظام السوري، وبرأي كاتب الإندبدنت طوني فرنسيس: (لم تعد روسيا قادرة على “تحمّل” سياسات حليفها السوري الرئيس بشار الأسد في مجال إنهاء الصراع الأبدي في بلاده. هي باتت منذ فترة طويلة تعتقد أنّ إنجازات تدخّلها العسكري في أيلول 2015، لإنقاذ النظام في دمشق، يجب أن تُترجم إلى تسوية سياسيّة، تكون فيها اللاعب الأكبر وتتيح لها قطف ثمار انخراطها في معركة بلاد الشام) ويضيف فرنسيس: (موسكو تعتقد أنّ أوان التسوية السوريّة قد حان، وهي الآن في أفضل الظروف التي تسمح لها بقطف هذه التسوية ورعايتها)[xv].
والفترة القصيرة المقبلة ستوضّح أكثر حقيقة هذه الخطوات الروسيّة المزعومة المنتظرة.
[i] -عبدالله الغضاوي، إستراتيجية الأسد لتجنب أن يصبح ألعوبة بيدي روسيا وإيران، ترجمة مركز إدراك- 21 32021
[iii] - DWعربية، بعد عقد من الحرب.. كيف استطاع بشار الأسد الصمود في السلطة؟- 932021
[v] -فرانس 24، سوريا بعد عشر سنوات من الأزمة... الأسد يتجه لولاية رئاسية رابعة والمعارضة لا تقدم بديلا مقنعا- 932021
[vi] - بشار نرش، الجيش السوري بعد التدخل الروسي وأهداف عملية التحكم وإعادة الهيكلة، مركز الجزيرة للدراسات- 1492020
[vii] - Russian aid in Syria An underestimated instrument of soft power - Atlantic Council, DEC -14-2020
[viii] - باسل درويش، روسيا تحكم قبضتها على سوريا بدون ضجيج، صحيفة اليوم-17112020
[ix] - أمل رنتيسي، هل يستطيع الروس إزاحة الأجهزة الأمنية في سوريا؟ موقع عنب بلدي -1712021
[xi] - عدنان أحمد، استئجار ميناء طرطوس روسيا تحكم سيطرتها على الساحل السوري، العربي الجديد، 2242019
[xii] - منتصر أبو نبوت، بعد عقد على الثورة.. فاتورة التدخل الروسي والإيراني في سوريا، شبكة الجزيرة- 2032021
[xiii] -TRT عربي، تنقيب جديد.. لماذا تتسارع العقود الروسية بقطاعي النفط والغاز في سوريا
[xiv] - صلاح الدهني، لماذا ينحاز الأسد لإيران أكثر من روسيا بظل تنافسهما بسوريا، (عربي21)- 2532019
[xv] - طوني فرنسيس- إندبندنت عربية، روسيا تستعجل تسوية في سوريا، المرصد السوري لحقوق الإنسان- 2932021