info@suwar-magazine.org

الانحرافات السلوكيّة في المجتمع السوري

الانحرافات السلوكيّة في المجتمع السوري
Whatsapp
Facebook Share

 

   ليس من السهل رصد تلك اللحظة التي أصاب فيها التحوّل جوهر البنية الاجتماعية للمجتمع السوري، فقد يكون لها امتداد قديم بدأ بتشكيل تراكمات أدّت إلى خلخلة المفاهيم في مفاصل عدّة، وتغيير سلوكيّات اعتاد هذا الشعب على أن يعتبرها سويّة ومتزنة.

 

 لا يمكننا الجزم بأنّ جميع القوانين الاجتماعية قبل الحرب صالحة لتنمية الأفراد، فالكثير منها كانت تعمل على تقييد حرية الفرد ورغباته، وبالرغم من بعض حالات الانفكاك التي حصلت من العادات والأفكار الموروثة المبالغ بها بعد الحرب، وظهور سلوكيّات جديدة تعبّر عن ذات الفرد وإرادته الحرّة، كان هناك ظهور لسلوكيّات سلبيّة طغت على المشهد، وأصبحت الأكثر حضوراً وإثارة للقلق من النتائج التي قد تترتّب عنها والفوضى التي تسبّبها، ما الأسباب والدوافع التي تقف وراء هذه السلوكيّات؟

 

وقائع أصبحت يوميّة

 

"الساعة الخامسة والنصف صباحاً كنت متجهاً لشراء الخبز، وبينما كنت أقطع الشارع اعترضني شابّان في العشرينات تجاهلتهما ومضيت، لكنّ تجاهلي استفزّهما فبدآ بمشاجرتي ليُخرج أحدهما سكيناً ويطعنني واحدة بيدي والأخرى بساقي اليسرى، كان جميع من في الشارع ينظر إلى ما يحدث دون تدخّل أو محاولة لإيقاف الشابين، نهضت بعدها لأوقف سيارة تقلني للمشفى، لم يرضَ أحد بأن يوصلني بسبب رؤيتهم للدماء".

 

يتحدّث ماهر سلمان "اسم مستعار" عن حادثة تعرّض لها منذ ما يقارب الشهر أدّت إلى إصابة قدمه ويده دون أن يعرف سبباً لذلك، لا تشكّل هذه الحادثة حالة شاذّة فالشارع السوري اليوم يمتلئ بحوادث عنيفة مشابهة يختلف سببها، فمنها ما يرتكز على رفض للآخر وعدم قبول لمظهره أو سلوكه، ومنها ما يكون الهدف منه أبعد من الشخص المستهدف كالسرقة والخطف. لا تشكّل هذه الحالة حدثاً استثنائيّاً فيوميّاً نسمع أخباراً عن اعتداءات بالضرب تحصل في مناطق متعدّدة من سوريا يصل بعض منها حدّ القتل، وتشكّل هذه الحوادث أحد أوجه السلوكيّات المنحرفة التي سبّبها انتشار الأسلحة، دون معرفة الجذر الرئيسي للعنف بداخل هؤلاء الشباب مرتكبي هذه الأفعال.

 

 

الحرب والسلوكيّات المنحرفة

 

ترتبط السلوكيّات البشريّة ارتباطاً وثيقاً بالظرف والمكان، يمكننا تتبّع جيل كامل تشكّلت طفولته الثانية ضمن الحرب، وهي المرحلة التي تتشكّل فيها أخلاقه ومعرفته بالعالم، أو ما يسمى بالمرحلة المدرسيّة، هؤلاء الأطفال نمت قدراتهم العقليّة والمعرفيّة ضمن حالة من العنف، كانوا يلمسون على أرض الواقع بشكل يومي أنّ البقاء للأقوى والأكثر عنفاً، خرج هؤلاء الأطفال إلى مجتمع تعمّه الفوضى وتفكّك المفاهيم الأخلاقية والمجتمعية، عدا عن خسارة الكثير منهم لعوائلهم وتسربهم من المدارس، أو عدم قدرتهم على متابعة تعليمهم بسبب الظروف الاقتصاديّة، هؤلاء الأطفال أصبحوا شبّاناً اليوم وإن لم نعمّم الانحلال الذي طال تربيتهم الأخلاقيّة ضمن مجتمع يفتقد لأبسط قواعد النظام، فإن نسبة جيدة من هذا الجيل يواجه العالم اليوم بسلوكيّات منحرفة تتعدّد أشكالها وأسبابها، وقد نصل للحظة نبرّر لهم هذه السلوكيّات، ولكنّها رغم ذلك تؤدّي إلى نظام اجتماعي مفكّك، وفوضى لا يمكن ضبطها بسهولة.

 

أشكال السلوكيّات المنحرفة

 

لم يكن من السهل قبل عشر سنوات أو أكثر أن يقوم تاجر بالتلاعب بأسعار المواد الغذائيّة وغيرها، فسمعته ومكانته بين التجّار كانت تحتّم عليه أن لا يفعل ذلك، هذا السلوك البسيط الذي نادراً ما كنّا نراه سابقاً، تحوّل اليوم إلى حالة عامّة، فالتاجر الأكثر ذكاءً هو من يستطيع التلاعب بالأسعار، ومراقبة حركة السوق والليرة والقفز فوق الخسارة التي قد تحصل، والأسوأ من ذلك أنّ سلوكاً مثل هذا أصبح مقبولاً من قبل المجتمع، فالغالبيّة تخضع لتلاعب التجار بالأسعار وتتماشى مع هذه التغييرات دون محاولة المقاطعة أو الإشارة للنصب الحاصل.

 

 إنّ عدم القدرة على مواجهة سلوك منحرف يومي كهذا، يجعل السلوكيّات الأكثر انحرافاً شيئاً عاديّاً، فانشغال الناس بملاحقة لقمة العيش والحفاظ على الحدّ الأدنى من البقاء يجعلهم غير مدركين للتغييرات التي تحدث في بنية المجتمع السوري وتجعله أكثر هشاشة.

 

 يمكننا اعتبار التلاعب بالأسعار من أصغر المشاكل التي قد نواجهها في مجتمعنا إذا ما نظرنا إلى السرقة والقتل وإدمان المخدرات، ولكن هذا لا ينفي عنها صفة السلوك المنحرف، وإن كانت هذه الأفعال تعبّر عن شيء، فهي دليل واضح على تفضيل المصلحة الفرديّة على الصالح المجتمعي، والسعي للكسب بطرق غير شرعيّة طالما أنّه لا قانون أو ضوابط مجتمعيّة تقوم بمحاكمة الفاعلين، من هنا نستطيع البدء برصد السلوكيّات المنحرفة التي أصبحت أسلوب حياة، وهي في معظمها ناتجة عن الحاجة الاقتصاديّة التي يعاني منها الشعب السوري، تعدّ هذه الظاهرة من الظواهر التي لا تشكّل خوفاً أو قلقاً للأفراد بقدر غيرها كعمليّات النشل والسرقة والسطو المسلح. اليوم لا يمكنك التجوّل في مدينة دمشق بحريّة ودون خوف، عليك أن تكون منتبهاً طوال الوقت لأغراضك الشخصيّة، وما تحمله خوفاً من هجوم مباغت.

 

يتحدّث سامح درغام "اسم مستعار" عن إحدى الحوادث التي تعرّض لها في منزله يقول:

"اعتدت أن أركن دراجتي النارية داخل منزلي الذي يطّل على الشارع مباشرة بباب حديدي أقفله بعد دخولي، وبالرغم من ذلك تمّت سرقتها بعد دخولي بقليل دون أن ألحظ ذلك حتّى اليوم التالي".

 

هذه واحدة من سرقات كثيرة تحدث في أنحاء دمشق، في السابق كان يتمّ ركن الدراجات والسيارات دون خوف، أمّا الآن عليك استخدام أقفال والانتباه لأيّة حركة أثناء الليل، يندرج ذلك على مضخّات المياه التي تُسرق من الأبنية وتباع، والكثير من الحوادث التي تجعل الحياة غير آمنة، في أماكن التجمّعات ومواقف السرافيس حوادث نشل يوميّة للهواتف المحمولة والحقائب، هناك ترى الجميع متأهباً وشديد الانتباه لأيّة حركة قد تحدث.

 

هذه السلوكيّات جميعاً تعبّر عن حالة من انعدام التعاطف، وهو أحد أوجه الانحرافات العاطفيّة التي خلّفتها الحرب محوّلة العلاقات بين البشر إلى علاقات ترتكز على المصلحة و الربح، مجتمعنا اليوم يعيش حالة من عدم التعاطف وانتفاء مفهوم الحياة المشتركة أو التعاون من أجل النجاة، وهذا أدّى إلى سهولة ارتكاب البعض جرائم دون أيّ شعور بالذنب لتحصيل ما يرونه حقّاً لهم، ولا يمكننا الحكم على تلك الأفعال طالما هي نابعة عن حالة من الجوع والحاجة والخوف من الموت.

 

المخدّرات كنمط حياة

 

هناك بعض الانحرافات التي تحوّلت إلى نمط حياة بشكل خاص لدى الشباب، تعاطي المخدّرات تشكّل مثالاً على ذلك، فمعظم الشباب السوري اليوم يقضي يومه بتعاطي لفافات الماريغوانا وغيرها من المواد الكيميائيّة المخدرة، والحجّة المتبناة أنّها الشيء الوحيد الذي يعينه على تحمّل الواقع وصعوباته، لم تعد تقتصر هذه الظاهرة على فئة قليلة أو محدّدة، فمن طلاب المدارس إلى طلاب الجامعات والشباب العاطلين عن العمل تتغلغل هذه العادة لتصبح سلوكاً مقبولاً في المجتمع لم يعد يُلاقى بالاستهجان، حتّى أنّ الغالبية تبرّر لهؤلاء الشبّان تعاطيهم المخدّرات وتتعاطف معهم.

 

 

تختلف الحالات بين تعاطٍ ضمن الحدّ الأدنى وصولاً إلى حالات الإدمان التي تسبّب عطالة ورفضاً للواقع وحالات اكتئاب و إحباط، يتزايد انتشار المواد المخدّرة كلّ يوم في الشارع السوري والتي بدورها تؤدّي إلى سلوكيّات غير مدروسة وردود فعل عنيفة لدى المتعاطين، والأسوأ من ذلك هي عمليّة تهريب المخدّرات والمتاجرة بها، والتي أصبحت سوريا تحتلّ مراتب متقدمة فيها، لا توجد قوانين تضبط ذلك أو رقابة تضبط هذه التجارة، والشباب السوري يغرق في عالم موازٍ ضمن حياة غير واعية أو حقيقيّة.

 

مثل هذه الانحرافات في السلوك والتي تترسّخ لتصبح اعتيادية ومقبولة نتجت بشكل أساسي عن خلل في المفاهيم الأخلاقيّة المجتمعيّة، والتي تتشكّل عبر عدّة مسارات في المجتمع لتصبح قواعد يخضع لها الفرد مشكِّلةً لديه سلطة ذاتيّة على أفعاله، وذلك ما يسمى بالنظام المجتمعي أو السلطة الأخلاقيّة، وهي مجموعة من القواعد والضوابط المرتكزة على عادات وتابوهات متوارثة أو منبثقة عن الدين، تصبح جزءاً متأصلاً في الأفراد مع مرور الوقت.

 

ظهور سلوكيّات منحرفة هو دليل على انهيار هذه السلطة الأخلاقية، والذي جاء كنتيجة لانهيار السلطة السياسيّة، وجميع المفاهيم الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي كانت ترتكز عليها، فالحرب التي استمرت لسنوات أسقطت هذه الضوابط لتخرج من وراءها رواسب الكبت والعنف الذي مورس على هذا الشعب لسنوات طوال. ليس من الممكن التحكّم بهذه الأفعال أو قياس المستوى الذي قد تصل إليه، والانحدار الذي تخلّفه في صفوف المجتمع، فبقدر ما تبدو على أنّها أفعال نابعة عن انعدام المعايير الأخلاقيّة، هي في الوقت ذاته ردود أفعال على تهميش الإنسان واضطهاده سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وتحويله لكائن غير إنساني مدفوع بالغرائز والأنانيّة للحصول على الحدّ الأدنى من الحياة التي يرغب بها.

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard