info@suwar-magazine.org

المساكنة في سوريا بين المشكلة والحل

المساكنة في سوريا بين المشكلة والحل
Whatsapp
Facebook Share

 

1-مقدمة:

 

عقد من الأزمة المستفحلة الشاملة، التي ما تزال تتواصل وتتفاقم، وآثار جسيمة على شتّى الصعد، هذا هو اليوم واقع الحال في المجتمع السوري، الذي يعيش في ظروف كارثيّة تعتبر من الأسوأ على الساحة العالمية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

 

وفي مثل هذه الظروف لا يعود غريباً أن تنشأ ظواهر مختلفة، واسعة أو محدودة الانتشار، وتتناقض بدرجات صغيرة أو كبيرة مع منظومة القوانين والقيم والتقاليد السائدة.

 

ومن بين هذه الظواهر التي يكثر عنها الكلام والجدل اليوم "ظاهرة المساكنة"، التي تدور الأحاديث عن انتشارها اليوم عربيّاً بشكل عام، وإلى حدّ ما سوريا بشكل خاص، وهذا عائد بشكل رئيس إلى الأزمة التي يعيشها المجتمع السوري، لكن باستثناء ذلك، هناك الكثير من القواسم المشتركة الرئيسة بين وضع المساكنة في المجتمع السوري الراهن وفي معظم المجتمعات العربية الأخرى، وهذا بدوره مرتبط بتشابه هذه الأوضاع العامة في هذه المجتمعات.

 

وبالطبع عند البحث في مسألة المساكنة، لا يمكن للباحث إلّا النظر فيها بشكل نظري وذلك بسبب ندرة المعطيات النوعيّة المتوفّرة عنها، حالها في ذلك حال كلّ المسائل المرتبطة بالجنس عموماً، والتي تقترن عادة بالعيب فتحاط بالسريّة والكتمان.

 

ولذا لا يمكن القول عن هذه الدراسة إلّا أنّها محاولة نظرية لتسليط بعض الضوء على مسألة ما تزال محاطة بالكثير من الغموض في مجتمعنا، في وقت تزداد حولها فيه الأحاديث والأقاويل، وتقل الأعمال المنهجيّة التي يمكن من خلالها الوصول إلى حقائق المسألة.

 

2- ما هي المساكنة؟

 

المساكنة (cohabitation) بمفهومها الذي يتم التركيز عليه اليوم تدلّ على علاقة جنسيّة غير زوجيّة بين رجل وامرأة تتضمّن سكناً مشتركاً، أي هي باختصار تعني أن يسكن رجل وامرأة معاً بشكل تام أو جزئي ويمارسان الجنس دون أن يكونا متزوجين، وهذا النمط من العلاقات شائع في البلدان الغربيّة، وهو هناك مقبول تماماً من النواحي القانونيّة والأخلاقيّة والثقافيّة، والعكس تماماً في المجتمعات المحافظة على غرار المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، التي تعتبر فيها مثل هذه العلاقة من الكبائر، لأنّها علاقة جنسيّة غير شرعيّة وفق التقاليد والمعتقدات والقوانين السائدة في هذه المجتمعات.

 

وهذا النوع من العلاقات يطلق عليه أيضا تسمية "مصاحبة" (concubinage)، وفي بعض الأحيان يذهب البعض إلى تسميته بـ "زواج المساكنة"، كون العلاقة فيه بين الرجل والمرأة تشبه العلاقة بين الزوجين من حيث الإقامة المشتركة، والعشرة الجنسية والاشتراك في تقاسم بعض المسؤوليات والالتزامات.

 

لكن بشكل عام سواء على المستوى الشرعي أو القانوني أو الفكري أو مستوى العلوم الاجتماعيّة، يُمـَيّز عادة بين الزواج والمساكنة كشكلين مختلفين من أشكال العلاقات الجنسيّة، وهذا ما يحدث حتّى في المجتمعات المتقدّمة، كالمجتمعات الغربيّة، التي تستخدم فيها مصطلحات مختلفة عن "الزواج" للدلالة على هذه العلاقات.

 

ومما تجدر الإشارة إليه هو وجوب التمييز بين "الزواج المدني" (civil marriage) و"المساكنة"، فالأمران مختلفان جوهرياً، فـ "الزواج المدني" هو حالة ارتباط رسمي مقنّن وموثّق ومسجّل بين رجل وامرأة يتمّ بموجب القانون المدني حصريّاً في دولتهما، ولا تتدخّل فيه أيّة مؤسّسة دينيّة أو عوامل دينيّة، بخلاف "الزواج الديني" أو "الزواج التقليدي" الذي تعقّده عادة المؤسّسات الدينيّة أو الأهليّة وعلى أسس دينيّة أو يتمّ وفق معايير دينيّة، وبذلك يمكن القول أنّ "الزواج المدني" هو "زواج علماني".

 

3- ما هو موقف الدين من المساكنة؟

 

الدين الرئيس السائد على الساحة العربية هو الإسلام، وفي بعض المجتمعات العربيّة هناك أيضاً وجود هام للمسيحيّة، والشكل المشروع المقبول اليوم في كلّ من الإسلام والمسيحيّة هو "الزواج" فقط، وللزواج أصوله الدقيقة الحازمة في كلتا الديانتين، ولا يقبل فيهما أيّ شكل آخر لتنظيم العلاقة الجنسيّة، وحتّى "الزواج المدني"، ما يزال مرفوضاً في هذه المجتمعات، ما يعني أنّ "الزواج الديني"، أيّ الزواج القائم على أُسس دينيّة، هو الشكل الشرعي الوحيد المقبول للعلاقة الجنسيّة، وبما أنّ المساكنة تتخارج مع معايير الزواج في كلّ من الإسلام والمسيحية، فهي تعتبر في كلّ منهما علاقة جنسيّة غير شرعيّة، وبالتالي تصبح علاقة محرمة، وتنطبق عليها صفة الزنا.

 

وهذا الموقف هو موقف كلّ من رجال الدين المسلمين والمسيحيين في المنطقة العربيّة ككلّ، فهم يرفضون المساكنة تماماً ويدينونها إلى الحدّ الأقصى، والأمر في سوريا لا يختلف عن ذلك بتاتاً.

 

4- ما هو موقف المجتمع من المساكنة؟

 

في المجتمعات العربيّة، بما في ذلك سوريا، تسود تقاليد محافظة صارمة تحكم العلاقة بين الجنسين، والشكل الوحيد المسموح للعلاقة بينهما هو الزواج فقط، وأيّة علاقة أخرى تعتبر علاقة محرّمة ومعيبة، وتوصم بالعار، ويمكن أن يكون العقاب عليها عنيفاً إلى الحدّ الأقصى المتمثّل بالقتل تحت مسمّى "الشرف".

 

وهكذا لا يكون أمام علاقة المساكنة من فرصة للقيام بها إلّا في سريّة تامّة، فاكتشاف أمرها يحوّلها إلى فضيحة وخيمة العواقب على المستويّين الأهلي والرسمي.

 

ذلك لا يعني أنّه ليس هناك في المجتمعات العربيّة من لا يقبل بعلاقة المساكنة، فهؤلاء موجودون عربيّاً وسوريّاً، ولا سيما في بعض أوساط الشباب، والمثقّفين، وبعض الفئات الأكثر انفتاحاً على الغرب في المدن الكبيرة وسواهم... لكن مع ذلك فالأغلبيّة الكبرى في المجتمعات العربيّة ما تزال محافظة، وترفض المساكنة بشدّة وبحدّة، والمجتمع السوري ليس استثناء.

 

5- المساكنة من وجهة نظر قانونيّة:

 

بشكل عام ليس هناك عربيّاً أيّة تشريعات خاصّة تتعلّق بالمساكنة، وهي قانونيّاً تعامل كعلاقة جنسيّة غير شرعيّة، وتخضع للأحكام التي تحكم هذا النوع من العلاقات، ولنفس العقوبات التي تعاقب بها، والاستثناء العربي الوحيد حتّى الآن هو "الإمارات"، التي قامت بتعديل قانوني في أواخر عام 2020، ولم تعد بموجبه ممارسة الجنس بدون زواج جريمة يعاقب عليها القانون.

 

سوريّاً، وفقاً لما يقوله بعض القانونيّين كالمحامية نور عويس والمحاميّين غسّان حسن وسامر كحل وسواهم، هناك تناقض في القانون السوري في ما يتعلّق بالعلاقة الجنسيّة بين عازبين راشدين، فالقانون السوري لا ينصّ بشكل صريح  على معاقبة الرجل والمرأة الراشدين العازبين على ممارسة الجنس بدون زواج، لكنّه مع ذلك يطبّق عليها أحكام الزنا المنصوص عليها في المادة 473 من قانون العقوبات السوري ويعتبرها من الجُنح المخلّة بآداب الأسرّة، وبحسب تلك المادة تُعاقب المرأة الزانية بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين، ويقضى بالعقوبة نفسها على (شريك الزانية) إذا كان متزوّجاً، وإلّا فالحبس من شهر إلى سنة، وكما نرى فحتّى في هذه العقوبة هناك تمييز بين الرجل والمرأة!

 

أمّا المساكنة نفسها فلا توجد بعد نصوص قانونيّة خاصّة بها، ويمكن إرجاع ذلك بشكل رئيس إلى أنّها ما تزال ظاهرة جديدة نسبيّاً في المجتمع السوري، رغم أنّ الكلام غير الرسمي يدور عن وجودها منذ سنوات قبل عام 2011، الذي شكّل لحظة مفصليّة في التاريخ السوري الحديث.

 

6- المساكنة من وجهة نظر منطقيّة:

 

إذا وضعنا الأديان والتقاليد والأعراف جانباً، واعتمدنا على المنطق وحده في النظر إلى المساكنة أو المصاحبة، فلن نجد في المنطق أيّ مبرر أخلاقي لرفض علاقة المساكنة إن كانت تقوم بشكل رضائي بين راشدين عازبين، فشرعيّة العلاقة الجنسيّة في "المنطق" لا تأتي لا من الأديان ولا من الأعراف أو التقاليد أو العقود المدنيّة أو الدينيّة أو العرفيّة، ولكنّها تأتي من "التعاقد الإرادي الحر" بين رجل وامرأة يريدان التواصل الجنسي، بشرط أن تستكمل هذه العلاقة بالاحترام المتبادل، وألّا يكون فيها أيّ خرق لأيّة التزامات أخلاقيّة شخصيّة أخرى.

 

ولذا فالحكم على العلاقات الجنسيّة الحرّة في الغرب أو سواه أو على من يقومون بعلاقات مساكنة في المجتمعات المحافظة بأنّه فساد أخلاقي هو حكم جهوي تحكمه المعتقدات والتقاليد، ولا يستند إلى أسس منطقيّة.

 

عدا عن ذلك، فهناك جانب آخر لا يقل أهميّة عمّا سبق في المقاربة المنطقيّة للعلاقة الجنسيّة، وهو قبول الاختلاف، فالإنسان الذي يعتمد المنطق أساساً لإدارة سلوكه وعلاقته مع غيره، لا يجعل من نفسه لا حكماً ولا وصيّاً على هذا الغير، ويقبل أن يختلف عنه الآخرين حتى في الأمور الحسّاسة في الحياة إذا كان هذا الاختلاف لا يسبّب له ضرراً، ولذلك فهو يقبل المختلف عنه في ميادين الدين والجنس والسياسة والفكر وسواها، وهكذا فهذا الإنسان المنطقي قد يكون لديه هو نفسه أسبابه الوجيهة لعدم قبول سلوك جنسي ما، ولكنّه بنفس الوقت يقبل أن يقبله غيره، وهذا ينطبق على المساكنة.

 

لكن مع ذلك فكلّ الكلام المنطقي عن المساكنة يبقى نظرياً ويحتاج إلى المجتمع المتحرر الذي يمكن فيه التعامل مع الجنس بمثل هذه المنطقيّة، وفي المجتمعات المحافظة حيث تسود تقاليد جنسيّة متزمتة تمنع قطعاً أيّ نشاط جنسي خارج إطار الزواج المتعارف عليه، لا يمكن الركون إلى المنطق وحده في التعامل مع مثل هذه القضيّة الخطيرة، وعلى الإنسان العاقل دوماً أن يكون واقعيّاً وحذراً بما يكفي في خياراته في بيئته المحافظة.

 

 اقرأ أيضاً:

 

تكاليف الزّواج في زمن الحرب تثقل كاهل الشّباب

 

7- المساكنة في الواقع السوري الراهن:

 

اليوم هناك الكثير من الكلام عن المساكنة في سوريا في وسائط الإعلام، والعديد من الإعلاميّين والصحفيّين يتحدثون عن لقاءات مع شباب وشابّات مرتبطين بعلاقات مساكنة، يرون فيها أسباب قيامهم بها ومواقفهم منها، وهناك أيضاً بعض الاستطلاعات والتقارير التي تمّ إعدادها من قبل بعض المؤسّسات الإعلاميّة المستقلّة مثل "نورث برس" و"شام برس" و" نينار إف. إم" وسواها.

 

لكن بشكل عام ليس هناك أيّة مراجع معلوماتيّة كافية كمّا وكيفاً لدراسة مسألة المساكنة بشكل دقيق، وتحديد واقع حالها الفعلي في المجتمع السوري الراهن.

 

مع ذلك فوفقاً للمعطيات المتوفرة وكما بيّنت بعض اللقاءات والاستطلاعات في بعض الأوساط الشبابية، فقد اختلفت آراء ومواقف الشباب من المساكنة، فهي قد رفضت بشكل قطعي من قبل البعض منهم بسبب تناقضها مع التعاليم الدينيّة والقيم الأخلاقيّة السائدة في المجتمع، فيما رأى سواهم أنّها غير مناسبة من الناحية العملية في المجتمع السوري ولم يعترضوا عليها من حيث المبدأ، ورأى آخرون أنّها يمكن أن تكون حلّاً عندما يتعذّر الزواج، وقال بعض المتساكنين أنّهم ينوون الزواج لاحقاً، فيما اعتبرها البعض فرصة لاختبار مدى ملائمة الشريكين لبعضهما البعض قبل الزواج بشكل رسمي، لكن سواهم لم يربط المساكنة بالزواج وقال أنّه يريدها كتجربة بحد ذاتها ولا يرى فيها أيّ سوء، وقد اعتبرها آخرون تجربة أكثر مناسبة للمجتمعات الحديثة والمنفتحة، وهلمّ جرى...

 

أمّا أسباب المساكنة وفقاً لتلك المعطيات، فقد كانت مرتبطة بالدرجة الأولى بصعوبات الزواج، وعدم القدرة عليه لأسباب اقتصاديّة أو طائفيّة أو بسبب عدم الاستقرار ومجهوليّة المستقبل، فيما ارتبطت الأسباب أحياناً بالرغبة بالحصول على تلبية جنسيّة بدون مسؤوليات والتزامات وأعباء كما هو الحال في علاقة الزواج.

 

8- المواقف العامة من المساكنة عربيّاً وسوريّاً:

 

في الغالبية العظمى من الحالات في المجتمع السوري وسواه من المجتمعات العربيّة ترفض المساكنة بحدة وتدان بأشدّ الإدانات، وتعتبر علاقة زنا، وتخضع لعقوبة الزنا القانونيّة.

 

وغالباً ما ينظر إلى من يقومون بها على أنّهم متأثرون بشكل أعمى بالغرب، وبالأخص أمريكا، التي تسعى بشكل حثيث لعولمة ثقافتها، وغزو المجتمعات الأخرى ثقافيّاً وتقويض ثوابتها المعتقديّة والأخلاقيّة وفقاً لوجهات النظر هذه، بل يرى البعض أيضاً أنّ "المساكنة" بشكل عام هي جزء من مؤامرة خبيثة مدبّرة لضرب الشباب العربي والمسلم في دينه وأخلاقه وقيم مجتمعاته.

 

ويعطي معظم أصحاب تلك الطروحات دوراً كبيراً للثورة الإعلاميّة الحديثة في تمكين وتوسيع الغزو الثقافي الغربي. لكن مع ذلك فهناك في بعض الأحيان من يقف مواقف مغايرة، فيدعو إلى الاعتراف بالمساكنة وتقنينها كالمحاميين السوريين نور عويس وسامر كحل، أو يعترف بشكل صريح بأنّه قام بها ولا مانع لديه من أن يقوم أبناؤه بها كالفنان السوري جهاد سعد.

 

9- المساكنة في سوريا من وجهة نظر تحليليّة:

 

غالباً ما يتمّ التعامل مع مسألة المساكنة سوريّاً وعربيّاً وفق قوالب مسبقة وغير واقعية لا ترى فيها إلّا أنّها خرق فاضح وخطير للمحرّمات الجنسيّة، وترجع أسبابها بشكل رئيس إلى الغزو والمؤامرة الخارجيّين أو إلى سوء وفساد إرادات وأخلاق أصحابها.

 

أمّا النظرة الواقعيّة العقلانيّة فلا يمكنها أن ترى المساكنة في المجتمعات العربية بشكل منفصل عن واقع هذه المجتمعات المأزوم بشدّة على كافة الصُعد، والصعيد الجنسي أحد أهمها.

 

في المجتمعات العربيّة هناك "أزمة كبت جنسي" حقيقيّة مترابطة بشكل جوهري جدلي مع ثقافة جنسيّة مريضة ما تزال تنظر إلى الجنس كعيب وكدنس، وتنظر إلى المرأة كعورة وككائن دوني، ولا تراها في علاقتها مع الرجل إلّا كوسيلة وموضوع جنسيّين؛ وإضافة إلى ذلك فعقبات الزواج المرتبطة غالباً بتردّي الوضع الاقتصادي وتعقيدات متطلباته هي الأخرى تلعب دوراً رئيساً في أزمة الكبت الجنسي المستفحلة، التي لا يمكن أن يستمر تراكم ضغطها بشكل لا نهائي، ولا بدّ له في لحظة ما أن يصل إلى درجة الانفجار، ولا سيما في عالم معاصر تنفتح فيه الثقافات على بعضها وتتأثّر بقوة ببعضها، وغالباً ما يكون ذلك محكوماً بمستويات القوّة التي تتموضع عليها هذه الثقافات ومجتمعاتها ودولها.

 

إذا يمكن اعتبار أزمة الكبت الجنسي سبباً رئيساً أوليّاً لظهور ونمو المساكنة، التي يمكن اعتبارها في هذه الحالة إحدى أشكال ردّ الفعل العكسي على الكبت الجنسي.

 

أمّا السبب الثاني للمساكنة فيمكن إرجاعه إلى التغير الثقافي، فالجنس وأخلاقه وآدابه وقيمه في كلّ المجتمعات هو ليس حالة سرمديّة ثابتة لا تتغير، وهو يتغيّر كما تتغيّر ميادين الحياة الأخرى، ويطال فيها التغيير الدين والسياسة والأخلاق بشكل عام وسواها، ولذلك كما يظهر مثلاً لادينيون ومتديّنون أحرار وغير مؤمنين في الميدان الديني، ويبقى غيرهم متدينين تقليديين، ويظهر ليبراليون واشتراكيّون وقوميّون وإسلاميّون في الميدان السياسي ويوجد بجانبهم من لا يمارس السياسة، كذلك يظهر أيضاً من لا يرفض العلاقات الجنسيّة الحرّة فيما يبقى سواه محافظاً ومتمسّكاً بالتقاليد الجنسيّة السائدة، وهذا التغيير في كلّ ميادين الحياة بما في ذلك ميدان الجنس أصبح سمة متسارعة من سمات عالمنا الحديث الذي يتغيّر ويتطوّر ككل بوتيرة متسارعة.

 

إذا يمكن القول أنّ المساكنة عربيّاً ترتبط بشكل رئيس بالكبت الجنسي كردّة فعل من ناحية، وكفعل من ناحية ثانية بالتغيّرات الثقافيّة والاجتماعيّة الحديثة، وفي الحالة السوريّة عدا عما تقدّم يجب إضافة عامل ثالث شديد الأهميّة وهو "الأزمة المعيشيّة الكارثيّة" التي يعاني منها المجتمع السوري الراهن بعد عقد من الصراع المدمر، فالأزمات الكبيرة دوماً تُحدث تغيرات كبيرة في مجتمعاتها، بما لها من انعكاسات قوية على واقع المعيشة والوضع الأخلاقي وحالة الضبط الاجتماعي والسلطوي، وفي الحالة السوريّة يمكن القول أنّ الأزمة الخانقة وسعت مدى المساكنة بسبب تدهور الاقتصاد الذي جعل الزواج مستحيلاً بالنسبة لأكثريّة الشباب، أو بسبب تعذّر الزواج بسبب الدمار والنزوح أو الملاحقة الأمنيّة أو فقدان الاستقرار، أو بسبب قلّة عدد الشباب الذكور بسبب الحرب أو الجندية أو النزوح والهجرة وهلم جرى؛ كما أنّ هذه الأزمة التي كان لها انعكاسات أخلاقيّة كبيرة في شتّى المجالات أيضاً وصل تأثيرها إلى الميدان الجنسي ليطاله التغيير بدوره؛ وإضافة إلى ذلك فتدنّي قدرة كلّ من المجتمع والسلطة على مواصلة الضبط التقليدي بسبب ظروف النزاع والأزمة هي الأخرى أصبحت عاملاً مؤثراً في توسيع مجال المساكنة، الذي لا يمكنه أن يتسّع في ظروف يكون فيها الضبط الأهلي والسلطوي قويّاً؛ وعدا عمّا تقدّم.. يمكن أيضاً إضافة العامل الجندري المرتبط بالأزمة بدوره، فقد تسبّب النزاع بارتفاع معدّلات العنوسة كثيراً في أوساط النساء، وذلك بسبب نقص عدد الرجال لأسباب عديدة منها الموت أو الأسر في المعارك أو الإعاقة الدائمة أو الاعتقال أو الفرار إلى خارج البلاد إضافة إلى عدم قدرة معظم الباقين عن الزواج، وهذا ما جعل النساء، اللاتي هنّ في العادة أكثر محافظة في المجتمعات المحافظة لأسباب موضوعيّة أو ذاتيّة، أكثر تقبلاً لفكرة المساكنة، التي يقبلها الكثير من الرجال رغم محافظتهم إن وجدوا الفرصة المناسبة، وهذا عامل آخر من العوامل التي عزّزت ظاهرة المساكنة في المجتمع السوري الراهن.

 

10- دور العامل الجندري في المساكنة:

 

سواء على الساحة العربية أو الساحة السوريّة هناك تمايز جندري كبير حتّى في مسألة الضبط الجنسي، ففي كلّ الثقافات المحافظة التي تقترن فيها المحافظة بالذهنيّة الذكوريّة عادة، يقع القسم الأكبر من وجوب الانضباط الجنسي على المرأة، فالمجتمع الذكوري ككلّ أكثر تساهلاً مع خروقات الرجل الجنسيّة من خروقات المرأة التي تعتبر من أكبر الكبائر، والرجل نفسه هو بدوره أكثر تساهلاً مع نفسه في خروقاته الجنسيّة من خروقات المرأة التي يعتبرها بدوره أيضاً من الكبائر، عدا عن ذلك، هناك أيضاً العامل البيولوجي الذي يلعب دوره العملي الهام عند الرجل الذي ليس لديه "بكارة" يخشى على فقدها عند ممارسة الجنس بدون زواج وتسبب له لاحقاً فضيحة وكارثة، وهو أيضاً غير معرض للحمل وعواقبه الكارثيّة، ولذا يكفيه فقط أن يضمن سريّة علاقته غير الشرعية قبل الزواج ليتجنّب عواقبها، ولذا فهو أقل خشية من القيام بمثل هذه المغامرة من المرأة التي تخشى كثيراً القيام بذلك.

 

وهكذا.. بسبب زيادة تشدّد المجتمع الذكوري والذكور أنفسهم مع خروقات المرأة، ومخاطر فقدان البكارة والحمل غير الشرعي والتربية الأكثر صرامة للبنات... تصبح المرأة نفسها أكثر حذراً وخشية من القيام بعلاقات جنسيّة غير زوجيّة من الرجل بكثير، فحتّى في المجتمع المحافظ هناك نسبة كبيرة من الذكور لا مانع لديها من ممارسة الجنس بدون زواج إن توفرت الفرصة أو الشريكة، وهذا ما يجعل مسألة الالتزام بالتقاليد الجنسيّة السائدة منوطة أكثر بالنساء من الرجال، فإذا ما توفرت العوامل أو الدوافع أو الظروف التي تصبح فيها النساء أكثر قدرة على  خرق هذه التقاليد، فالخروقات ستزداد بالطبع، لأنّ الرجال سلفاً مستعدون بدرجة كبيرة لذلك.

 

فما الذي يمكنه أن يجعل النساء أكثر قدرة على عدم التقيّد بالمحظورات الجنسيّة؟

 

هناك عدّة أسباب، كزوال الخوف من العواقب، أو شدّة الكبت الجنسي أو تغير ثقافة المرأة، أو ضعف درجة الضبط المجتمعي، أو تشجيع الوسط المحيط، وهلم جرى...

 

وكما أشرنا في الفقرة السابقة، فارتفاع نسبة العنوسة النسائيّة في المجتمع السوري وانخفاض القدرة على الضبط فيه مثلاً يمكن اعتبارهما من العوامل التي تساعد على ازدياد انتشار المساكنة في هذا المجتمع.

 

لكن هناك عامل آخر ذا أهمية كبيرة في سوريا وسواها من المجتمعات العربيّة، فبما أنّ الخوف من فقدان البكارة هو عامل أساسي من العوامل التي تجعل المرأة في المجتمع المحافظ ترفض العلاقة الجنسيّة قبل الزواج، فتوفر إمكانية "رفو غشاء البكارة" اليوم أصبحت سبباً لزوال مثل هذا الخوف، هذا إضافة إلى توفّر وسائل منع الحمل، وحتى إمكانية الإجهاض أيضاً، ولذلك فحيث كان الخوف على البكارة أو من الحمل رادعاً يمنع النساء من ممارسة الجنس بدون زواج، فقدْ فقدَ هذا الخوف تلك القدرة على الردع بسبب توفّر الحلول الحديثة، وأصبحت نسبة من النساء لا تخشى العلاقة الجنسيّة بدون زواج، طالما أنّ إمكانيّات رفو البكارة ومنع  الحمل أو التخلّص منه متوفّرة.

 

11- الضبط الجنسي بين القمع الخارجي والانضباط الذاتي:

 

غالباً ما يبدو أنّ الالتزام الجنسي في المجتمعات العربيّة عائد إلى الالتزامين الديني والأخلاقي عند أبناء هذه المجتمعات بالتعاليم الدينية والقيم الأخلاقية السائدة فيها، وهذا أمر لا يُنكَر دوره الهام بكلّ تأ كيد، ولكن مع ذلك يجب عدم المبالغة في التركيز على دور العاملين الديني والأخلاقي في ضبط سلوك الفرد في المجتمع المحافظ، فهناك عامل لا يقلّ عنهما أهميّة إن لم يزد، وهو "عامل الخوف من العقاب".

 

فالكثيرون من أبناء المجتمعات العربية، ولا سيما من الذكور بالطبع، هم في حالة ازدواجيّة موقفيّة جنسيّة، ففي الوقت الذي هم فيه مقتنعون بأنّ ممارسة الجنس بدون زواج هي حرام دينيّاً وعيب أخلاقيّاً، هم أيضاً على استعداد لفعل ذلك إن أتيحت لهم الفرصة، وهذا ما يثبته الاغتراب بشكل دامغ، فرجال هذه المجتمعات عندما تتاح لهم الفرصة للعيش في الغرب، حيث يمكن ممارسة الجنس بدون زواج دون خشية أيّة عاقبة، جلهم لا يعود لديه أيّ مانع من ممارسة الجنس بدون زواج، رغم أنّه يبقى محافظاً على قناعاته المحافظة، وبذلك يتصرّف على عكس ما يعتقد ويقتنع، وهذا الأمر ليس مرهوناً بمرحلة عمريّة محدّدة، فالرجال من كلّ الأعمار يفعلون ذلك، ولكن قد تختلف النسب نوعاً ما، وحتّى النساء أيضاً يفعلنه، ولكن بنسبة أقل.

 

لكن مثل تلك الازدواجيّة والتناقض بين السلوك العملي والقناعة المعتقديّة تحدث من قبل أبناء المجتمعات العربيّة ليس فقط عند تواجدهم في الغرب، بل حتّى في بلدانهم، ولكن بنسبة أقل بكثير بالطبع بسبب صرامة هذه المجتمعات مع الخروقات الجنسيّة، والفيصل كما سلف الذكر هو "الخوف"، فما يحدث في المغتربات يدلّ فعليّاً على مدى هشاشة القناعات المعتقديّة والأخلاقيّة عند جلّ رجال بلاد العرب، ويثبت أن رادعهم الجنسي في بلادهم هو بشكل رئيس "الخوف"، لأنّ بلادهم تعاقب بشدّة على السلوك الجنسي الذي يخرق المعتقدات والأخلاق السائدة، وما ينطبق على الرجال ينطبق على النساء أيضاً.

 

وهكذا، وحيث يكون الخوف هو الرادع الأساسي، يفقد هذا الرادع دوره عندما يجد الخائف وسيلة لتجاوز خوفه. وهذا الخوف حتّى داخل المجتمعات العربيّة كان كثير من الرجال يتجاوزونه أو لديهم استعداد لتجاوزه ولكنّ الفرصة لا تؤاتيهم، واليوم زادت الفرص لأنّ النساء بدورهنّ أصبح لديهنّ القدرة على تجاوز حالة الخوف، ولذلك تتنامى اليوم حالات الخروج على التقاليد السائدة وخرقها.

 

12- المساكنة في سوريا من وجهة نظر نقديّة:

 

عند حدوث مساكنة يمكن أن نميّز عدّة حالات في مواقف المتساكنين من علاقتهم، فأخلاقيّاً قد يرى البعض منهم أنّ هذه العلاقة ليس فيها أيّ عيب طالما أنّها قائمة بالتراضي بين الشريكين فيها، سواء كانت بنية الارتباط الزوجي اللاحق أو كانت من أجل التلبية الجنسيّة بدون تحمّل مسؤوليات والتزامات، وهذه الحالة رغم مخاطرها في المجتمع المحافظ، هي حالة انسجام مع الذات عند أصحابها الذين لا يتناقض سلوكهم مع قناعاتهم الخاصة وإن كان يتناقض بشدّة مع محيطهم الاجتماعي؛ لكنّ هناك فئة أخرى قد يكون لديها تناقض بين السلوك والقناعة، بحيث تعتبر المساكنة خطأ، بل وخطأ كبيراً، ومع ذلك تقوم بها، وهذه الفئة يمكن تقسيمها أيضاً إلى فئتين، الأولى قد تقدم على المساكنة بنيّة الزواج اللاحق، وقد يشجّعها على سلوكها هذا معرفتها بحالات مساكنة في محيطها، أمّا الثانية فهي التي تجد في المساكنة فرصة لتلبية حاجتها الجنسية حتّى وإن كان ذلك يتناقض مع قناعاتها، وهذه الفئة لا تفكّر بالزواج.

 

وفي حال كان الدافع إلى المساكنة هو تلبية الحاجة الجنسيّة فقط، وكان من يقوم بالمساكنة يحمل ذهنية محافظة تقليديّة، فهو  عندها سيعتبر علاقته مع شريكته/شريكها في المساكنة علاقة زنا، وسنكون هنا أمام شخصيّة مضطربة أخلاقيّاً لا تمانع خرق أخلاقها لتلبية حاجاتها، ومثل هذه الشخصيّة لا يكون لديها مانع حتّى من الكذب على الشريك، وغالباً ما قد يفعل الرجل هذا، فيعد المرأة بالزواج ثم ينكص ويحنث بوعده، وبذلك تصبح المرأة ضحية لخداعه.

 

وحتّى في الحالة التي يقدّم فيها شخص محافظ على المساكنة مع نيّة الزواج لاحقاً، فالتقييم الأخلاقي الخاص لهذه العلاقة، قد يكون له انعكاس وخيّم عليها ولا سيما عند الرجل التقليدي المحافظ، الذي سيعتبر مساكنته زنا ويعتبر نفسه وشريكته زانيين، ولكن بما أنّه رجل ذكوري بنفس الوقت، فهو لن يعتبر زناه الخاص من الكبائر، لكنّه سيعتبر زنا شريكته من الكبائر، وهذا ما قد يدفعه إلى الانفصال عنها وعدم الزواج منها لأنّه "يأبى الزواج من زانية"، وحتّى إن تزوّج منها، فيمكن أن تبقى فكرة زناها السابق موجودة وتؤثّر بشكل سلبي كبير على نظرته إليها واحترامه لها، وسيظلّ يعتبر في قرارة نفسه أنّه "قد تزوّج من زانية"، وربّما يؤدي ذلك إلى الطلاق.

 

ولا يتوقّف الأمر هنا فقط، فحتّى من لا يربط شرعيّة العلاقة الجنسيّة بالزواج، قد تغلبه أنانيته ويخدع شريكته، وبالطبع فالحالة الغالبة هنا هي عند الذكور، وبذلك تتحوّل علاقة المساكنة إلى علاقة خداع واستغلال.

 

وعدا عن كلّ ذلك، فهناك بالطبع الخطر الأكبر الذي يمكن أن تشكّله ردّة فعل المجتمع عند افتضاح أمر المساكنة، وتحوّلها إلى فضيحة، ففي أضعف ردّات الفعل سيفقد الشريكان سمعتيهما، وفي أشدّها قد يصل الأمر إلى ما يسمّى بجرائم الشرف، هذا ناهيك عن العواقب السيئة التي يمكن أن تنشأ عند حدوث الحمل، حيث غالباً ما يكون المتساكنان غير قادرين على الزواج، أو يكون الزواج بالغ الصعوبة، فتضطّر الفتاة لإجراء إجهاض، وهذا أمر يكون له عواقب صحية سلبيّة كبيرة عليها من الناحيتين النفسيّة والجسديّة، وإضافة إلى ذلك، فبما أنّ علاقة المساكنة غالباً ما تنتهي بالانفصال لأنّها من الأساس ناشئة غالباً بسبب تعذر الزواج أو مع عدم النية بالزواج، وقد يبقى تعذّر الزواج أو عدم الرغبة فيه قائمين إلى وقت لا تعود فيه المساكنة ممكنة الاستمرار، فسيكون على الفتاة أن تلجأ بعدها إلى "خديعة رفو البكارة" لكي تواصل حياتها بشكل طبيعي في مجتمعها المحافظ، وتكون بذلك قد تحوّلت إلى مخادعة.

 

13- إذا أين تقع المساكنة بين المشكلة والحلّ في المجتمع السوري؟

 

قد يجد البعض في المساكنة حلّاً ولا سيما مع الصعوبات الهائلة التي باتت تقف في وجه الزواج بالنسبة لمعظم الشباب السوريّين، وقد يعتبرها آخرون مشكلة خطيرة بسبب خرقها للدين والأخلاق، ويمكن أن يعتبرها سواه معضلة جديّة بسبب وجودها كأمر واقع وتناقضها الحاد مع محيطها الاجتماعي المحافظ.

 

في واقع الأمر، المساكنة في كلّ المجتمعات العربية هي مسألة جدّ شائكة، وهي كذلك في سوريا بدرجة مضاعفة بسبب الأزمة الخانقة التي تطغى على البلاد، وهي لا يمكن أن تكون حلّاً في ظروف الرفض المحيطي الحاد لها وعواقبه الخطيرة المحتملة، ولكن بالمقابل هناك مشكلة جنسيّة حقيقيّة في وسطها المحيط هي الأخرى بلا حلّ ولا حلّ لها على المدى المنظور.

 

وذاك يضعنا أمام أمر واقع لا يمكن تجاهله، فإمّا سيكون على مجتمعنا السوري أن يجد حلّاً غير المساكنة للأزمة الجنسيّة فيه، أو سيكون عليه أن يعترف بالمساكنة حلّاً لمن يرونها حلّاً، وبما أنّ الحلّ الآخر للمسألة الجنسيّة ليس قريباً، وهو بشكل عام لا ينفصل عن الحل العام الذي لا يبدو له أيّ ظهور على المدى القريب، فهذا يعني أنّ حالات المساكنة ستزداد، وتزداد نسبة مقبوليتها عند الشباب مهما حاربها المتشدّدون.

 

في وضع كهذا يطرح البعض فكرة "عقد المساكنة" الذي يعترف فيه بالمساكنة ويتم تقنينها بشكل رسمي، ومثل هذا العقد موجود مثلاً في فرنسا ويسمّى "عقد التضامن المدني" (Pacte civil de solidarité) أو اختصاراً بالفرنسية (PACS)، وهو عقد اقتران قانوني مختلف عن عقد الزواج، ولكن في الحالة السوريّة لا يمكن توقّع مثل هذا الحل، فهو يحتاج إلى حكومة مستقرّة منفتحة جريئة لتتخذه، وفي سوريا الراهنة تفتقد الحكومة إلى كلّ تلك الصفات، والسلطة ككلّ تسيطر عليها حالة من الضعف والفساد وانعدام المسؤولية، وهي اليوم بسبب ضعفها تسعى لكسب ودّ وتأييد رجال الدين، فتقدّم لهم التنازلات، وإن كان وزير الأوقاف السوري قد أعلن رسميّاً في آذار 2021 أنّه لن يكون في سوريا "زواج مدني"، فعن أيّ "عقد مساكنة" يمكن أن يدور الحديث؟!

 

14- خلاصة:

 

اليوم سواءً في سوريا أم في سواها من البلدان العربية تكثر وتعلو الأصوات التي تهاجم المساكنة والمساكنين، وبالطبع عندما يكون الإنسان عقلانيّاً فهو يتفهم موقف المحافظين الذين يدافعون عن عقائدهم وقيمهم وتقاليدهم، ويخشون عليها ويريدون لها الدوام، ولكنّه بنفس الوقت يتفهّم أيضاً المواقف المختلفة التي يتبنّاها التحرريّين أو المضطرين الذي يقبلون بالمساكنة، وفي المحصّلة يصل إلى نتيجة أنّ كلا الطرفين يحق له أن يكون لديه خياره ويحق له أن يدافع عن خياره، وفي مجتمع تسوده العقلانيّة، كان الحلّ ليكون هو قبول الاختلاف في مسألة المساكنة والعلاقات الجنسيّة عموماً كما هو الحال في بقيّة الميادين والمسائل الحياتيّة الأخرى، وذلك يعني أن يعطى من يريد المساكنة ويقبل بها الحق بذلك، فيما يبقى من لا يريدها ولا يقبل بها على موقفه المحافظ، فلا يقوم هو بالمساكنة، ويمكنه أيضاً أن ينتقدها ويروّج دعايته ضدّها بشرط عدم التهجّم والدعوة إلى العنف ضدّ المتساكنين، الذين عليه أن يقبل بهم كمواطنين متساوين معه في المجتمع.

 

أنصار المساكنة لن يكون لديهم مشكلة في ذلك، ويمكنهم بيسر أن يقبلوا باتفاق كهذا، وهم لن يسعوا لفرض المساكنة على أحد، ولكن رافضي المساكنة وخصومها من المحافظين لن يقبلوا بذلك، وهم يرفضون الاعتراف بحق التساكنيين بالوجود.

 

بهذا الشكل نكون قد وصلنا إلى وضع يستعصي فيه الزواج على معظم الشباب في المجتمع من ناحية، وليس لدى المتشددين أيّ حلّ لهذه المشكلة، ولكنّهم يرفضون أن يجد بعض الشباب حلهم الخاص في المساكنة، كما ويرفض هؤلاء المتشدّدون أيضاً رفضاً قاطعاً أن يتواجد معهم في نفس المجتمع من يختلف معهم في الموقف والسلوك الجنسيّين ويعيش بسلام وأمان ويتمتّع بنفس حقوق المواطنة.

 

وهنا لا يسع العاقل إلّا أن يقول لهؤلاء المتشدّدين أن ترفضوا ممارسة المساكنة بأنفسكم، وأن تدافعوا عن موقفكم وأن تنتقدوا المساكنة وتروّجوا وتنشروا آراءكم ضدّها فهذه حقوقكم التي لا يسع العقل إلّا أن يعترف بها ويضمنها، ولكن أن تتجاهلوا أزمة الكبت الجنسي في المجتمع فلا تسعون لحلها ولا تدعون غيركم يجد حلّه الخاص؛ وأن ترفضوا وجود المختلفين معكم في المواقف من الجنس الذين لديهم آراء عن الصح والخطأ فيه تختلف عن آرائكم؛ فهذه لا تعود حقوقاً ولكنّها تصبح غوغائيّة وتعصّباً؛ وبما أنّ الكثيرين منكم يجاهرون ويزاودون في العلن في هجومهم على المساكنة وأنصارها، في الوقت الذي ليس لديهم أيّ مانع من ممارستها أو ممارسة مثلها في السر إن أتيحت لهم الفرصة، فلا بد من إضافة النفاق أيضاً إلى الغوغائيّة والتعصّب في التعامل السائد مع المساكنة.

 

إذا هل من العقلانيّة الترويج للمساكنة ودعم المتساكنين؟

 

هذا السؤال يمكن الإجابة عليه بالنفي، وهذا يعود إلى سببين رئيسين، أولهما أنّ المساكنة هي سلوك شديد المخاطر على أصحابها في البيئات المتزمّتة جنسيّاً كما هو الحال في سوريا وسواها من البلدان العربية، والعاقل لا يدعم ولا يروّج الأمور التي تعرّض أصحابها للأخطار الكبيرة، وهذا هو السبب الموضوعي، أمّا السبب الثاني فهو السبب الذاتي الخاص بالمتساكنين أنفسهم، حيث أنّه لا يُمكن ضمان وجود الوعي المتحرّر الكافي عند طرفي المساكنة، الذين يمكن أن تتذبذب مواقفهم بين قبول ونبذ المساكنة أخلاقيّاً في الوقت الذي يمارسونها فيه عمليّاً، وهذا ما ينعكس سلباً على علاقاتهم مع أنفسهم ومع شركائهم، كما لا يمكن أيضاً ضمان ألًا ينتهز الانتهازيون والفاسدون فرصة المساكنة لاستغلال الآخرين وخداعهم لإرضاء مآربهم الجنسيّة الخاصّة، وعدا عن ذلك لا يمكن ضمان ألّا تؤدّي المساكنة نفسها إلى اضطرارات "لا أخلاقيّة" كالإجهاض أو رفو البكارة للتغطية عليها ودرء مفاعيلها.

 

لذا فالعاقل في مثل هذه الظروف لا يناصر المساكنة ولا يدعم المتساكنين، ولكنّه مع ذلك بما أنّ المساكنة قد أصبحت أمراً واقعاً، وهي لا تتناقض مع الأخلاق العقلانيّة من حيث المبدأ، ولها مبرراتها الموضوعيّة على أرض الواقع، فهو يتفهّم المتساكنين ويدافع عنهم عموماً، ورغم ثقته الكبيرة بأنّ بينهم العديد من الفاسدين، فهو مع ذلك لا يعتبر قطعاً كلّ متساكن أو متساكنة فاسدين، وباستثناء العناصر الانتهازية والمخادعة والمضطربة بينهم فهو يعتبر المتساكنين من الجنسين أشخاصاً عاديّين صنعوا خياراتهم الجنسيّة الخاصة في مجتمعهم بشكل يختلف عمّا هو سائد في هذا المجتمع.

 

وبعد ما هو الحل؟

 

لا أحد اليوم يمكنه أن يقدّم حلّاً على الساحة العربيّة، والوضع أسوأ على الساحة السوريّة، وفي مثل هذه الحالة الحياة نفسها هي من تصنع حلولها، وهي في ذلك لا تستشير الإرادات ولا تقف عندها، فتحلّ على طريقتها رضي من رضي وغضب من غضب، وإذا ما نظرنا إلى ما حدث في الغرب، فالتقاليد الجنسيّة السائدة فيه اليوم، والتي ننعتها بأعلى الأصوات وأشدّ العبارات بالفسق والفجور في مجتمعاتنا، فسنجد أنّها لم تحدث بأي قرار إرادوي من أيّ أحد، ولكن أيضاً لم يمكن منعها بقرار إرادوي من أيّ أحد، وإنّما فرضتها قانونيّة الواقع الموضوعي.. وطبعاً هذا ليس قدراً محتّماً في مجتمعاتنا إذا ما سعينا بشكل واع وجادّ إلى إيجاد حلّ بديل لمشكلة الكبت الجنسي، ولكنّه سيغدو كذلك إذا بقينا نرفض الاعتراف بالمشكلة ونتجاهل ضرورة حلّها ونهاجم كلّ من يتقدّم بحلّ.

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard