info@suwar-magazine.org

في غزوه لأوكرانيا، هل اغتنم بوتين الفرصة أم وقع في الفخ؟

في غزوه لأوكرانيا، هل اغتنم بوتين الفرصة أم وقع في الفخ؟
Whatsapp
Facebook Share

 

موجز:

 

في تحليله للغزو الروسي لأوكرانيا، يتبنّى هذا المقال وجهة نظر مفادها أن بوتين، في أحلامه الإمبراطورية وحالة غطرسة القوة التي هيمنت عليه، ودفعته إلى محاولة السيطرة بالقوّة العسكرية على أوكرانيا في منافسته الشرسة مع أمريكا والغرب على مناطق النفوذ في العالم، قد وقع -أي بوتين- في فخ خطير في أوكرانيا، ولم يغتنم الفرصة التي تبدو فيها أمريكا والغرب ضعيفين ومضطربين، كما يبدو للكثيرين، وهذا المقال يسعى لتوضيح المأزق الذي تورّط فيه بوتين بغزوه لأوكرانيا، وأنّ كلّ خياراته فيه هي خيارات باهظة التكاليف إلى الدرجة التي لا يمكن وصف أيا منها بأنّه خيار كاسب، وأنّ أيّة مكاسب سيحققها ستكون في المحصّلة عمليّاً خسائر كبيرة مقارنة بالأثمان الضخمة المدفوعة مقابلها.

 

مقدمة:

 

لقد فعلها بوتين أخيراً، وغزا أوكرانيا، وهذا ما كان يبدو للكثيرين حتّى بداية الغزو أمراّ جدّ مستبعد،  كما كان يبدو أنّ تدخل بوتين العسكري في أقصى حدوده لن يتجاوز دعم الانفصاليين في دانيسك ولوغانسك، لكنّ القوّات الروسية توغّلت الآن في العديد من المناطق الأوكرانية ووصلت إلى العاصمة  كييف التي يبدو أنّ بوتين مصرّ على إسقاط حكومتها ذات التوجّهات الغربية، وحتى الآن ما تزال أمريكا والغرب، كما كان الحال عليه قبل الغزو ومنذ وقت ليس بالقصير، يؤكّدان أنّهما لن يحاربا في أوكرانيا، وأنّ ردهما على روسيا سيكون اقتصاديّاً فقط إضافة إلى تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا، لكن حتى هذا الدعم العسكري لأوكرانيا كان أكثر من طرف غربي يتردّد في تقديمه لها حتّى وقع الغزو.

 

الآن آراء كثيرة تذهب إلى أنّ بوتين أتقن حساباته، واغتنم حالة الضعف التي تمر بها أمريكا والغرب عموماً، واستغلّها ليعيد رسم خارطة الهيمنة الجيوسياسية على العالم، ولينهي المرحلة التي احتلّت فيها أمريكا موقع القطب العالمي الأوحد منذ بداية انهيار الاتحاد السوفييتي حتّى اليوم.

 

ووفقاً لهذه الآراء تقوم حسابات بوتين على الوقائع التالية:

 

أولاً: الغرب الذي وقع في كارثة عام 2008 الاقتصاديّة، ما يزال يعاني حتّى اليوم من مشاكل اقتصاديّة مؤثرة، والأوضاع السياسية فيه مضطربة، والشعبويّة واليمين المتطرف ينموان بقوّة حتّى في بلدانه الأكثر تقدماً وقوّة، إلى درجة أنّ هذا مكـّن شخصية كترامب من الوصول إلى رئاسة أمريكا، وأدى إلى إخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

 

ثانياً: أمريكا، أقوى وأكبر الدول الغربية، تبدو في الآونة الأخيرة مجتمعاً منقسماً على نفسه، وهذا ما بدا واضحاً في الانتخابات ما قبل الأخيرة، والأخيرة، وفترة حكم ترامب بينهما، حيث شهدت أمريكا انقسامات حادّة بين مؤيدي ترامب ومعارضيه سواء على مستوى النخبة أو مستوى القاعدة الشعبية.

 

ثالثاً: ظهور السياسة الأمريكية بمظهر المتخبط في أكثر من موقف، منذ أواخر عهد أوباما وحتّى اليوم، فأوباما مثلاً لم يتخذ موقفاً واضحاً حازماً في المسألة السوريّة، وأصبح الأمر أسوأ في عهد خلفه ترامب، وبايدن، الذي لم يغيّر شيئاً في الشأن السوري، وانسحب بشكل مفاجئ من أفغانستان وأعادها إلى طالبان، وهكذا دواليك...

 

رابعاً: هناك خلافات واضحة بين دول الغرب وفي الناتو، فمثلاً في سياق الحرب في سوريا توتّرت وتردّت العلاقة بين أمريكا وتركيا، وفي ليبيا فرنسا وتركيا وقفتا على طرفي نقيض من الأطراف المتحاربة هناك، والعلاقة بين فرنسا وأمريكا ساءت بسبب صفقة الغواصات التي عقدتها أمريكا مع أستراليا في نهايات صيف عام 2021، وحلّت فيها محل فرنسا.

 

خامساً: أمريكا وحلفاؤها الغربيّون صرحوا مراراً وتكراراً أنّهم لن يحاربوا مع الأوكرانيّين إن غزتها روسيا، وأنّهم سيكتفون بالردّ الاقتصادي بشكل رئيس على هذا الغزو إن وقع.

 

وهذا كله شجع بوتين على القيام بغزو أوكرانيا.

 

 

ما الذي يريد بوتين تحقيقه من غزوه لأوكرانيا؟

 

قد تبدو الإجابة عن هذا السؤال واضحة، وهي أنّه يريد منع انضمام أوكرانيا إلى الناتو، لأنّ هذا يشكّل خطراً كبيراً على أمن روسيا.

 

لكن هذا ليس صحيحاً للأسباب التالية:

 

  • الناتو كان قد أصبح في الآونة الأخيرة تحالفاً مترهّلاً وضعيف الفاعليّة، والخلافات بين أعضائه كثيرة، والبعض منهم كان يرى أنّه لم يعد ضروريّاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكيّة، والأوربيون كانوا يفكّرون بإنشاء قوّة عسكريّة خاصّة بهم تغنيهم عن الناتو الذي تشكّل أمريكا قوّته الضاربة.
  • التوازن العسكري بين روسيا والناتو لا يقوم على مناطق النفوذ الجغرافيّة بقدر ما يقوم على السلاح النووي، وروسيا نفسها تمتلك من الرؤوس النووية أكثر ممّا تمتلكه أمريكا وفرنسا وبريطانيا معاً، فوفقاً لبيانات جمعيّة الحدّ من انتشار الأسلحة النووية الأخيرة في آبأغسطس 2020([1])، روسيا لديها 6375 رأساً نوويّاً بين مجهـّز ومخزّن ومعـّد للتفكيك، بينما تمتلك أمريكا 5800، وفرنسا 290، وبريطانيا 215، فيما تمتلك إسرائيل 90 رأساً وهي رغم علاقتها الوطيدة بالغرب لا يمكن اليوم اعتبارها عدوّاً لروسيا، والعلاقة بينهما وديّة إلى حدّ كبير، أمّا الصين فتمتلك 320 رأساً نوويّا وكوريا الشماليّة بين 30- 40 رأساً، وهاتان دولتان صديقتان لروسيا، فيما تمتلك الهند 150 رأساً وباكستان 160 رأساً وهما دولتان متخاصمتان، وتتنافسان في ما بين بعضهما البعض، ولا يمكن إدراجهما في عداد حلفاء روسيا أو الناتو، والكثير من هذه الأسلحة يمكن اليوم إطلاقها من مسافات بعيدة وجدّ بعيدة، ولا يعتبر القرب الجغرافي فيها عاملاً حاسماً، وهذا ينطبق إلى حدّ كبير على الأنواع الأخرى من أسلحة الدمار الشامل.
  • كلّ القوى الكبرى تدرك تماماً أنّ أيّة حرب مباشرة بينها ستكون نتيجتها الدمار الشامل المتبادل، ولن يكون فيها غالب ومغلوب.
  • حتّى مع تفاقم أزمة أوكرانيا، أعلنت أمريكا وحلفائها مراراً وتكراراً أنّهم لن يشتركوا في الحرب مع أوكرانيا ضدّ روسيا إن وقعت، وهذا ما يجعل أهميّة أوكرانيا الحربيّة بالنسبة للناتو ضدّ روسيا أمراً شديد المغالطة، فكيف يمكن أن يشكّل انضمام أوكرانيا إلى الناتو تهديداً كبيراً لروسيا إلى الدرجة التي تغزوها فيها مخاطرة بنشوب حرب عالميّة، وبالمقابل لا يقوم الناتو بحمايتها، وهي التي لها مثل هذه الأهميّة؟!
  • خطاب بوتين الأخير، الذي يبرّر فيه هجومه على أوكرانيا، يفصح تماماً عن عدم اعترافه باستقلاليّة أوكرانيا واعتبارها جزءاً تاريخيّاً من روسيا، كما يكشف عن أحلامه باستعادة مناطق النفوذ والهيمنة التاريخيّة لروسيا القيصريّة.

 

قد يُعترض على ما تقدّم بأن الناتو قام بالتوسّع شرقاً وضمّ عدّة دول من شرق أوكرانيا كانت سابقاً أعضاء في الاتحاد السوفييتي أو حليفة له، مثل جمهوريات بحر البلطيق وبولونيا والتشيك ورومانيا وبلغاريا وسواها...

 

هذا صحيح، ولكن كما سلف القول فهذا لا يحدث فرقاً فيصليّاً في توازن القوى العسكري الاستراتيجي بين روسيا والناتو، والحرب بينهما ليست مطروحة، وهو نفسه يؤكد عدم أهميّة انضمام أوكرانيا إلى الناتو من الناحية الحربيّة لأنّ حالها فيه لن يختلف عن حال دول البلطيق وبولونيا ولن يضيف في القيمة الحربيّة إلى الناتو الكثير.

 

إذا ما هي الغاية من توسيع الناتو؟

 

يمكن القول أنّ هناك أكثر من غاية، أهمّها إدخال هذه الدول في نطاق السيطرة والنفوذ الغربيّين ومنع عودة روسيا إليها وحمايتها من أيّة تهديدات روسيّة، والسيناريو نفسه كان معدّاً لأوكرانيا، والغاية الرئيسة ذاتها تسعى إليها روسيا، وهدفها فيها هو السيطرة على أوكرانيا ووضعها تحت النفوذ الروسي، وهو مثل النفوذ الغربي نفوذ متعدّد الأغراض بحدّ ذاته، وتدخل فيه أغراض اقتصاديّة وسياسيّة وجيوسياسيّة وسواها.

 

اقرأ أيضاً:

 

هل البشريّة أوعى من أن تتورَّط في حرب عالميّة ثالثة؟

 

وهكذا يمكن القول أنّ غاية بوتين الرئيسة هي الهيمنة على أوكرانيا، وليس درء خطر الناتو العسكري، الذي لن يحدث انضمام أوكرانيا إليه فارقاً جوهريّاً فيه على أمن روسيا من الناحية العسكرية.

 

ما هي الأوراق التي راهن عليها بوتين؟

 

بالطبع بوتين عند غزوه لأوكرانيا كان يراهن بشكل رئيس على تفوّق روسيا العسكري الكبير على أوكرانيا، التي لن يتدخّل الغرب لحمايتها عسكريّاً كما أعلن وكرّر الإعلان، وهذا ما اعتقد بوتين أنّه يعطيه الإمكانيّة لحسم المعركة بعملية سريعة خاطفة تسقط حكومة كييف الموالية للغرب، ووفقاً لما ذكرته صحيفة التايمز البريطانية فخطّة بوتين كانت تقوم على الاستيلاء على العاصمة الأوكرانيّة كييف وأربع مدن أوكرانية كبيرة أخرى خلال يومين، لكنّه فوجئ بقوّة المقاومة الأوكرانية ([2]).

 

بالطبع بوتين لم يُغفل أهميّة الردّ الغربي على الجبهة الاقتصاديّة، ولكنّه حتّى هنا كان يدرك أنّ أوروبا لا تستطيع التخلّي عن الغاز الروسي، الذي تشكّل صادراته مصدراً أساسيّاً من مصادر الدخل في الاقتصاد الروسي، ورغم أنّ خطوط إمداد هذا الغاز إلى أوروبا ما تزال تمرّ عبر أوكرانيا، فهو كان يثق بأنّ الغرب لن يدع أوكرانيا تقطع هذه الخطوط، وعدا عن ذلك فهو -أي بوتين- جهّز نفسه لبدائل محتملة كتصدير الغاز إلى الصين.

 

أما قضيّة فرض العقوبات، ولاسيما مقاطعة البنوك الروسيّة وفصلها عن نظام سويفت (SWIFT) العالمي للتعامل بين المصارف، ما يمكن أن يحدّ كثيراً من قدرة روسيا على القيام بالتعاملات الماليّة الخارجيّة، فقد استعد لها منذ عام ٢٠١٤ بإنشاء نظام روسي بديل لسويفت هو (SPFS)([3])، وبالتنسيق مع الصين التي لديها بدورها نظامها البديل (CIPS)([4])، وعدا عن ذلك فهو كان قد وقّع العديد من الاتفاقيات التجاريّة مع دول البريكس التي يتمّ فيها التبادل التجاري بالعملات المحليّة في مسعى للاستغناء عن الدولار أو التقليل من الاعتماد عليه.

 

لكن مع ذلك فما يمكن أن يوفّره البديلان الروسي والصيني لسويفت هو محدود إلى حدّ كبير، وذلك بسبب قلّة عدد الدول التي يستخدمان فيها وقلّة عدد البنوك المشتركة فيهما.

 

ومن رهانات بوتين الهامّة أيضاً رهانه على تأثير العقوبات الاقتصاديّة والحرب نفسها على الاقتصادات الغربيّة، وهنا بوتين يعلم أنّ الفرق بين النظام السياسي الروسي والأنظمة الغربيّة، وهو كبير، يعمل إلى حدّ ما في صالحه، فهو كحاكم مستبدّ أقل اهتماماً وتأثراً بردات فعل اقتصاديي بلاده وعامّة شعبه من الحكّام الغربيّين الذين يتأثرون كثيراً بمواقف اقتصاديّيهم وعامّة شعوبهم.

 

لكن بالمقابل روسيا العملاقة كقوّة عسكريّة هي ليست كذلك قطعاً كقوّة اقتصاديًة، وهي دولة متوسطة الحجم وقليلة التأثير على الساحة العالميّة، فإيرادات ميزانيّتها الحكوميّة مثلاً بلغت عام 2020 ما يعادل468,651 مليون دولار(106$)، وهذا أقل من نظيره في إسبانيا، فيما كانت إيرادات الميزانيّة الفيدرالية للولايات المتحدة مثلا 5,923,829 106$  (5 تريليونات  و923 ألف و829 مليون دولار) في نفس الفترة، وهذا لا يتضمّن إيرادات الحكومات المحليّة للولايات، وكانت إيرادات ميزانيّة ألمانيا 1,729,224 106$، وفرنسا 1,334,944 106$، وبريطانيا 966,407 106$، أمّا أوكرانيا 55,612 106$([5])، والفرق بين روسيا وبين الغرب، ولاسيما أمريكا، هائل على هذا الصعيد كما هو واضح، سواء من ناحية الحجم أو التأثير، ولا يستطيع الاقتصاد الروسي الدخول في حرب كهذه، حتّى بدعم من الصين، التي يراهن عليها بوتين لتخيف آثار المعركة الاقتصاديّة، في الوقت الذي يضع فيه رهانه الأساسي على الحسم العسكري السريع، والدخول السريع بعده في عمليّة التفاوض والحلحلة من موقع القوة.

 

ما هو موقف الغرب؟

 

الغرب بدوره يعي تماماً موقف بوتين ورهاناته، وهو أيضاً مستعد لها، ولذا يركّز الغرب ردّه على محورين رئيسين هما دعم أوكرانيا عسكريّاً وعزل روسيا اقتصاديّاً، وقد تصاعد كلّ من هذين الدعم والعزل بوتائر سريعة بعد بدء الغزو، وكلاهما يعطي مفاعيله، فأوكرانيا التي تحصل الآن على دعم عسكري من العديد من الدول الغربيّة، ما زالت صامدة، وسيناريو الحرب الخاطفة قد فشل، وبالمقابل بدأت الآثار السلبية تظهر على الاقتصاد الروسي، والروبل يتراجع بسرعة، وقد بدأ هذا بالحدوث حتّى قبل الإعلان عن فصل البنوك الروسيّة عن نظام سويفت، وقبل بداية العملية العسكرية كانت قيمة الدولار الأمريكي الواحد تعادل 74 روبل، ولكنّها قفزت إلى 100 في صبيحة اليوم الأخير من شباط فبراير 2022([6])، ووصلت قيمة الدولار الواحد في 11 آذار مارس إلى 133 روبل، ومايزال سعر الروبل ينخفض بسرعة، وإضافة إلى ذلك فالعديد من دول العالم المختلفة قد قامت بقفل مجالاتها الجوية أمام الطيران الروسي، أو أعلنت عقوبات على روسيا، ومنها اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة، وما يزال الغرب قادراً على اتخاذ المزيد من الإجراءات وفرض المزيد من العقوبات، حتّى على قطاع الطاقة الروسي نفسه، الذي يشكّل شريان الاقتصاد الروسي الرئيس.

 

ما هي خيارات بوتين؟

 

هنا ثمّة عدّة احتمالات:

الاحتمال الأول هو أن يوقف بوتين حملته العسكرية بسرعة، ويتخلّى عن فكرة اقتحام كييف، ويدخل في مفاوضات مع أمريكا والغرب على أساس المعطيات العسكريّة والاقتصاديّة والسياسيّة التي وصلت إليها الأمور الآن، ولديه هنا بعض الأفضليّات، كونه قد سيطر على جزء هام من الأراضي الأوكرانيّة، لكنّه مع ذلك لا يستطيع فرض الكثير، إلّا أنّه من الممكن له الوصول إلى تسوية ما، تضع أوكرانيا في حالة حياد عسكري.. أمّا احتمال منع انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي فهو ليس احتمالاً كبيراً، فاعتماد بوتين على ما سيطر عليه من أرض أوكرانيّة مقترن بنفس الوقت  بدرجة كبيرة من العزلة الاقتصاديّة التي ستكون آثارها وخيمة جداً على الاقتصاد الروسي، فيما لن يكون ثمّة مثل هذا الأثر الكارثي على الغرب وحلفائه، وبالتالي سيكون بوتين مضطراً لمقايضة الأرض المستولى عليها مقابل فكّ العزل الاقتصادي، وليس فقط مقابل تنازلات غربيّة أو أوكرانيّة سياسيّة أو جيوسيوسياسيّة، وإن تعنّت في هذا الأمر فهو سيبقى في مواجهة حادّة مع المقاطعة الاقتصاديّة من ناحية والمقاومة الأوكرانيّة من ناحية أخرى، وستكون آثار ذلك على روسيا عسكريّاً واقتصاديّاً وخيمة.

 

 

وفي مثل هذه التسوية لن يكون بوتين قد أنجز أيّ انجاز ايجابي كبير، فمقابل منع دخول أوكرانيا إلى الناتو، سيكون فعليّاً قد أعاد إنعاش الناتو([7]) ودفع المزيد من الدول إلى الانضمام إليه، وأعاد أوروبا إلى الوصاية الأمريكية، وأبعدها عن روسيا، وأظهر روسيا بمظهر الدولة المعتدية في أنظار العديد من دول وشعوب العالم وأفقدهم الثقة بها، هذا عدا عن الخسائر العسكرية والاقتصادية الكبيرة وآثارها الحادّة على الشعب الروسي التي يمكن أن تغيّر موقفه من بوتين ونظامه وأعوانه.

 

وهنا سيكون بوتين فعليّا خاسراً في معظم الجوانب.

الاحتمال الثاني هو مواصلة القتال، وهذا هو الأسوأ، حتى إذا سقطت كييف، وهذا ما قد يتأخر حدوثه وتعلو تكلفته العسكرية والاقتصادية والسياسية، فكلّما صمدت أوكرانيا أكثر، كثرت خسائر الروس الحربيّة والاقتصاديّة أكثر فأكثر، وهذا ما يحدث الآن لأنّ الغرب وحلفاؤه يزيدون دعم أوكرانيا عسكريّاً وعزل روسيا اقتصاديّاً، وبقدر ما يطول هذا فستكون روسيا قد وقعت في مستنقع باهظ التكاليف، ومن الممكن أن يستمر مثل هذا السيناريو حتّى دون أن يؤدّي إلى سقوط الحكومة الأوكرانية.

 

وحتى إن سقطت كييف عاجلاً أو آجلاً، فعندها سيبقى خيار المقاومة الشعبيّة قائماً، وجلّ المؤشرات السابقة والراهنة تؤكّد وجود درجة عالية من الروح القوميّة الأوكرانيّة المرتفعة المعادية لروسيا، وهذا ما ظهر جلياً في الثورة البرتقالية بين عامي 2004-2005، وانقلاب ٢٠١٤، وتصاعد بعد أحداث ٢٠١٤، وبوجود مثل هذه الروح التي ستنمو أكثر بكثير بعد غزو روسيا، سيكون هناك استعداد كبير للمقاومة، التي يمكنها أن تحصل على دعم خارجي كبير من الغرب وسواه، وأن تكرّر سيناريو أفغانستان، وهنا أيضاً سيكون بوتين قد وقع في مستنقع كبير وخطير.

 

الاحتمال الثالث هو تقسيم أوكرانيا، بشكل قريب من الوضع الراهن في سوريا، وفي مثل هذا الوضع سيكون بوتين أيضاً مهدّدا بخطر المقاومة الشعبيّة، كما سيكون عليه أن يقدّم ما يكفي مقابل رفع العزلة عنه، أو البقاء فيها وتحمّل مخاطرها الكبيرة، التي يمكن أن تؤدّي إلى انقلاب شعبه عليه.

وهذا الاحتمال بالغ السوء أيضاً.

 

الاحتمال الرابع وهو توسيع رقعة الحرب إلى خارج أوكرانيا وضرب مصالح غربيّة في مناطق أخرى من العالم، كالنفط في الشرق الأوسط مثلاً، وهذا الخيار أيضاً في منتهى السوء، وسيؤدّي إلى توسيع درجة ومدى العداء والمقاطعة والعزل لروسيا، ولا يضمن فيه ألّا يقوم الغرب بالردّ بالمثل أيضاً... ما يهدّد عندها بنشوب حرب عالميّة شاملة، وهذا ما سترفضه الصين حتماً، ويرفضه حتّى أكثريّة أنصار بوتين من الروس أنفسهم.

وكما نرى فخيارات بوتين كلّها سيئة جداً، ويبدو فيها وكأنّه وقع في فخ خطير معدّ بإحكام.

 

وماذا عن الصين؟

 

الصين لن تتورط قطعاً في الحرب مع بوتين، وهذا أمر واضح بما يكفي، وسيطرته على أوكرانيا لن تفيدها بشيء، وهي لن تجني شيئاً من وقوفها إلى جانبه ضدّ الغرب، ولاسيما أنّ علاقاتها الاقتصادية مع الغرب جيّدة، ولكن بدرجة ما يمكن للصين أن توفر لروسيا بعض الدعم السياسي المحدود، وبعض البدائل الاقتصاديّة المفيدة للصين نفسها كاستيراد الغاز الروسي مثلاً، وما لا شكّ فيه أنّ الصين التي تشهد علاقتها مع أمريكا ارتفاعاً متزايداً في التوتر، لا تمانع حدوث قدر من المواجهة بين أمريكا وروسيا بدرجة تربك أمريكا وتضعف دورها العالمي، وهذا ما يعزّز إمكانيّة لعب الصين دوراً أكبر متعدّد الصعد على الساحة العالميّة، ولكن الصين لن تخاطر بدخول صراع عنيف مع أمريكا بنفسها على غرار ما تفعله روسيا بوتين، ومن ثمّ يمكن القول أنّ الصين بدرجة ما تستغلّ روسيا، وما يبدو من دعم صيني لروسيا، هو فعليّاً دفعٌ لها باتجاه المواجهة مع أمريكا بشكل رئيس، وهذا ما يخدم الصين، حتّى وإن أضعف روسيا، فالصين فعليّاً لا تفضّل أن تكون روسيا على درجة كبيرة من القوّة، ومن مصلحتها أن تبقى روسيا محجّمة في حجم تكون فيه قادرة على مضايقة أمريكا وخلخلة نظام العولمة الأمريكية ومساندة الصين على تعزيز حضورها العالمي، دون أن تغدو روسيا نفسها نداً أو منافساً للصين، وموقف الصين من روسيا يشبه نوعاً ما موقف أمريكا من أوروبا، وإن اختلفت التفاصيل كثيراً.

 

وما هو الموقف الأوكراني؟

 

أوكرانيا اليوم مغلوبة تماماً على أمرها، وقد استخدمها الأمريكان والغرب عمليّاً كورقة للضغط على الروس واستفزازهم، واستغلّوا بذلك تخوف الأوكران من الروس وحساسيتهم تجاههم بعد فترات الاحتلال الروسي الطويلة لأوكرانيا أو السيطرة عليها، كما استغلوا أيضاً أحلام الأوكران بالدخول عالم الغرب المتقدّم الموعود، الذي كان يروّج له الغربيّون كنظام لنهاية التاريخ.

 

وككثيرين غيرهم وثق الأوكران بأمريكا والغرب، لكنّهم خـُذلوا في النهاية، وتحوّلت أوكرانيا إلى ساحة صراع عنيف بين أمريكا وروسيا على النفوذ والسيطرة وتحديد حجم الدور العالمي، وقد نجح الأمريكان بوضع روسيا بوتين الحالمة باستعادة أمجاد الاتحاد السوفيتي وروسيا الإمبراطوريّة، أمام خيارين، فقدان أوكرانيا نهائيّاً عبر ضمّها إلى الناتو والاتحاد الأوروبي، أو السقوط في فخّ غزوها والانجرار إلى حرب استنزاف وعزل، وقد أفلحوا في ذلك، وكانت أوكرانيا بالنسبة لهم مجرد وسيلة، وهي من يدفع الأثمان الباهظة.

 

خلاصة:

 

ليست حرب بوتين على أوكرانيا حرباً دفاعيّة لضمان أمن روسيا بإبعاد الناتو -الذي تسعى أوكرانيا إلى دخوله- عن الحدود الروسية، وإنّما هي حرب استعماريّة غايتها السيطرة على أوكرانيا قبل أن يفعل الغرب المُهيمَن عليه من قبل أمريكا ذلك، لكن أمريكا بما توفّر لديها من وقت بعد انهيار النظام السوفييتي وما تملكه من قوى عالميّة المستوى، تمكّنت من إحكام الإمساك بخيوط اللعبة في أوكرانيا، ونجحت في تحويلها إلى شرك للإيقاع ببوتين، فاستدرجته إلى حرب يمكن أن تتحوّل إلى مستنقع عسكري يغرق فيه، ودفعته إلى حالة من العزل العالمي والعقاب الاقتصادي القادرين على إنهاك اقتصاده، وجعلته بذلك في حالة استنزاف عسكري واقتصادي مزدوج، وبالمقابل أنعشت وعزّزت حلف الناتو تحت زعامتها، وأعادت أوروبا إلى بيت الطاعة الأمريكي، الذي لم تغادره بعد، وأظهرت روسيا البوتينيّة على الساحة العالميّة بمظهر الدولة المارقة العدوانيّة، وحشدت تحالفاً دوليّاً ضدّها.

 

أما بوتين فقد خسر واستعدى أوروبا ومعظم العالم، وخسر واستعدى الشعب الأوكراني، وهو على وشك خسارة شعبه نفسه، وهو يتوهّم في حالة من البارانويا أنّه يخلق نظاماً عالميّاً جديداً.

 

وأفضل ما بوسعه اليوم هو أن يتوقّف عسكريّاً حيث هو قبل أن يصبح الوضع أسوأ فأسوأ في لاحق الأيّام وأن يتفاوض، فهذا سبيله الأفضل للخروج من المأزق الذي أوقع نفسه فيه، وهو اليوم يستطيع تحقيق بعض المكاسب التي قد تستعصي لاحقاً أو تصبح أثمانها باهظة أكثر مما هي اليوم بكثير.

 

فهل سيفعل هذا؟

 

ربما.. وقبوله مؤخّراً بالتفاوض، رغم أنّه يضع شروطاً عالية السقف كثيراً، قد يكون مؤشّراً على أنّه بات يدرك حجم الورطة التي تورّط فيها، والتي ستغدو كارثيّة أكثر فأكثر كلّما صمدت أوكرانيا أكثر، لكن من ناحية أخرى، قد يكون قبول بوتين للتفاوض والدخول فيه عمليّة مراوغة لا أكثر لكسب الوقت والحدّ من تصاعد الدعم الغربي لأوكرانيا، وقد سبق له أن استخدم مثل هذا التكتيك في سوريا، وميدانيّاً ما تزال قوّاته تتوغّل في أوكرانيا، وتتجه أعداداً غفيرة منها باتجاه كييف في نيّة لإخضاعها إسقاطاً أو حصارها، وهذا يعني بكلّ أسف أن أيّاما عصيبة وخطيرة جدّاً تنتظر أوكرانيا، وبالأخصّ كييف، التي يطلق عليها محبوها تسمية "نجمة العالم السلافي" وأمّ "المدن الروسيّة"، ومفهوم "روسيّة" التاريخي هذا لا يرتبط بمفهوم بوتين العنصري والبارانويي له، الذي حاول تسويقه في خطابه حول أوكرانيا مؤخّراً.

 

والأيام القادمة هي من ستوضح الكيفيّة التي سيتصرّف بها بوتين، وهذا بالطبع مرهون تماماً بمجرى الأحداث على الساحات العسكريّة والسياسيّة والدبلوماسيّة.

 

لكنّ الواضح تماماً هو أنّ الحرب في أوكرانيا هي ليست حرباً بين أخيار وأشرار، ولكنّها حرب بين أشرار وأشرار من أجل إعادة تقسيم العالم فيما بينهم، والطغمة المسيطرة على أوكرانيا من الفاسدين والمتعصّبين هي جزء من هؤلاء الأشرار، وهي بدورها تتحمّل الكثير من المسؤولية عمّا آلت إليه الأمور بأوهامهما ورهاناتها ومغامراتها الرعناء التي ساهمت بتدهور العلاقة مع الروس إلى هذا الحد.

 

وفي هذه الحرب الخاسر الأكبر هو الشعب الأوكراني الذي يتعرّض للحرب وتتعرّض بلاده للدمار، ومن بعده الشعب الروسي الذي يتحمّل تكاليف وتبعات وعواقب الحرب الباهظة، هذا إضافة إلى تدهور العلاقة التاريخيّة بين الشعبين.

 

[1] - كم يبلغ عدد الرؤوس النووية الحربية وكيف تتوزع حول العالم؟ - CNN Arabic، https://shorturl.at/zNS14

[2] -التايمز هكذا أفشلت المقاومة الأوكرانية خطة بوتين للنصر خلال 48 ساعة أخبار سياسة الجزيرة مباشر، ‏28‏/02‏/2022، https://shorturl.at/gjuU3

[3] - SPFS – WikipediKK https://en.wikipedia.org/wiki/SPFS

[4]-بديل صيني-روسي لنظام سويفت لن يقوّض العقوبات الإيرانية The Washington Institute، https://shorturl.at/zCFJS

[5] -List of countries by government budget – Wikipedia , https://en.wikipedia.org/wiki/List_of_countries_by_government_budget

[6] -البنك المركزي الروسي يرفع الفائدة إلى 20 بالمئة لوقف هبوط الروبل، وكالة الأناضول، ‏28‏/02‏/2022، https://shorturl.at/fqrDZ

[7] -إعادة إحياء الناتو.. كيف منحت أزمة أوكرانيا قبلة الحياة للحلف الأطلسي؟ - الجزيرة نت، ‏25‏/02‏/2022، https:// shorturl.at/bAGT2

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard