هل البشريّة أوعى من أن تتورَّط في حرب عالميّة ثالثة؟
يكثر الحديث الآن في وسائل الإعلام المحليّة والدوليّة عن حرب عالميّة ثالثة، ويكفي أن نجري بحثاً سريعاً على الإنترنت لتخرج لنا آلاف المقالات والتقارير والفيديوهات التي تتحدًث عن هذا الحدث المرتقب، والدول التي ستشارك فيه، وكيف تستعد له، حتّى أنّ البعض منها يذهب أبعد من ذلك ليتنبأ بتاريخ وقوعه!
ورغم ذلك تُظهر الجماهير حول العالم لا مبالاة واضحة تجاه الأمر بحيث يفرض السؤال نفسه ملحّاً على النخب الثقافيّة في كلّ مكان: هل نحن أشد وعياً من أن نقع فريسة لهذه الحرب المجنونة؟
لا بدّ لنا قبل الخوض في المسألة أن نشير إلى أنّ حالة اللامبالاة التي نعيشها اليوم تعيد للذاكرة الحالة التي عاشتها أوروبا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فبعد انتهاء الحرب انقسم العالم إلى معسكرين شرقي وغربي، ونشب بين القطبين صراع جديد على شكل حرب باردة لم يستبعد أحد أن ينفلت عقالها في أيّ لحظة فتستحيل حرباً نووية، ومع ذلك يقول عالم النفس والفيلسوف الإنساني الألماني إيريك فروم: "لوحظ أنّ الجماهير الكثيرة لم تبد فاعلية حقيقيّة وملموسة في إنكار الوضع".
هذه الحالة أثارت عجب الباحثين، فالعالم لم ينفض بعد غبار الحرب الثانية والتي راح ضحيتها زهاء 80 مليوناً، ومشهد هيروشيما وناغازاغي ما زال حيّاً في الأذهان، فما سرّ هذا القبول الضمني لحرب ثالثة؟ يقول عالم النفس الألماني إريك فروم: "قدّمت تفسيرات كثيرة تفسّر جوانب وتعجز عن تفسير أخرى، والذي اقترحته أنا أنّ السبب الجوهري والعميق هو كره الناس للحياة، أو بعبارة أخرى افتتانهم بالموت". هذه النزعة "النيكروفيليّة" كما سمّاها فروم يقول إنّها تظهر حتّى في العبارات الشائعة بين الناس، فعندما يصفون شيئاً أنّه جميل جداً يستخدمون عبارة: "هذا يقتلني"، كما تظهر في "عبادة التقنيّة" وهو مصطلح عنى به الاستخدام المفرط للتقنية بطريقة متفذلكة وغير حيوية".
ولكن بالنظر للوقت الراهن: هل نجد النيكروفيليّة هي التفسير الحقيقي لحالة اللامبالاة التي نعيشها؟ أم أنّ البشر فعلاً لديهم طمأنينة لعدم وقوع هذه الحرب؟
اقرأ أيضاً
نحن فعلاً لا نسعى إلى إنكار النيكروفيليّة، فالأعراض التي تحدّث عنها فروم لا تزال سارية إلى اليوم، ولكن هل يمكن اعتبارها السبب الحصري؟ أليس هناك احتمال أنّ يكون فعلاً خيار وقوع حرب مستبعداً؟ ألا يمكننا أن نعتقد أنّنا تعلّمنا من أخطاء الماضي وأصبحنا أرشد من ذلك؟ أليس انقضاء مدة طويلة نوعاً ما على الحرب الأخيرة وضبط النفس الذي مارسه كلا المعسكرين خلال الحرب الباردة كفيل بأن يدعم هذا الاعتقاد؟
في الحقيقة ليس لدينا شكّ أنّ الاعتقاد السائد يسير في هذا الاتجاه ولكن ما مدى صحة هذا الاعتقاد؟
يقول المؤرخ الأمريكي الشهير "ويل ديورانت" أنّ 10 بالمئة فقط من تاريخ البشر المعروف كان فترة سِلْم والباقي حروب، قد يعتقد البعض أنّ هذا من تأثيرات الماضي، والحاضر أكثر اتزاناً وهدوءاً، وهنا نذكر أنّ كلا القرنين الماضيين كان إلى وقته الأشد دمويّة، وأنّ إحصائيات ضحايا القرن العشرين تتراوح بين 100 و180 مليوناً، وهذا الرقم لم تعرف البشرية مثيلاً له في تاريخها.
ولكن ماذا عن القرن الواحد والعشرين أو النصف الثاني من القرن العشرين؟ ألم يجد العالم الوقت ليلتقط أنفاسه ويتأمل ما حدث؟ ألا يحق لنا أن نعتقد أنّه فهم الدرس من الماضي؟
في الحقيقة جواب هذا السؤال سيدفعنا للنظر فيما إذا كانت الحروب السابقة فعلاً اعتباطيّة تمّ إدراك فظاعتها بعد انتهائها بأثر رجعي، أم أنّها منذ البداية مدروسة ومحسوبة النتائج بدقة؟ ولكن لا نودّ الخوض في هذا الأمر فالبحث فيه يطول، ولْنُشِر فقط إلى هذه النقطة: إن كان عصر التنوير والنهضة هو عصر الحريّة والسلم واحترام حقوق الإنسان فعلاً كيف أمكن أن ينتج لنا قرنين هما الأشدّ دمويّة في تاريخ البشرية؟ هل يؤمن الغرب المتقدم حقاً بهذه المبادئ؟ وإن صحّ ذلك فلماذا لا يسعى لإحلالها في الشرق وهو لا يكفّ عن التدخّل هناك؟ لماذا عندما يطالب الشرقيّون بالحريّة والعدالة (التي يبشر بها الغربيّون) لا يهرع هؤلاء لنجدتهم؟ هل المسألة كانت منذ البداية مسألة مبادئ وقيم أم مجرّد تحقيق مصالح لطبقة برجوازيّة؟ هل حرّرت أوروبا عبيدها لأنّها تؤمن بحريّة الإنسان أم لأنّ تكلفتهم مرتفعة مقارنة بالآلة الجديدة؟ وما جدوى الحديث أصلاً عن المبادئ والقيم في عصر لا يعترف بأيّ مبدأ وينادي بنسبيّة كلّ شيء؟ ما الذي يجعلنا نطمئن على السلم العام عندما نرى مدارس فلسفيّة من مفرزات العصر لا ترى حتّى في الأخلاق قيمة مطلقة؟
قد يعلّق أحدهم أنّ احتمال وقوع حرب وارد ولكن المستبعد استخدام أسلحة نووية فيها، فالجميع بات يعي خطورتها على الكوكب ككل، ولا شكّ أنّ سعي الدول لامتلاكها لمجرد ردع الأعداء فقط فنقول: وهل كانت أمريكا تجهل القوّة التدميريّة للقنبلة الذريّة عندما ضربتها على هيروشيما لأوّل مرة؟ وحتّى إن قبلنا ذلك، فلم أقدمت على ضربها ثانية؟ وإن قلنا إنّ السبب عدم وجود شرائع تحظر استخدام هذا السلاح الحديث جداً، والآن الشرائع موجودة، فيعود السؤال: هل هذه الشرائع محترمة في كلّ الأحوال؟ وإن كانت كذلك فكيف يتسنّى لدولة كإسرائيل انتهاكها؟ وإن كان امتلاك السلاح النووي لمجرد الترهيب، فماذا تفعل أمريكا ب5000 رأس لديها؟ لماذا يوجد مقابل كلّ إنسان على ظهر الكوكب 7 أطنان من الأسلحة؟ لماذا تذهب مئات المليارات من ميزانيات الدول في تقوية الجيش؟
بالنسبة لنا ربما أثر طول الأمد ليجعلنا نطمئن أن الأمور بخير، أو أنّ الحرب إن وقعت فلن تكون بتلك الوحشيّة، ولكن من عاش جنون الحرب الثانية قد لا يشاركنا هذا الشعور، فلدى سؤاله حول توقعه لشكل الحرب العالميّة الثالثة والأسلحة المستخدمة فيها، أجاب عالم الفيزياء الأشهر ألبرت أينشتاين: "ليس لدي فكرة عن شكل الحرب الثالثة لكنّني أعرف كيف ستكون الرابعة، ستكون حربا بالعصي والحجارة".
لكن لو توقفنا لحظة عن مساءلة مفاهيم العصر وفلسفة العلم الحديث ولنستعن بالمصطلحات الطبيّة لهذا الأخير: يقترح بعضهم أنّه لو تمّ التعاطي مع تاريخ الجنس البشري كاملاً على أنّه التاريخ العيادي لشخص واحد، لظهر في التشخيص أنّ هذا الشخص مجنون.
أخيراً، وبعد ما أوردناه قصدنا أن ندع سؤال العنوان مفتوحاً بحيث تقع المسؤولية عليك عزيزي القارئ أن تتأمّل فيه وتجيب، وقد يقول قائل: وما الفائدة أن أجيب أو لا أجيب؟ ما جدوى طرح هذا السؤال أصلاً؟ وهل يتوقّف على وقوع هذا الحدث؟ والجواب: أنّ الحديث هنا ليس عن كارثة طبيعية مرتقبة أو نيزك سيصدم الأرض، الحديث عن حدث إن وقع فعلاً فسيكون "حدثاً تاريخيّاً"، والاسم وحده كفيل بوضعنا في مركز المساءلة، فكما يقول المؤرّخ السويسري يوهان بركهارت: "التاريخ يبدأ بتدخّل الوعي في مجرى الطبيعة".