info@suwar-magazine.org

إلى أين يمضي تدهور الوضع الإنساني في سوريا؟

إلى أين يمضي تدهور الوضع الإنساني في سوريا؟
Whatsapp
Facebook Share

 

 

يقول الدستور السوري الراهن في مادته التاسعة عشرة: «يقوم المجتمع في الجمهورية العربية السورية على أساس التضامن والتكافل واحترام العدالة الاجتماعية والمساواة وصيانة الكرامة الإنسانية لكلّ فرد»، كما ويقول في الفقرة 1 من المادة 33: «الحريّة حقّ مقدّس، وتكفل الدولة للمواطنين حريّتهم الشخصيّة، وتحافظ على كرامتهم وأمنهم»، ويرد فيه أيضاً في المادة 54: «كلّ اعتداء على الحريّة الشخصيّة، أو على حرمة الحياة الخاصّة أو على غيرها من الحقوق والحريّات العامة التي يكفلها الدستور يعدّ جريمة يعاقب عليها القانون»، فيما تنصّ الفقرة 2 من المادة 40 على أنّه «لكلّ عامل أجر عادل حسب نوعيّة العمل ومردوده، على ألّا يقلّ عن الحد الأدنى للأجور الذي يضمن متطلبات الحياة المعيشيّة وتغيّرها»([1]).

 

وهذا الكلام في الدستور السوري عن كرامة وحريّات وحقوق الإنسان هو نظريّاً كلام جميل، ولا يعترض عليه معترض يحترم إنسانيّة الإنسان، لكنّ الكلام النظري شيء والواقع الفعلي شيء آخر، فسوريا اليوم هي أحد أكثر الأماكن في العالم التي تتعرّض فيها كرامة الإنسان وحريّاته وحقوقه إلى أسوأ الاعتداءات والانتهاكات كمّاً وكيفاً، وهذا يرتبط بشكل رئيس بالأزمة الكارثيّة التي وقعت فيها البلاد بسبب الصراع المدمّر الذي بدأ قبل ما يزيد على عقد من الزمن ثمّ توسّع بشكل جسيم ولم ينته بعد حتّى اليوم، وما زالت آثاره وعواقبه تتواصل وتتفاقم حتّى الآن، ولا يبدو أنّ لذلك أيّة نهاية على المدى المنظور، ولكن هذا لا يعني أنّ الوضع الإنساني في سوريا كان قبل عام 2011 على ما يرام، إلّا أنّ تدهور الأوضاع بعد 2011 بلغ حداً مهولاً، وهذا لا ينفصل في المحصّلة عن واقع الحال السابق، فتفشّي الاستبداد والفساد في البلاد قبل عام 2011، وتأثيراته الحادة والثقيلة على مختلف الجوانب المعنويّة والماديّة في حياة الناس التي أساءت بدرجات كبيرة إلى معيشتهم وكرامتهم وحريّتهم وحقوقهم، كانت السبب وراء اندلاع انتفاضة عام 2011، كما ولعبت دوراً أساسيّاً في انحرافها عن مسارها التحرّري الوطني السلمي، ودفعها باتجاه العنف والوقوع في شراك لعبة الصراعات التنافسيّة الدوليّة والسياسات المصلحيّة المغرضة.

 

 

ولو نظرنا إلى حال السوريّين الراهن سواء في مناطق سيطرة النظام أو مناطق سيطرة المعارضة أو في دول اللجوء، فسنجد كمّاً جِدُّ كبير من التناقضات الصارخة المختلفة مع مفهوم حقوق الإنسان ومعاييرها وانعكاساتها، فعند النظر في سوريا الراهنة إلى وضع هذه الحقوق الإنسانيّة، التي يمكن اليوم اعتبار تحقّقها وضمانها مؤشراً معياريّاً فعليّاً على مدى احترام إنسانية الإنسان في بلد ما، فسنجد أنّ وضع إنسانيّة الإنسان في سوريا هو اليوم في الحضيض، فوفقاً للعهدين الدوليين لحقوق الإنسان، تصنـّف هذه الحقوق في فئتين، هما "الحقوق المدنية والسياسية " و"الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية"، وكلّ هذه الحقوق هي اليوم في سوريا في وضع متدهور بشكل جسيم، وما تزال تتدهور بشكل حاد ومتسارع ولا تُعرف له نهاية.

 

فمن النواحي الاقتصاديّة والاجتماعية، يمكن القول ببساطة أن كل هذه النواحي في سوريا هي في وضع كارثي سواء في مناطق النظام أو في مناطق المعارضة، والأمثلة على ذلك جد كثيرة، ففي مناطق سيطرة النظام السوري مثلاً تأتي في طليعتها أزمة الخبز، فمثلاً بعد أن كانت مخصصات الفرد من الخبز وسطيّاً حوالي 4 أرغفة في اليوم للفرد الواحد في أواخر عام 2020، وكان الحصول عليها يقتضي الوقوف طويلاً في الطوابير، وكثيراً ما ينتهي بالفشل والشجار، قامت "وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك" في قرارها رقم 205 في تموزيوليو 2021 الفائت بتخفيض هذه المخصّصات لتصبح وسطيّاً رغيفان وثلث في اليوم الواحد للفرد الواحد، وهذا التخفيض يعادل حوالي 50% من الحصص السابقة لمعظم الشرائح([2])، وما يزال الحصول عليها يقتضي الانتظار في الطوابير، وغالباً ما تكون بمواصفات سيئة إلى حدّ كبير؛ وهذا الأسلوب في زيادة تقنين الخبز هو أسلوب بات معتمداً في الحلّ بشكلٍ عام لدى الحكومة السورية، التي لا تقدّم أيّ حلّ فعلي لأيّ جانب من جوانب الأزمة المتعدّدة والمستفحلة، والتي ما تزال تواصل الاستفحال، ولا حلّ لديها سوى التقنين وزيادة التقنين أكثر فأكثر وهكذا دواليك، دون أيّة مبالاة بمعاناة المواطن ولا حساب لأيّة ردّ فعل من قبله، ومن الأمثلة على ذلك أنّ مخصصات الأسرة من مازوت التدفئة المقرّرة حدّدت في أواسط عام 2020 بـ200 ليتر، لكنّ عدداً قليلاً من الأسر تمكّن من الحصول على هذه الكميّة التي خُفضت لاحقاً إلى النصف، ومع ذلك فكثيرون لم يحصلوا على شيء منها بتاتاً، وفي العام الحالي تمّ مجدداً تخفيض المخصّصات إلى 50 ليتراً، وقد تأخّر حصول الكثيرين عليها حتّى أواخر العام الفائت، ثمّ أُضيفت مؤخراً 50 ليتراً أُخرى، وأسر كثيرة لم تحصل عليها بعد ولا تعرف إن كانت ستحصل عليها أم لا؛ ولا يختلف وضع الغاز عن ذلك، فبعد أن كانت حصّة الأسرة المقرّرة هي جرّة غاز كلّ ثلاثة أسابيع تقريباً، أصبحت جرّة كل خمسين يوم، واليوم في أحيان عديدة قد يستغرق الأمر ثلاثة أشهر بين الحصول على جرّة وأخرى؛ أمّا الكهرباء ففي شتاء 2019-2020 مثلاً كان التقنين هو ثلاث ساعات مقابل ثلاث، وفي الشتاء التالي أصبح أربعة ساعات مقابل اثنتين، وكان في بعض المناطق أسوأ بكثير، واستمر على هذا الحال حتّى أواسط خريف 2021 تقريباً، واليوم كثيراً ما يصل التقنين إلى خمسة ساعات مقابل ساعة واحدة، وأكثر أحياناً، هذا عدا عن الأعطال الكثيرة المتواصلة، والانقطاعات المتكرّرة حتّى خلال فترة الإنارة التي كثيراً ما تحدث عدّة مرات في الساعة الواحدة، وتجعل الكهرباء فيها غير صالحة لأيّ استخدام، ويضاف إلى ذلك أيضاً سوء مواصفات التيار الكهربائي التي كثيراً ما تتسبّب بتعطيل الأجهزة الكهربائيّة؛ أمّا وضع الأسعار فقد بلغ حالة جدّ حرجة، فارتفاعها المنفلت والمتسارع ما يزال متواصلاً، والذريعة سابقاً كانت ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق السوداء، ورغم تثبيت سعر الدولار نسبيّاً في الأشهر الأخيرة، فمسلسل الارتفاع لم يتغير، والذريعة هذه المرّة هي ارتفاع سعر المحروقات في السوق السوداء، وهذا ما جعل في المحصلة أسعار العديد من المواد كالزيوت الغذائيّة ومشتقات الحليب والكهربائيّات وسواها ترتفع ارتفاعاً كبيراً حتّى على مستوى الدولار.

 

وهكذا يواجه معظم السوريّون الشتاء الحالي بنُزر من مازوت تدفئة، وبغاز منزلي نادر التوفر، وبكهرباء نادرة الحضور، وبأسعار جنونيّة، زادت نسبتها بأكثر من الضعف منذ العام الماضي([3])، ويحتاج دخلهم بالحدّ الأدنى للتوازن معها إلى أكثر من عشرة أضعافه حتّى بعد زيادة الرواتب الأخيرة، وهي زيادة أقلّ من هزيلة غالباً ما تتجاوزها زيادة الأسعار خلال أسابيع، وهذا ليس بجديد قطعاً في سنوات الأزمة، ولكنّ حدّته الجسيمة أصلاً تفاقمت كثيراً خلال هذا العام، وفوق كلّ هذا قامت (الحكومة السوريّة) الراهنة في مطلع شباطفبراير الجاري بإلغاء الدعم عن مئات ألوف الأسر، والكثير منهم هم من أصحاب الدخل المحدود في وقت بلغت فيه نسبة الفقر تسعين بالمئة من المواطنين، والآن صار المواطن السوري غير المدعوم مضطراً لشراء ربطة الخبز بـ 1300 ليرة وجرّة الغاز بحدود 30 ألف ليرة، ما يعني أنّ راتب الموظف الذي لا يتجاوز متوسطه المئة ألف ليرة لم يعد يكفي لتأمين حاجة أسرة متوسطة من الخبز والغاز وحدهما!

 

وهذه بعض أمثلة عن الوضع المعيشي الراهن المنهار، الذي يعاني منه السوريّون في مناطق سيطرة النظام، ومع ذلك فهي ليست الأسوأ بالمقارنة مع أوضاع أكثريّة النازحين والمشرّدين، الذين اضطروا للنزوح من مناطقهم بسبب الصراع المسلّح العنيف، ووفقاً لأخبار الأمم المتحدة في أواخر تشرين الأول أكتوبر 2021 فقد بلغ عددهم أكثر من 12 مليون سوري لا يزالون مهجرين، إمّا كلاجئين خارجيّاً أو نازحين داخليّاً، ووفقاً لنفس المصدر أيضاً فقد بلغت نسبة الفقر في سوريا 90%([4])؛ وفي عام 2020 تصدّرت سوريا قائمة الفقر العالميّة وفقاً لإحصائيّة نشرها موقع “Indexmundi” وحلّت أولاً بين 172 دولة، بفارق فقر يبلغ حوالي 10% عن زيمبابوي التي حلّت ثانيّاً([5])؛ ووفقاً لبرنامج الغذاء العالمي، كما نقلت قناة الحرّة في أواسط عام 2021، فقد بلغ عدد السوريّين المعرّضين لخطر الجوع 12,4 مليون شخص، وهذا يعادل نسبة 60 % من مجموع السوريّين، وقد حذّر برنامج الغذاء العالمي من أنّ هذا الرقم هو أعلى رقم تم تسجيله على الإطلاق منذ بداية الأزمة في البلاد([6])، وهذا يدل على استمرار تفاقم الأزمة المعيشيّة في سوريا.

 

وهكذا فليس غريباً أن نجد طوابير على أبواب دوائر إصدار جوازات السفر، وصار الحصول على جواز السفر يستغرق عدّة أشهر، ففي هذه الأوضاع الكارثيّة ومع انسداد كلّ أفق للحلّ، باتت الهجرة واللجوء هي الخلاص لجلّ السوريين، هذا مع العلم أن طريقهما "مفروش بالمخاطر"، فكثيراً ما يفشل اللاجئون في الوصول إلى بلد اللجوء الذي يقصدونه، ويتعرضون للكثير من المخاطر كالتعنيف أو الابتزاز من قبل الشرطة والجيش وسواهم في العديد من بلدان العبور، أو تتمّ إعادتهم قسراً إلى بلدانهم، أو يتعرّضون للسرقة أو الخداع من قبل مهربي اللاجئين، بل ويمكن حتّى أن تتعرض النساء منهم للاغتصاب، هذا فضلاً عن مخاطر العوامل الجويّة والظروف الطبيعية المختلفة، وليس من النادر أن يفقد قسم منهم حتّى حياته في مغامرة اللجوء هذه، بعد أن يضطر إلى بيع كلّ ما لديه غالباً، إن كان من قلّة الشعب التي قد تبقى لديها ما يباع، لتأمين نفقات هذه المغامرة العالية المخاطر، ومعظم هذا حدث مؤخراً على الحدود البيلاروسية البولونية على سبيل المثال، ولكنّه لم يكن حالة استثنائيّة، وقد تعرّض له لاجئون سوريون وعرب آخرون في نفس المكان وفي سواه.

 

وفي مثل هذه الظروف المتدهورة لا يعود غريباً حدوث تدهور مماثل على الصعيد الثقافي، فلن يبحث عن الثقافة أيّ شخص يكاد لا يجد لقمة عيشه، ولا يعرف كيف سيتدبّر أمر دخله، ولا يحصل على معظم ضرورات الحياة الرئيسة، ويقضي الكثير من وقته في الطوابير المختلفة، ويضطر للعمل في أكثر من عمل لتغطية الحدّ الأدنى من مصاريفه، ولن يبقى للثقافة أهمية عندما تصبح بالمعنى الحرفي لقمة الخبز همّاً كبيراً، وعندما يكون الإنسان محاصراً بالجوع والعتم والبرد، وهذا حال جلّ السوريين اليوم، هذا عدا عما يسببه استشراء الفساد وتغلغله في الدولة والمجتمع من فقدان للثقة بقدرة الثقافة والمثقّفين على لعب أيّ دور إيجابي فاعل تحت هيمنة الفساد والفاسدين.

 

أما من الناحية السياسية والمدنية فما يزال القمع هو سيد الموقف، وما تزال حريّة التعبير والعمل السياسي والنشاط المدني والحقوقي أمراً معرّضاً لأكبر المخاطر، فالاستبداد لم يتغيّر إلّا في كونه صار أكثر شراسة في محاولة مستميتة منه لإعادة إنتاج نفسه، وإعادة البلاد إلى ما كانت عليه قبل انطلاقة الانتفاضة، وما يزال الاعتقال التعسفي والتعذيب في المعتقلات والسجون أسلوباً منهجيّاً معتمداً في التعامل مع المعارضين رغم مخالفته التامّة للمواثيق والقوانين الدوليّة التي صادق ووقّع عليها النظام الحاكم نفسه، وعدا عن ذلك ما يزال الحزب الحاكم مهيمناً على مؤسّسات الدولة كما كان سابقاً، فالتغيير الذي حدث في الدستور عام 2012 بهذا الشأن كان شكليّاً، ولم يحدث فعليّاً أيّ تغيير في أساليب العمل الفعلية، وما تزال الساحة السياسية في البلاد مشلولة عمليّاً وغارقة في الفساد، والوضع على الساحتين الإعلامية والثقافية ليس بأفضل مع استمرار هيمنة السلطة على وسائل الإعلام والمرافق الثقافية، واستمرار ملاحقة وقمع الإعلاميين والمثقفين والناشطين المدنيين المستقلين أو المعارضين من قبل الأجهزة الأمنية، وهذا أيضاً ما يجعل إمكانيّة العمل المدني وإنشاء ونشاط منظّمات المجتمع المدني جدّ هامشيّة.

 

وعدا عن ذلك، فالمواطن في أيّة لحظة عرضة للتعرّض للإهانة والإذلال والابتزاز بأشكال مختلفة من قبل الكثيرين من عناصر الحواجز العسكرية والأمنية الذين يستغلون مواقعهم وما لديهم من قوة فيها لاستغلال المواطن أو إهانته في كثير من الأحيان، أو من قبل العديد من الموظفين في الدوائر الحكومية المختلفة الذين تعوّدوا على التعامل مع المواطن بمثل هذا الأسلوب، أو الذين لم يعد لديهم الطاقة على خدمة المواطن بشكل لائق بسبب استشراء الفساد أكثر فأكثر في المؤسسات الرسمية أو بسبب الرواتب المتدهورة ووطأة ظروف المعيشة؛ وإضافة إلى ذلك فالمواطن الشريف نفسه وبسبب الفلتان الأمني وغياب دور الدولة، معرّض في أيّة لحظة ولأسباب مختلفة للاعتداءات المختلفة من قبل الزعران والبلطجيّة والمجرمين؛ ويجب ألّا ننسى بالطبع أحد الجوانب الكبرى التي كانت كرامة الإنسان تتعرض فيها إلى أقصى درجات الانتهاك، وهي ساحات المعارك ومراكز الاعتقال، حيث مورس فيها الكثير من مختلف أشكال العنف والإذلال الوحشي بحق الخصوم أو من هم في حكم الخصوم من قبل أطراف النزاع المختلفة، وكان ضحاياها من الرجال والنساء والأطفال.

 

وهذا كلّه، وهو يمثّل بعض جوانب معاناة السوريّين اليوم، يري مدى تدهور الوضع الإنساني في سوريا الراهنة على الصعيدين السياسي والمدني كما هو الحال على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

 

 

 

ذاك هو واقع الحال الكارثي إذا ما نظرنا إليه من زاوية حقوق الإنسان وبمنظور مفهوم "الحياة الكريمة"، لكن إضافة إلى ما تقدّم، لو اعتمدنا على "مقاربة أخلاقيّة" في التعامل مع هذه المسألة في سوريا، فسنصل إلى نتيجة مماثلة، فاليوم في سوريا تفشّى وازداد أكثر من السابق بكثير الفساد الرسمي وغير الرسمي على شتّى الصعد، وازدادت الرشاوى وسرقة وهدر المال العام، وكثرت حالات السرقة والسطو والخطف وحتّى القتل، وثمّة الكثير من الأدلّة على اتساع دائرة تعاطي المخدرات ونمو ظاهرة البغاء، هذا فضلاً عن الزواج القسري الذي كانت تفرضه العديد من المليشيات المسلّحة في أماكن سيطرتها، وشيوع تجارة الأعضاء البشرية، وهلمّ جرّى من الظواهر المزرية التي تدلّ على فقدان الشخص الذي يقترف مثل هذه الرذائل لكرامته الإنسانية كما وتدلّ بنفس الوقت على تدنّي مستوى الكرامة العامة للمجتمع الذي تنتشر فيه مثل هذه الرذائل.

 

 

 

 وهناك أيضاً ظاهرة هامة من ظواهر الفساد الحاط بالكرامة لأنّها من أوسع وأقبح الظواهر وهي ظاهرة النفاق التي كثيراً ما يلجأ إليها الكثيرون بسبب الخوف من بطش السلطة بمن لا يواليها أو طمعاً ببعض عطاياها لمن يقدّمون لها فروض الولاء والطاعة والتبعيّة، وبهذا الشأن يقول أرسطو: «أفضل وأقصر طريق يكفل لك أن تعيش في هذه الدنيا موفور الكرامة، هو أن يكون ما تبطنه في نفسك كالذي يظهر منك للناس» ([7]).

 

وبعد.. هناك أيضاً جانب شديد الأهمية من جوانب الاعتداء على الحقوق الإنسانية في المجتمع السوري المعاصر، وهو جانب يقوم المجتمع نفسه بدور اللاعب الأساسي فيه بما لديه من مواريث اجتماعية متخلفة، وهنا غالباً ما تكون المرأة هي الضحية، ولكن حتّى هنا فالسلطة الحاكمة ليست بريئة على هذا الصعيد، فهي غالباً إمّا لا تفعل شيئاً ضدّ هذه المواريث، أو الأسوأ من ذلك أنّها تعطيها الشرعية، كما كان حال ما يسمّى بـ "جرائم الشرف" التي كانت مرخّصة على مدى طويل، وإلى زمن قريب، ولم تتّخذ ضدّها حتّى اليوم الإجراءات الرادعة الكافية، وهذه الجرائم هي شكل من الأشكال العديدة الحادّة لانتهاك المجتمع لحقوق الإنسان فيه.

 

وإضافة إلى كلّ ما سبق يجب التنويه أيضاً إلى حال اللاجئين في معسكرات ومراكز اللجوء في دول الجوار بشكل رئيس بأعدادهم الغفيرة، حيث يعاني هؤلاء من ظروف معيشة متدهورة وتعامل فظّ ومهين من قبل المسؤولين عن هذه المراكز في كثير من الأحيان، بل وكثيراً ما يتعرّضون للاستغلال والابتزاز في العمل وسواه، ويصل الأمر أحياناً حتّى إلى استغلال النساء في شبكات البغاء، وهذا ما تكرّر حدوثه في جميع بلدان اللجوء([8])، وحتّى في الدول الغربيّة المتقدّمة، وبسبب كثرة اللاجئين واكتظاظ مراكز الإيواء بأعدادهم الكثيرة، كثيراً ما يصبح اللاجئ في هذه المراكز مضطراً للعيش في ظروف صعبة لا تحترم فيها خصوصيّته، ويمكن أن يتعرّض فيها للعنف من قبل لاجئين آخرين، بل وإلى سوء المعاملة من قبل بعض العاملين الرسميّين في هذه المراكز، هذا عدا ما يمكن أن يلقاه لاحقاً من رفض أو استغلال أو عداء من قبل المتعصّبين والمتطرّفين الغربيّين بعد مغادرته لهذه المراكز ومحاولته الاندماج في المجتمع، وحتّى في هذه المجتمعات المتقدّمة أيضاً يمكن أن يتعرّض اللاجئون للاستغلال الجنسي، وهذا ما تمّ كشفه مثلاً في برلين في أواخر عام 2017، حيث تمّ الكشف عن قيام شركات أمنيّة باستغلال الأوضاع المزرية للاجئين ونقص الرعاية الاجتماعية والفقر، واستخدام حتّى القاصرين منهم، في شبكات وأعمال دعارة([9]).

 

ويبقى من المهمّ جداً عدا عن كلّ ما تقدّم، الإشارة إلى "مشكلة المساواة"، التي صارت تعتبر اليوم في العالم المتقدّم حقّاً رئيساً من حقوق الإنسان، وهذا ما يؤكّده القانون الدولي([10])، فغياب مثل هذه المساواة في سوريا التي تحتكر فيها السلطة والثروة بشكل رئيس بعض الزمر، هو الآخر مظهر آخر من مظاهر المساس الخطيرة بإنسانية الإنسان على الساحة السوريّة.

 

وختاماً لا يمكننا القول عن الوضع الإنساني المأساوي في سوريا أكثر من الأمم المتحدة التي قالت في هذا السياق أنّ الأزمة السورية هي أسوأ كارثة من صنع البشر التي يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية([11])، وهي ما تزال تنمو، ولا يبدو أنّ ذلك سيتوقّف على المدى المنظور، ولا يبدو أنّ الأطراف الفاعلة الرئيسة في الأزمة السورية تبالي بفداحة الكارثة التي سقط فيها السوريون والأثمان الباهظة التي دفعوها ومازالوا يدفعونها، فهذه الأطراف هي بدورها غارقة في سعار مصالحها، في وقت يقف فيه المجتمع الدولي بلا حول ولا قوة، وربما بلا مبالاة أيضاً.

 

وفي النهاية لا يسع من ينظر بعين الإنسان إلى الكارثة السورية الراهنة وسواها من الكوارث الإنسانة المعاصرة، إلّا أن يقول أنّها وصمة عار كبرى على جبين إنسانيّة القرن الحادي والعشرين، لكن كلّ الوصمات من هذا القبيل لا قيمة لها عندما يكون عديمو الإنسانية من أصحاب المصالح المتوحّشة هم الأسياد والمتحكّمون في العالم المعاصر.

 

 

[1] - دستور سوريا الصادر عام 2012، constituteproject.org

[2] - آلية جديدة لتوزيع الخبز في سوريا.. رغيفان وثلث الرغيف للشخص يوميا - RT Arabic، 19 تموزيوليو 2021

[3] -يعتمدون على التحويلات والمساعدات.. 53 بالمئة من أهالي دمشق تحت خط الفقر، قناة الحرة، 23 حزيرانيونيو 2021

[4] - أخبار الأمم المتحدة، مجلس الأمن يستمع إلى التطورات في سوريا مسار مقلق وشتاء صعب ومستويات فقر تقارب 90% أخبار الأمم المتحدة، 27 تشرين الأول/أكتوبر 2021.

[5] - Population below poverty line - Country Comparison

[6] -يعتمدون على التحويلات والمساعدات.. 53 بالمئة من أهالي دمشق تحت خط الفقر، قناة الحرة الحرة، 23 حزيرانيونيو 2021

[7] - أقوال عن الكرامة، موقع حكم

[8] -عباس صالح، استغلال القاصرات.. الليلة الحمراء تتراوح بين 5 و100 دولار ! صحيفة النهار، 12 تشرين الثانينوفمبر 2013.

[9] -حسن زنيند، ″الدعارة عوضاً عن الحماية.. فضيحة تهز برلين بسبب دعارة لاجئين″، DW، 26 تشرين الأولأكتوبر 2017.

[10] - لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية- OHCHR

[11] - سوريا الكارثة الأسوأ من صنع البشر التي يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard