info@suwar-magazine.org

مرة أخرى: المسار الشاق نحو الدولة

مرة أخرى: المسار الشاق نحو الدولة
Whatsapp
Facebook Share

 

للزمن دوراته وتقلباته، ولفعل البشر في الحضور والوجود نكهات وسمات تختلف باختلاف الأفكار والأحلام والأهواء والمصالح، وحتى الأذواق والطباع. فهل نكتفي بهذه الاختلافات دون البحث فيما يشكل قاسماً مشتركاً للمجموع البشري السوري؟ ذلك المصنف اليوم كتلاً لا حصر لها سياسية ومدنية، وأعراق واثنيات وأقوام وأديان، حتى باتت كل مجموعة أو كتلة أو اثنية أو أقلية أو أكثرية تعتبر نفسها ذاتٌ مستقلة عن الآخرين لدرجة الاعتداد باختلافها ونقاط تمايزها وكفى! فإن كان الاختلاف هو الحيز الطبيعي للوجود فمتى تقام مملكة العدل والمساواة، دولة المواطنة والحقوق المتساوية دون تعالٍ أو تفوقٍ أو أحكام هيمنةٍ وتغولٍ؟

 

لست بوارد تحليل سياسي اليوم، فكل كلمة تقال ترافقها ضحكة وغصة ودمعة، لكنه التساؤل المرّ: لماذا نصر على اجترار المسبقات والوصفات الجاهزة؟ لماذا لم يعلق بذهن الفاعلين بالملف السوري، خاصة من ممارسي سياسة "سوس الخيل" وترويضها وقيادتها، وهم كثر للأسف، سوى النتائج الحالية المترتبة على طول أمد الكارثة السورية من عنف وتشظي وسياسة فرض الأمر الواقع؟ لماذا لم يُرَ منّا سوى التصنيفات الجاهزة من أسلمة وعسكرة وعنف وأقوام ومِلَل؟ لماذا لم يدخلوا في حوارات تمهد لتفنيد الغث من السمين في صيرورة موتنا المعلن هذا؟ فلربما نسي البعض أو تناسى، أو أخذته صور أوروبا الباذخة وحياتها المترفة أنها لم تمر بتاريخها قبل قرنين بما يمر علينا من اليوم. فأوروبا اليوم التي تمثل قبلتنا ونموذج عصري لما نحلم، كانت قد مرت بكوارث الحروب الطويلة، وحكم الأباطرة والقياصرة وشتى صنوف العنف وحكم العسكر. وصورتها الراهنة لم تتشكل فيها الدولة الحديثة كسحر مبين، ولا مجرد فكرة أضحت قانوناً وضعياً مباشرة، ولا قولاً منزلاً مقدساً من السماء يقيم جنة العدل على الأرض!

 

الدولة الأوروبية والغربية الحديثة، دولة القانون والمؤسسات، المجتمع المدني، الديموقراطية والتداول السلمي للسلطة، الحرية الشخصية والعامة كحق عام بما فيها الرأي والفكر والكتابة وممارسة الشعائر الدينية، وحرية الإيمان، لم تتشكل دفعة واحدة في الغرب وأوروبا. بل كانت نتيجة وخلاصة لتجربة حياة طويلة فكرية وسياسية واجتماعية، ومع هذا لم تتحقق بذات الطريقة في كل الدول العصرية. لقد مثلت خلاصات التجربة الحياتية واستنتاجات وأفكار توماس هوبز حول الحرية المدنية الدستورية أساس العقد الاجتماعي الإنكليزي، وتحقيق مكتسبات حقوقية وبرلمانية في ظل سلطة الملك، وحافظت عليها لليوم. فيما شكلت أفكار المجتمع المدني والحريات الفردية الليبرالية وحق الدفاع عن النفس وإمكانية تغيير الحكومة المتعاقد حولها بكل زمن، لجون لوك، قاعدة عامة في الدستور الأمريكي الحديث. في حين مثلت أفكار جان جاك روسو أساساً للعقد الاجتماعي الفرنسي مبرهناً على تحقق الهوية وفقاً للشخصية العمومية بالإرادة الحرة والواعية الطوعية، حين أضيفت الحرية كحق عام إلى صيغة الجمهورية الفرنسية الحديثة. ومع هذا، ورغم اختلاف البيئة السياسية العامة لكل مجتمع، إلا أنها اتفقت جميعاً على بواعث هذه الأفكار، على اختلافاتها، وعلى صيرورة طويلة لتشكل الدولة الدستورية، وعقدها الاجتماعي، ومنتجها الأهم في المجتمع المدني الراهن والدولة العصرية.

 

اليوم نقف أمام المعضلة الأوروبية قبل قرنين ذاتها، وتقلبات الزمن ذاتها، ونتساءل جميعاً عن سبل الخلاص. فذات يوم وليس ببعيد، رقص السوريون وغنوا رغم جراحهم العميقة، امتلأت الساحات بهم رغم هول الرصاص وحملات الدهم والاعتقال، حملوا الورود والياسمين ورفعوا رايات سلميتهم وتوقهم للحرية والكرامة والمدنية.

 

صبروا أيام الحصار الطويلة، عضوا على جروحهم العميقة... لتمضِ بهم بعدها آلة الموت الحرام، لسوء الزمن وواقعهم السيء اليوم. لكن، وأكرر هذه الـ "لكن" لعنة كبرى، لعنة التاريخ بعهره ومكره، حين تستحيل كل الأرض السورية لساحة عنف ممنهج، ترافقت معه كل صنوف القتل والدمار حتى بات تاريخنا الحاضر مجرد ذكريات أليمة في نفوس من بقي فيها، وكأن مطرقة "مانيت" تصر على التكرار الزمني ولو بعد قرون! فيما لم يزل جذر المسألة السورية هو لحظة الانعتاق والبحث عن الحرية ودولة الحقوق تلك، دولة دون تسلط سياسي أو عسكري أو تطرف ديني أو إرهاب ميليشوي متعدد الأصناف، وما مآلات العنف الممارس عليهم سوى رهين الأجندات السياسية المحلية والإقليمية والدولية ليستفيقوا على مشاهد "إيلان كردي" وجثث أطفال الموت على شواطئ الهجرة، و"عمران الحلبي" وصور الذهول للنجاة من صاروخ طائرة... وآلاف مؤلفة من السوريين قضوا بين شتى صنوف الموت قتلاً وقهراً، والدامية حد القهر في أقبية المعتقلات، حتى بات الشتات وألم الذكريات قوتاً يومياً... فيما يصر سياسيو الأيديولوجيات وناكرو الزمن على نسيان كيف حاول السوريون تجميع أنفسهم سلمياً ومدنياً قبل العنف وآلة الحرب. فالترتيب لمظاهرة في مدينة السويداء مثلاً، كان يجهز لها لأيام بالتبليغ الشفهي خشية أن تتسرب للأجهزة الأمنية، وكان معيار النجاح أن تستطيع ممارسة شعاراتها السلمية لخمسة دقائق فقط دون شبيحة وأمن واعتقالات!

 

ومع هذا ثمة من يصر على تسخيف حق السوريين في الحياة ويعمل بأداليجه المترهلة، أو علمانويتة المبتذلة، على نكش جراحنا بسكينه الصدأة مرات ومرات ويضعنا بين مطرقة التاريخ السيء وسندان الحاضر المقيت مكررين: مظاهرات تخرج من الجوامع لا تمثلني! وكأنه كان بإمكانها أن تخرج من ساحة العاصي كما برلين مثلاً؟ أو الحكم الجزافي اليوم على إصرار شباب السويداء بحق تظاهرهم السلمي مجدداً بوصفها بأنها ثورة جياع، وكأن عبارة "هنا سورية هنا السويداء" لا تعني أسلمتهم السياسية بشي! ولك أن تعد من مصفوفات القول الجزافي كثيراً... ومع هذا لم يراجع أرباب الأداليج فرضياتهم، التي ساهمت بشكل أو بآخر، في جزء من مأساة الثورة السورية ونكبتها، ولازالت معطل ومعيق في درب تحقيق أدنى شروط التعاقد المجتمعي وفق مراحله الزمنية الراهنة، لا وفق مسبقاتهم النظرية أو الأيديولوجية أو مصالحهم الآنية.

 

السوريون أمام ممر وحيد وذات الدرب الشاق، خط رفيع من شفرة حادة. كلما حاولوا التقدم للأمام كلما زاد انغرازها في أقدامهم. وكلما زادت أحمالهم في عصر القحط والإفقار اليومي الحالي واقتصاد "الريع" المحلي والنهب المستدام، كلما حنت ظهورهم أكثر، وباتت وجوههم كما أقدامهم، عرضة لذات الشفرة وحدتها البالغة حد العظم. المشي للأمام يعادله التراجع ألماً فأي الاتجاهين نسير؟ تلك التي يمكن مقاربتها ومقارنتها بتجربة الإنكليز أو الفرنسيين أو كليهما، سواء في الملامسة الحياتية المباشرة للواقع وتجاربه السياسية والاجتماعية القاسية، أو القدرة على وعي ضرورات المرحلة طوعياً، والذهاب ناحية التعاقد الرضائي المجتمعي، حتى وإن كانت معيقاته أكثر من مبررات حدوثه.

 

مرة أخرى، أستعير صورة سندان ومطرقة "دكتور مانيت"، سجين الباستيل لثلاثة عقود في رواية قصة مدينتين لتشارلز ديكنز، الرواية الأشهر التي أرّخت قصة الثورة الفرنسية وأحداثها بين مدينتي لندن وباريس. "دكتور مانيت" امتهن مهنة الحذّاء في الباستيل، عاش خلاصة القهر الفرنسي المر سواء في سجنه الطويل، كما خارجه حين عادت أحكام العسكر وتسلط القيم المترهلة كما نعيش اليوم!، فبقي وكلما ضاقت به الدنيا، يدخل غرفته بخياره الحر ويسجن نفسه منفرداً، معاوداً ممارسة عادته في صناعة الأحذية! صوت المطرقة على السندان كان سلوته عن قهره المضاعف، مردداً: "علّها حذاء لطفلة عارية، علّها لبسة يوم قادم"! ولم يدم اعوجاج الزمن طويلاً، حتى عاد الفرنسيون لثورتهم المتعثرة لعقود، متلمسين طريق الاستقرار والأمان المشروطة بالحرية والحقوق العامة. لتتحقق بذلك دولة القانون والمؤسسات، وترسو سفينتها بعد طول تلاطم في بحر من التقلبات ودورات الزمن، فاتحة عصر الجمهورية والحريات والعدالة وشرعية القانون. ولازال التاريخ يذكر منذ مئتي عام لليوم، ليس فقط حضور الديموقراطية ونموذج الحريات الإنساني الفرنسي، بل أيضاً قهر الدكتور "مانيت" وفقراء الحارات الباريسية، وأيام المقصلة ولحظات انتصارهم لحريتهم وانعتاقهم من عبوديتهم!

 

وما أشبه اليوم بالأمس، وما أمر طعم القهر وعهر السياسة العلقم. أكاد أسمع طرقات مطرقة "مانيت" ذاتها في أذني، وفي أذن كل سوري ناله القهر بكل صنوفه، فإن كان بعض التاريخ يسجل، مكراً وعهراً، أنها فقط حرب سورية أهلية، أو حرب على الإرهاب كما يدعي مراهقو السياسة والممانعة، لكن التاريخ بصيرورته ومساره التحرري، وإن تأخرت نتاجاته، سيحفر في صخرنا وجبالنا، في قلوبنا وذاكرتنا، في كتبنا وأقلامنا، أنها ثورة تستهدف دولة الحقوق والمواطنة، وإن تكالبت عليها قوى القضم والتنازع وآلة الحرب الهمجية بكل صنوفها وجبروتها المادي والتقني، كما الماضوي المفوت أيضاً، وليعش بنو ساسة المخاتلة والترويض ووهم القيادة ما يريدون، وليرددوا ما يحبون من نعوت وتوصيفات مقولبة، ف لله في خلقه أحوال وشؤون وللزمن دوراته وتقلباته...

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard