القوقعة ترسم خارطة الحاضر
لم يسأل أحدٌ ممّن جمعهم الجسر عن هوية الآخر، ولا عن دينه أو حزبه، أو حتى طائفته، هذه الأسئلة تراجعت خلف الصور التي يحملونها، وخلف حكايات الوجع.
ما جمعهم هو البلاء المشترك، وذاكرةٌ مُوجعةٌ يختلف شخوصها، والاستلاب واحدٌ، والمُعتقَل واحد، والمُعتقِل واحدٌ. فالاستلاب هو القاسم المشترك بينهم في المعتقل الكبير، رغم اختلاف مشاربهم وأديانهم وطوائفهم، وكذلك المعتقل بالمعنى المادي الحسّي، يجمع أولئك، ليجعلهم أرقاماً وحطاماً متشابهاً، هذه وظيفته.
بينما ينمّي الطاغية فيهم كل النعرات الإثنية والدينية ليجعلهم متحاجزين، لكن متساوون في القهر والعدمية واللاجدوى. هذه هي المعادلة التي يحاول الطاغية المستبد الحفاظ عليها. كيف يفرّقهم ويساويهم هما السؤالان اللذان يختزلان تاريخنا ويؤرّخان لتاريخ الطاغية والمعتقل.
كثيرةٌ هي الدراسات والأبحاث حول أساليب الطاغية ومنها المُعتقل، فبات للمعتقل دلالات عدة، قد يكون احتجاز حرية شخصٍ أو يصبح الوطن كلّه معتقلاً بظل الدولة التسلطيّة، ويكون توثيقاً حقوقياً وإدانةً له، كما يكون ذاكرةً للقهر والاضطهاد.
كل هذه الدلالات التي حاولت مقاربتها الأبحاث والدراسات تكثّفت في أدب ما يسمّى بأدب السجون أو المعتقلات. والعودة إليها للكشف سيميولوجياً عن تلك الدلالات، لإظهار ما تبطّن في البنى الثقافية والاجتماعية لهؤلاء الذين جمعهم ذاك المكان، وبالتالي معرفة أين يتساوون وأين يتفرّقون؟
الأسطر التالية ليست دراسةً أدبية بل محاولة الكشف الدلالي لذاك المكان:
القوقعة: هو اسم ذاك المكان كما أسماه مصطفى خليفة[1]، ولم يكن أوّل مَن تحدّث عنه وليس آخرهم طالما هناك طاغية ودولةٌ تسلطية، فمن حيث الدلالة فالقوقعة، يتقوقع شيءٌ ما ويكون حبيساً ورهينةً لهذا الغطاء / المكان.
هذه الرواية تشفُّ عن كل الدلالات المطروحة آنفاً، ففيها المعتقلون من كل الفئات العمرية، ومن كل الأديان والطوائف والإثنيّات، المتحاجزون خلف قواقعهم وأيديولوجياتهم ما دون الدولة ودون المدنيّة. بنىً متراصفة متحاجزة تأنف الاختلاف والمغايرة على حد تعبير جاد الكريم الجباعي[2]، تحمل هذه الجماعات إرثاً من الاستبداد الديني والسياسي، تجعلها ثقافةٌ تقليديةٌ، قابلةٌ للاستثمار من قِبل الطاغية بتزكية أيديولوجياتها، واستغلال عصبيّاتها، وهذا ما كان يدور في المعتقل كما يكشفه لنا مصطفى خليفة، ففيه المعتدل والمتطرّف الذي يريد الزعامة وتطبيق الشرع، وفيه المنبوذ من الأقليّات أو الديانات الأخرى، وفيه الفنّان الذي لا إرادة له وفيه المتسلّق والمجرم.
رغم كل تلك الألوان فهم جميعاً يتساوون بالبلاء، ولعلّ رمز الشرب من البالوعة واضحاً ليدلّ على التنوّع وعلى المساواة في الاستلاب والاضطهاد، أمّا الرافض فويلٌ له من غضب الجلّاد.
في الجانب الآخر، نجد نماذج للفرقة الناجية، مَن تماهى بأساليب المعتدي الطاغية على حد تعبير مصطفى حجازي، فنجد نماذج للسجّانين بدءاً من المُجبَر، وكيف يصبح متماهياً بتلك الأساليب، مروراً بالبلديات وهم اللاعبون على كل الأحبال، وصولاً للقادة المتسلّطين الفارضين لقوانينهم وشهواتهم على مَن هم أدنى منهم.
وسط هذا التحطيم لكل قيم الإنسانية وقيم التآلف والمدنية. لا بدّ من انكشاف تلك الإيديولوجية التي يحملونها، خاصةً وسط تلك المؤثرات من الاضطهاد بكل أشكاله.
الرؤية للحضارة والمجتمع: تنكشف أيديولوجيا تلك البنى المتحاجزة أو تنفضح عبر موقف ذواتها من شؤون حياتهم ونظرتهم للكون، فيطرح مصطفى خليفة كيف ينظر المتطرفون للحضارة، فلا يفرّقون بين مَن يصنع أدوات القتل وبين الجانب الحضاري المتمدّن الديمقراطي، من خلال الاختلاف حول مَن صنع الرصاصة ومَن استخدمها، فيشير الى تلك النظرة الدونية للغرب الكولينالي والتي ما زالت تخبّئ عقد الأنا والآخر.
وتكشف عن أزمة ما زلنا نعيشها في ثقافتنا الغيبيّة وتلازمها مع العقدة السابقة وعقدة الشرع وتطبيقه من خلال كيفيّة تصريف الخبز المتراكم في المعتقل، فتصريفه من المحرّمات، رغم ما يحمل تكدّسه من بلاء على الجميع، ومن الطبيعي حينها في تلك الأيديولوجيا اللجوء للفتوى وحمل الوزر عن الأتباع. وبذلك تتكرّس التبعيّة والانقياد، ويتكرّس معها اللامنطق والاستلاب العقائدي.
ومن جهة أخرى فإن الاستلاب العقائدي مكرّس كذلك في الأوجه الأخرى للأيديولوجيا الدينية أي العسكرية فالأيديولوجيات الدينية والعسكرية والسياسية أوجهٌ مختلفة لأصوليةٍ تمتد في تاريخ الاستبداد لتؤسس ثقافة المستبد، فيظهر مصطفى خليفة كيف تتحوّل كلمة أستاذ إلى مفهوم سيئ، يحطّم من خلاله الدلالة والقيمة للمحمول وهو الإنسان المواطن السيّد المستقل. ويبني على حطامه مجد العنف والقوة، فتصبح القوة هي المقياس، والمال حامٍ لها. فلا عجب حينها انتشار الرشاوى والفساد والمحسوبيّات على حساب القانون والحق والقيم، وليصبح التآلف والآخر حاضرٌ بقدر تمثّل هذه الثقافة.
تقبّل الآخر والحوار: منذ بداية الرواية والبطل منبوذٌ من كل الأيديولوجيات السابقة، وبحججٍ مختلفة، إمّا لأنه مختلف دينياً، أو مختلف بنمط حياته، أو مختلف بنشاطه المدني؛ فحسب ما دلّ عليه الكاتب فإنّ هذا النبذ لا يعود للدين أو الفاعلية، بل يعود لمَن يستثمر بهما. فقضاؤه بالسجن كان بسبب تقرير من أحد نشطاء الحزب في فرنسا، وهذه الصفة تخوّله كتابة التقرير بحقّ غيره في الدولة ذات الحزب الواحد، ونبذه كان من خلال متزعّمي الفرق الدينية وانعكاس ذلك على أتباعهم، خاصّةً شخصية أبي القعقاع. فكيف يكون الحوار مع مَن لا يعترف بوجودك أصلاً؟ حينها سيكون هناك مبررٌ لسحق وجود الآخر. كما فعلت بعض الجماعات (حسب الكاتب) بالتدرّب على قتل عمّال النظافة بحجّة عدم أهميتهم، من أجل قتال الطاغية.
ولم يتقبّلوه إلّا بعد زوال المستثمر للأيديولوجية برحيل أبي القعقاع، وعودة الجماعات إلى كونهم أناساً عاديين لا تحرّكهم المصالح بشتّى أنواعها. لكن يبقى التحاجز بسبب الثقافة المترسّخة، والتي يصعب معها بناء عقد اجتماعي دون الحوار والتوصل للاعتراف باستقلالية الآخر، وجعل القانون حدّاً لتقاسم المصالح.
حينما جمعت الفرقاء البليّة كما حدث مع أهالي المعتقلين تحت الجسر، تماماً كما حدث في الرواية ووثّقه الكاتب حينما صلّى بطل الرواية مع أمثاله المعتقلين صلاة الجماعة على إثر مقتل معتقل وأبنائه، كان هناك عقدٌ اجتماعي قائم على المشترك بينهم وهو (الروح المهزومة المستلبة) من جهة، وعلى الاعتراف بحق الحياة للجميع، وعلى مقدرة كل متعاقدٍ على تقديم ما يستطيعه لهذا العقد كما في اشتراكهم بإجراء عملية جراحية بأدوات بدائية.
هذا العقد يكشف عنه الكاتب من خلال عدم وجود مصلحة للدين سوى بتوطين القيمة الإنسانية في النفوس، وعدم الاستثمار الأيديولوجي في السياسة والثقافة.
ولربما هذه خارطتنا الآن ترسمها القوقعة، فما زال الخوف يؤسس ثقافة العزوف عن السياسة وعن الآخر، كما نجدها بدلالة واضحة من خلال ردود الأفعال بعدما خرج بطل الرواية من السجن، فإمّا الابتعاد عنه ونصحه بعدم العمل بالسياسة، أو نجد اختزالاً له في ثقافتنا عبر وصفه بالبطل الذي لم يقهره المعتقل، فلا يرون فيه الإنسان بكل صفاته وأحواله، وعلى هذا ما تزال ثقافتنا التقليدية هي السائدة رغم تغلغل الحداثة فيها، وما زالت ثقافة المستبد حاضرةٌ فيها بمفاهيم تدبير الحال، والواسطة والرشاوى لتشدّ الإنسان نحوها متماهياً في سلّم المتسلّط.
وفي جانب آخر ما زال سياسيّونا ومثقفونا بعيدين عن سيكولوجيا الإنسان المقهور، وعمّا شكّله المعتقل لذلك الإنسان سواء كان المعتقل ديناً أو حزباً أو طائفةً أو حتى حلماً يسعى إليه إنساننا المقهور. فالاضطهاد يحمل التطّرف إن لم نعهِ، والأصعب أن نعيه.
تلك الخلاصة من دلالات القوقعة وقد رسمت حاضرنا، بانتظار ثوراتٍ على اغترابنا في كلّ قوقعةٍ وُجدنا بها.
[1] خليفة، مصطفى، القوقعة، دار الآداب، بيروت، 2008.
[2] الجباعي، جاد الكريم، في الدولة الوطنية الحديثة، دار أرابيسك، دمشق، 2011، صفحة 26.