info@suwar-magazine.org

هكذا كرهنا من أحبّنا أيضاً

هكذا كرهنا من أحبّنا أيضاً
Whatsapp
Facebook Share

 

 

في بلدتي الصغيرة أقصى الشمال الشرقي من سورية، حيث يقطن أكراد وعرب وسريان وآشور وكلدان وآخرون، مسلمون ومسيحيون، كنا في سبعينيات القرن الفائت طلاباً في مدرسة يوسف العظمة الإعدادية  في ديريك، والمدرسة كانت تقبع حينذاك في الطرف الشمالي الشرقي للبلدة بجوار سوق الغنم، الحي المجاور للمدرسة كان حيا مسيحيا، وكان علينا ان نعبر شوارع الحي المنظمة والمرتبة نسبة إلى أحياء الأكراد المهملة ذات البيوت الطينية في غالبيتها حتى نصل إلى غرفنا المستأجرة في الجانب الآخر من المدينة، وكذلك الطلاب من سكان المدينة الأصليين.

 

كانت مشكلتنا في الدوام المسائي إننا نخرج ليلاً حين ينتهي الدوام بعد المغرب، حيث تنتظرنا مجموعات من المراهقين المسيحيين على مداخل الحارات حاملين العصي والقضبان المعدنية، مخبئين سكاكين "الكباس" لوقت الحاجة،  ويبدؤون في اصطياد من لا تعينه قدماه على الفرار منهم، وضربه ضرباً مبرحاً بالعصي والأيدي حتى يعود مدمى إلى بيته.

 

أول ما نخرج من بوابة المدرسة الحديدية كنا نسلم أرجلنا للريح، ثم صرنا شيئاً فشيئا نعرف "الفتوات" من الصبيان الأكراد الذين يشكلون بدورهم عصابات للتصدي للمجموعات المسيحية، ونحتمي بهم إن وجدناهم في طريق الخروج.

 

كنتُ أنا الصبي الصغير القادم من قرية كردية قريبة لا أعلم سبباً لما يحدث، فوالدي رحمه الله كان لديه صديق قريب جداً من قرية مسيحية اسمها "خانيك"، كان يزورنا مراراً، وينام ويبيت عندنا هو وعائلته، وكذلك يفعل أبي، وقد دخلا في شراكة بتربية النحل عندنا، وحسب العرف المتبع عند الأكراد فإن والدي قام بتكليف أو تشريف العم مراد خاجو بحضور طهور أخي الكبير ووضعه في حضنه (وهي عادة قريبة من التعميد عند المسيحيين)، فيصبح الرجل الذي قام بحمل الولد عند طهوره "كريف" العائلة، وهي صلة قرابة ناشئة نتيجة هذا الحدث تقترب من الأخوة، ويحُرم بعدها الزواج بين العائلتين.

 

كنت أتذكر  وأنا ألهث من الركض والخوف في شوارع الحي المسيحي  "كريفنا" الطيب مراد، وأتمنى لو أراه خارجا من شارع مجاور ليضع حدا لهذا الجنون.

 

من أين استقى هؤلاء الصبية هذه المشاعر العدائية تجاه الطلاب المسلمين؟! وطبعا لا يقل بعض الصبية المسلمين عنهم حقداً!!

بينما كانت كل العظات عند رجال الدين من الجهتين تحض على المحبة والتآلف وعدم الاعتداء على أحد، كانت النتيجة أفواجاً من الطرفين لديها استعداد لقتل أبناء الديانة الأخرى واستباحة منازلهم وأملاكهم.

 

أظن أنّ كثيراً من رجال الدين أنفسهم الذين كانوا يتحدثون عن المحبة في مكبرات الصوت، كانوا يزرعون ويسقون سراً هذه المشاعر والأفكار العدوانية لدى مريديهم المتدينين الذين يعتبرون كلامهم منزلاً لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه.

 

ربما كانت هذه التفاصيل الصغيرة بداية تعرفي على ثقافة الكراهية، بل على مفاعيلها على الأرض.

 

لم نكن قد قرأنا بعد عن الحروب الأهلية والإبادات التي شهدها التاريخ، والتي لم ولن يكن آخرها "الفرمان" العثماني،  وهي حرب الإبادة على الأرمن والمسيحيين عموما التي شنتها الدولة العثمانية، وأشركت فيها عشائر كردية تحت راية الجهاد ضد الكفر  والصليبية، وهو ما سمي بمذابح الأرمن، ومن الثابت أنّ كثيرا من القرى الكردية استقبلت الهاربين من المذبحة وسكنوا معهم وصاروا جيراناً وأحبة، بعضهم كان قد أسلم تحت الحراب الجهادية، وبعضهم بقي محافظاً على دينه الأصلي، وإن كان قد نطق بالشهادتين خوفاً من الجندرمة التركية ورجال العشائر الهمج.

 

كان المسيحيون الذين أسلموا كرهاً لكنهم بقوا على إسلامهم قد اندمجوا في مجتمعهم الجديد، وسكنوا مدنهم وقراهم، وغيروا أسماء أولادهم إلى أسماء إسلامية.

 

نصيب قريتنا من هؤلاء الضحايا كان العم سعيد قرياقص، ولا أدري كيف ترجم الاسم إلى الكردية بـ"سعيدي كوكي"، تزوج وأنجب أولاداً وبنات، أتذكر منهم عنودة الجميلة ساحرة شباب القرية، ومحمود ومحمد (محو كما كان يسميه أهل الضيعة)..

 

لكن إخوته وأبناء عمومته بقوا على دينهم، أو عادوا إليه بعد نجاتهم من المذبحة، وقطنوا مدينة تربسبية "القحطانية بالاسم المعرب"، وكانوا يزورونه ويزورهم، كان ابنهم من جيلنا يقضي معظم الصيف في القرية، يلعب معنا، وينزل معنا إلى النهر نصطاد فراخ العصافير والسمك، فيما هو كان يصطاد الضفادع التي كنا نشمئز منها، لكننا نساعده في صيدها وسلخها ليأخذها معه إلى البيت ويطبخها.

 

 لم نحسّ مرةً بان هذا الصبي من جماعة كريهة أو معادية رغم اختلاف أشكالنا، هو ببشرته البيضاء وبنيته القوية ونحن السمر النحيلون الذين لم نعرف طعم الفواكه إلا ما تجود به بعض شجيرات متناثرة في براري قرية بعيدة فقيرة بالشجر، ولا أسماء المكسرات وغيرها مما كنا نشاهدها من "نعم المدينة" بين يديه.

 

لم نشعر نحن الصغار بهذا الصبي إلا واحداً منا، ولم نسمع مرةً من أهلنا كلاماً سلبياً عنه، حتى ونحن نخبرهم بأننا نساعده في اصطياد الضفادع وسلخها وهي محرمة عندنا.

 

لكن هل كل البيئات السورية تعلم أولادها هذه النظرة إلى الآخر المختلف؟

أو على الأقل هل كل هذه البيئات تكف عن تلقين أطفالها أفكار العزلة والابتعاد عن "الكفار"؟!

أظن إن البيئة الاجتماعية والأسرة أولاً هي المهد الذي ستخرج منه كل الأفكار والممارسات لاحقاً.

مصادر الكراهية وينابيعها

 

يبنى خطاب الكراهية على أكثر من تمايز بين البشر من حيث: العرق، اللون، الدين، الهجرة، اللجوء، الإعاقة، الميول الجنسية، الأصول الجندرية، الأصول العرقية . . . إلخ.

 

هنا ربما يحضر السؤال: ما الذي يجعل جماعة بحالها ترى في الآخر عدواً؟!

 

أدّعي أن أول مصدر للكراهية هو الجهل وعدم معرفة الآخر، فالإنسان عدو ما يجهل، ولو أنّ السكان الأصليين لأمريكا مثلاً كانوا يعرفون الأوربيين البيض القادمين إليهم، وخالطوهم، واطلعوا على ما يحملون من أنماط جديدة للعيش وعلوم تقلب وجه البلاد، لما قاوموهم وقاطعوهم.

 

كذلك كان الغازي الأبيض المهووس بالذهب والثروات الهائلة في هذه البلاد البكر، ينظر إليهم ككائنات زائدة عن الحاجة، كبشر غير قابلين لدخول العصر نتيجة جهله بهم وبقيمهم الإنسانية، وبالتالي لا بد من إخضاعهم ونهبهم ولو تطلب الأمر إبادتهم، فتعمقت الكراهية وتطورت إلى إبادات يندى لها جبين التاريخ.

 

الاختلاط والتمازج يبني محبة وتسامحاً بين المختلفين دينياً أو قومياً أو حتى عقائدياً، لكن العزلة والابتعاد تبنيان جدران الكراهية وتفتحان نوافذ البغضاء بينهم.

 

الإنسان عدو ما يجهل، فكيف إذا جاء من تعتبره الناطق الرسمي باسم الرب وزرع في عقلك البسيط بذور الكراهية، معتمداً على إرث طويل من السير والحكايات التي لا تملك أنت القاعدة الثقافية والفكرية التي تؤهلك لإدخالها مختبر العقل، وكشف زيفها، أو أنه بالتحالف مع السلطات كلها لم يترك فرصة لأحد لمحاكمة ما يبث في فكرها عقلياً ومنطقياً.

 

متأخراً ستتسلل الأفكار اليسارية والعلمانية عبر الأحزاب الشيوعية والقومية، وتبدأ في كسر تابوات المشايخ والكهنة الذين لا يريدون لهذه الحروب أن تنتهي، لأنها مصدر رزقهم وضمان استمرارهم في جر الناس كقطعان خائفة إلى زرائب الماضي، رغم أن التراث الإسلامي لا يخلو من أحاديث وآيات قرآنية تبيح التعدد والاختلاف، وتدعو إلى المحبة والسلام، بجانب الآيات التي يتلطى خلفها المتشددون والتي تدعو إلى القتل و"الجهاد" ومحاربة أهل الكفر وهو مصطلح يشمل كل من ليس مسلماً، بل كل من لا ينتمي إلى طائفة المتشدد، ولو كانت هذه الطائفة عشرة أشخاص.

 

ففي حديث صحيح عن النبي محمد: "دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بما يثبت ذلك؟ أفشوا السلام بينكم."

وفي القرآن الكريم: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ "سورة آل عمران.

 

إذاً الاستثمار في الدين، وليس الدين بحد ذاته هو المصدر الثاني والأبقى للكراهية، والحروب الدينية التي بدأت مع نشوء الأديان ما هي في جوهرها إلا صراع مصالح اقتصادية نفعية أعطها رجال الدين لبوسا دينياً وصار القتل بأمر من الرب.

 

ثم يأتي المصدر الثالث، وهو الأيديولوجيات القاتلة، فكل من يتبنى أيديولوجيا أو عقيدة قومية أو دينية أو يسارية تجده يسارع إلى شيطنة المختلف وتكفيره، ويعيد المريدون والمتسلقون كلام الزعيم وكأنه كلام منزل، لتبدأ سلاسل من العداوات والثارات والقتل والخراب.

 

والأمثلة كثيرة في التاريخ من هتلر وموسوليني إلى ستالين وجورج بوش الذين كرسوا جميعا مقولة: من ليس معنا فهو ضدنا.

و"ضدنا" تعني أنه عدو، تعني الكراهية والاستعداد للإيذاء بأي شكل من الأشكال.

 

هؤلاء اعتمدوا انتماءات قومية أو أيديولوجية أو سياسية لتربية جمهور محروم وهائج على العداء للآخر المختلف، وهم يخترعون هذا "الآخر" إن لم يكن موجوداً.

 

ألم يكن الهولوكوست نموذجا آخر من "اختراع العدو" والتنكيل به مع نيل التأييد والحماس من الجمهور العريض؟!

 

ألم تجذب الحرب الأهلية الإسبانية (1936 ـ 1939) قطاعات كبيرة من الشعب الاسباني إلى جانب فرانكو في حربه ضد الجمهوريين ودعاة التغيير والتطوير بحجج الحفاظ على الإرث القومي والتاريخي ومقاومة المؤامرات.

 

"المؤامرة"، ذلك المصطلح الأثير لدى الطغاة والمستبدين وتجار الحروب، حيث يصبح كل من يقف في وجههم متآمراً وعميلاً وصاحب أجندات مشبوهة.

 

وكذلك كل الحروب الأهلية، من الحرب الأمريكية إلى اللبنانية إلى الرواندية إلى الحرب السورية التي ولدت من رحم الصراع بين سلطة مستبدة ومعارضة ناشئة تفتقد إلى برنامج سياسي حقيقي للتغيير، معارضة لم يتح لها الاستبداد المزمن على مدى عقود أن تدخل السياسة من باب الممارسة الطبيعية، فكانت مخيرة بين المنافي أو السجون أو الصمت.

 

هكذا تحولت الثورة السلمية للسوريين الذين ضاقوا ذرعاً بسلطة الفساد والاستبداد إلى حرب ضروس، استحضر طرفاها التاريخ والحروب التي اندلعت على الخلافة والصراع السني الشيعي المستمر إلى يومنا هذا للأسف.

 

ما العمل؟

 

إنّ مكافحة خطاب الكراهية ليست عملاً عابراً أو بياناً أو مؤتمرات فحسب، بل هو تراكم طويل من الجهد الثقافي والفكري والاجتماعي يشارك فيه جميع قطاعات المجتمع المتنورة التي تقبل فكرة التعددية وتعيشها.

 

يتم من خلال هذا العمل الدؤوب والمثابر على توعية الناس بأهمية احترام التعددية ومخاطر خطاب الكراهية والأسس الزائفة له، والطابع اللاإنساني له.

 

وذلك بمكافحة المعلومات المضللة والصور النمطية مع تقديم برامج ثقافية لكل جيل بما يناسب مؤهلاته ومداركه.

وتقديم الدعم والمساندة للمنظمات المستقلة والهيئات المهتمة بقضايا المساواة ومؤسسات حقوق الإنسان المناهضة لخطاب الكراهية مع تشجيع تجاوب الشخصيات العامة والمؤثرة مع هذه الحملات.

 

ثم نأتي إلى الناس والجماعات التي يستهدفها خطاب الكراهية (الضحايا)، إذ لا بد من محاولة إزالة المعلومات التضليلية والصور النمطية من خلال تقديم الدعم والمشورة والإرشاد لهم، مع تثقيفهم بحقهم في التعويض عبر تعزيز وتسهيل الإبلاغ عن حالات استخدام خطاب الكراهية من قبل الأشخاص المستهدفين والشهود.

 

 هذا المقتطف من رسالة الأمين العام للأمم المتحدة لعام 2022 بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة خطاب الكراهية (18 حزيران)، فيه إشارة مهمة إلى تأثير الكلمة من جهة، وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي من جهة أخرى في محاربة خطاب الكراهية والحد منه:

(والكلمات يمكن أن تُحول إلى سلاح وأن تسبب ضررا جسدياً. ذلك أن التصعيد في حدة خطاب الكراهية إلى درجة ارتكاب العنف فعلا أسهم إلى حد كبير في وقوع أفظع الجرائم وأكثرها مأساوية في العصر الحديث، بدءا بمعاداة السامية التي أفضت إلى محرقة اليهود، ووصولا إلى الإبادة الجماعية للتوتسي في رواندا عام 1994.

 

    ويسهم الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في تعظيم خطاب الكراهية، بحيث أصبح ينتشر عبر الحدود انتشارا سريعا. وما شيوع خطاب الكراهية ضد الأقليات خلال جائحة كوفيد-19 إلا دليل إضافي على أن العديد من المجتمعات مناعتها ضعيفة جدا ضد الوصم والتمييز والمؤامرات.)

                                                                                                    

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard