التقارب التركي السوري آفاقه ومآلاته
لا يخفى على أحد أن حكومة حزب العدالة والتنمية ترمي بكل ثقلها لكسب الانتخابات المقبلة في ظل تدهور الوضع الاقتصادي وتراجع شعبية الحزب، وهذا هو السبب في الخطوات المتسارعة التي يقوم بها من أجل التطبيع مع الأسد، خاصة أن بوتين هو عراب هذا التقارب والتي يهدف من ورائه إلى تعميق تقارب استراتيجي مع تركيا، حيث يتشارك الرجلان (بوتين وأردوغان) الطموح في تغيير موازين القوة الدولية.
من حيث الواقعية السياسية فإنه من المنطقي أن تفكر تركيا بإعادة التطبيع مع الأسد، خاصة وأنها تعيش أزمة مركبة داخلية تتمثل في تراجع الكبير في الوضع الاقتصادي التي تشهده البلاد، ودبلوماسية على مستوى العلاقات مع العديد من الدول.
تعتقد حكومة أردوغان أن هذا التطبيع سوف يتيح لها التخلص من عدة ملفات أرهقت الاقتصاد والدبلوماسية التركية، وأولها نقل ملف محاربة حزب العمال الكردستاني من وزارة الدفاع والاستخبارات التركية إلى وزارة الدفاع والمخابرات السورية، كما حدث في العام ١٩٩٨ مع اختلاف كبير في السياق، وبقاء الدور نفسه عبر تقديم الدعم اللوجستي والاستخباراتي.
إلى جانب التخلص من ملف الجماعات المسلحة السورية الجيش الوطني وهيئة تحرير الشام التي أصبحت تشكل عبئاً منذ تجميد الصراع ليس فقط في سوريا، بل أيضاً في قرباغ وفي ليبيا، وأخيراً محاولة تركيا إقناع النظام السوري القبول بعودة اللاجئين بعد أن فشلت في إقناع الغرب بإقامة المزيد من المستوطنات في المناطق ذات الغالبية الكردية المحتلة. لكن قبل الركون إلى هذه الاستنتاجات لا بد من طرح بعض التساؤلات هنا المرتبطة بتلك الملفات العالقة:
- هل يقبل الأسد بأن يتحمل أعباء هذا الملفات ونظامه يعيش ما يشبه الانهيار الاقتصادي قد تنفجر على إثرها الأوضاع في أي لحظة وتصبح أكثر تعقيداً؟
- ما مصير المجموعات والفصائل السورية المسلحة ومعها المعارضة السياسية التي تؤويها تركيا على أراضيها؟
- ما هو مصير المجتمع المدني السوري الذي يعمل منذ سنوات في تركيا؟
- وأخيراً ما هو مصير النازحين والمستوطنين الذين يعيشون في المناطق التي احتلتها تركيا؟
إنهاء تركيا احتلالها هو مطلب محق سيشكل فرصة لعودة النازحين الذين تم تهجيرهم من قبل تركيا إلى بيوتهم، ومن المؤكد أن ذلك سيؤدي إلى صراعات أهلية بين السكان الأصليين والمستوطنين. نتيجة إرث الكراهية الذي خلفته سنوات الحرب، وعملية التغيير الديمغرافي التي كان يطبقها الجيش التركي بمساعدة الفصائل الموالية له في تلك المناطق. كما أن الجماعات الإرهابية مثل هيئة تحرير الشام والمقاتلين الأجانب قد يشكلون تهديداً أمنياً لتركيا، وقد نشهد عمليات انتقام منها.
ولا بد من الإشارة إلى أن عودة سيطرة النظام السوري على مناطق الاحتلال التركي من شأنه السيطرة أيضاً على المعابر الاقتصادية، وعودة العلاقات التجارية مع تركيا، وهو ما سوف يساعد في إنعاش محدود لاقتصاد البلدين، وتساعد حكومة دمشق وحلفاءها على الالتفاف على العقوبات الاقتصادية الأمريكية.
وإذا افترضنا أنه سوف يتم إيجاد حلول للأسئلة والمعوقات التي تم طرحها أعلاه. فإن تركيا أمام تحدٍّ كبير يتمثل في كيفية إقناع الغرب، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية بهذا التطبيع، وعودة العلاقات مع النظام السوري. وكما نعلم بدون موافقة أمريكا لا يمكن بأي شكل من الأشكال تحقيق التطبيع كاملاً مع النظام، كما أن العمل بدون تنسيق معها سوف يحمل الكثير من المخاطر، وفي مقدمتها تضرر العلاقات الإستراتيجية مع الغرب.
كيف يمكن لحلفاء أمريكا التصرف على ضوء هذه المخاطر التي تواجهها نتيجة عودة العلاقات التركية مع النظام السوري؟
باعتقادي الخطوة الأولى تتمثل في تحقيق المطالب الأمريكية من أجل منحها أوراق ضغط ومساحة للمناورة في مواجهة جماعة آستانة هذه الخطوة تبدأ بفك الارتباط مع حزب العمال الكردستاني حتى لو كان شكلياً بمعنى أخر التخلي عن الطموحات السياسية العابرة للحدود، والتركيز على الصعيد المحلي وإنجاح الحوار الكردي - الكردي وتوسيع المشاركة السياسية لجميع مكونات المنطقة، والعمل على تغير منهجية التفكير الاستراتيجي من أهداف قصيرة المدى إلى أهداف طويلة المدى، والمطالبة بإقليم ذي حكم ذاتي، وبناء حكومة واقتصاد قوي موازٍ لحكومة دمشق.
المناورة الثانية: لا يخفى على أحد أن الحكومة السورية ذاهبة باتجاه انهيار اقتصادي وإفلاس كامل ما لم يتدخل الغرب في إنقاذها بسبب عجز حلفائها، فالروس يعانون من أزمة اقتصادية بسبب غزوهم لأوكرانيا، وإيران بدورها تعاني هي الأخرى بسبب الاحتجاجات التي تعصف بها، إلى جانب العقوبات الغربية المفروضة عليها، كما أن الصين تعاني أيضاً أزمة اقتصادية من جراء تفشي وباء كورونا، والتطبيع التركي لن يشكل طوق نجاة للنظام السوري، لذلك السعي إلى اتفاق اقتصادي مع حكومة دمشق من جانب الإدارة الذاتية أيضاً مناورة ممكنة. قد تدفع دمشق لتقديم بعض التنازلات السياسية.
إعادة تطبيع مع الأسد من الجانب التركي يأتي في سياق منفصل، وبعيد عن الجهود الأممية الساعية إلى تطبيق قرار ٢٢٥٤، وهو ما قد يشكل قلقاً غربياً وقلقاً للمعارضة، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن المعارضة تتحمل مسؤولية ما آلت إليها الأمور بسبب تماهيها مع الموقف التركي الذي كان رافضاً أي انخراط في الجهود الغربية الساعية إلى التطبيع بين مناطق شمال غربي سوريا وشمال شرقيها، وبناء منطقتين اقتصاديتين، تمهيداً لتحالف سياسي جديد.
التطبيع مع الأسد بالشكل المطروح هو عبارة عن أمنيات انتخابية أكثر منها واقعية في ظل الظروف الراهنة. وتحتاج إلى زمن طويل لردم الهوة التي خلفتها سنوات من القطيعة والحرب، ولكنه قد يخدم التقارب الاستراتيجي الحاصل بين بوتين وأردوغان، الذي يحاول من خلاله الرجلان بذل الجهود كلها من أجل إعادة تشكيل موازين قوة جديدة على الساحة الدولية.