العنف الذي يسكننا
لطالما لفتني ولفت الكثيرين هذا المنسوب العالي من العنف الموجود فينا أفراداً ومجتمعات، ما أن ينشب خلافٌ صغيرٌ في العائلة، في القرية، في العمل، في الشارع، على إشارات المرور، أو خلاف بين إتباع مذهبين أو دينين أو قوميتين أو دولتين، بل بين أبناء مدينتين متجاورتين أو حتى حيين متجاورين في مدينة، حتى يسارع الجميع إلى استعمال العنف وسيلة لحلّ الموضوع، علماً أنّ العنف لم يكن يوماً وسيلة لحل النزاعات، بل هو طريق إلى تفاقم النزاع والأضرار والأحقاد.
أتحدّث هنا عن المجتمعات الشرقية، والإسلامية منها على وجه التحديد، وهو ما يستدعي أسئلة وهواجس لا تدّعي هذه المقالة الإجابة عنها، بل ربما نقدّم هنا مساهمة بسيطة ومتواضعة في إثارة الحوار والأسئلة حولها، وهذا حسبنا.
في نظرة سريعة إلى مكونات الشخصية في مجتمعاتنا نجد فيها غلبة مطلقة للموروث التاريخي الديني العشائري القومي، إضافة إلى المؤثرات الحديثة التي أضافت إليه مزيداً من الاستعداد للعنف وارتفاع الأدرنالين عنده مع أول احتكاك مع الآخر المختلف.
في التاريخ نجد السير المفضلة، والتي حفظتها ذاكرة شعوبنا، هي سير الحروب التي قامت لأسباب سخيفة وتافهة كحرب البسوس، وحرب داحس والغبراء، والغزوات التي أبلى فيها "المجاهدون" بلاء حسناً بالتناسب مع عدد الرؤوس التي قطعوها، والأبطال الأسطوريين (الزير سالم، عنترة، خالد بن الوليد، عمر بن الخطاب، علي بن أبي طالب ...) ثم جاءت بعدهم أجيال من الطغاة تلقفهم ذلك المخيال الشعبي وأضافهم إلى أيقوناته مثل ستالين، كاسترو، صدام حسين، وغيرهم ممن يتباهى المتيمون بهم، بمهارتهم وسرعتهم في القتل والسبي (الاغتصاب) والقسوة واستسهال ارتكاب المذابح والتطهير العرقي وتقديم التبريرات الأيديولوجية له.
هكذا يصبح البطل المحبوب في المخيال الشعبي هو الأقوى والأقسى والأقدر على القتل وارتكاب الفظاعات والمذابح تحت شعارات الدفاع عن العشيرة أو القرية أو الطائفة أو المذهب أو القومية . . ..الخ.
هكذا أصبح أيّ مراهق يريد لفت أنظار الفتيات يقوم بتضخيم عضلات جسده، ووضع الوشوم على بقاع واسعة من هذا الجسد المتضخّم، والتنكيل بأقرانه وجيرانه وأبناء بلده، أي أنّ العنف وسيلة مثلى ليصبح الشخص وجهاً وزعيماً ومحبوباً أيضاً؟!
اقرأ أيضاً:
في القرى والمدن التي تحوّلت إلى مجموعة قرى متلاصقة لم تخرج عن قيم العشيرة والمذهب، حيث أصبحت الأحياء الشعبية تنسب الى المكان الذي جاءت منه المجموعة السكانية، فيقال عنها في دمشق مثلاً: حي الأدالبة من محافظة إدلب، حي الديرية من ديرالزور، وحي الحلبية وحي الأكراد وحي النازحين (نسبة إلى النزوح السوري الأول من الجولان عام 1967 أما الآن فمعظم السوريين نازحون)، حي العلوية... إلخ.
وحين ينشب أي خلاف حتّى بين أطفال من حيين متجاورين يتطور بسرعة إلى مشاجرة كبيرة بين الكبار، تستخدم فيها كل أنواع الأسلحة المتاحة وتستفيق عصبيات نائمة، ومقولات موضوعة على رفوف التاريخ عن كلّ فئة من هذه الفئات بحق الفئات الأخرى، ويحتاج الأمر إلى تدخّل من أجهزة الأمن والشرطة التي ينحدر منتسبوها أساساً من أحياء وبيئات مشابهة، ويحملون نفس القيم القبلية والعشائرية والمذهبية.
عشرات الأعوام مضت على قيام هذه الأحياء في أطراف دمشق والمدن الكبرى، وبقيت كما هي اجتماعياً وعمرانياً وثقافياً وخدمياً، بل تدهورت من جميع النواحي.
مؤسسات متخمة بالعنف
عام 2004 حين اندلعت انتفاضة القامشلي وتجاوبت معها المدن الكردية الرئيسية، وحتى تجمعات الأكراد في حلب ودمشق، كان القمع الحكومي للانتفاضة قاسياً وعنيفاً، وكان نصيب حي زورآفا (وادي المشاريع) الدمشقي الفقير ذي الاغلبية الكردية لا يقلّ عن غيره من العنف والقسوة.
شملت حملة الاعتقالات التي شنّتها أجهزة أمن النظام خلال حملتها على الحي كلّ من تجاوز عمره خمسة عشر عاماً حتى الخمسين، وهرب بعض الشباب خارج الحي عند أصدقاء أو أقارب ريثما تهدأ الحملة، ومنهم صديق شيوعي بكداشي وممثل لحزبه في منظمة اتحاد الطلبة التابعة لحزب البعث، لكن كونه كردياً وقاطناً في الحي خاف من هذه الحملات، وأقام عند رفاق من خارج الحي، وحين عاد بعد يومين ظنّاً منه أن الأمور قد هدأت التقطته دورية أمنية عند مدخل الحي، وروى لي ما حدث معه.
كان عنصر من الدورية من مدينة ديرالزور التي اندلعت الانتفاضة إثر مباراة لفريق المدينة (الفتوة) مع فريق الجهاد "القامشلاوي"، وترديد جمهور الفتوة القادم معه من ديرالزور هتافات تمجد صدام حسين، فيما رد جمهور الجهاد الكردي في غالبيته هتافات تدين صدام لتندلع المواجهات لاحقاً، ويسقط ضحايا أكراد برصاص رجال الأمن.
روى لي صديقي كيف عامله عنصر الأمن الديري تحديداً، حيث قام بالاعتداء عليه فور اعتقاله وداس عليه مراراً وملأ جسده بالدماء وهو يردد: تشتمون صدام حسين يا كلاب؟ علماً أنّ النظام السوري بقي على خلاف وعداء شديدين لصدام ونظامه حتى سقوطه عام 2003.
أي أنّ عنصر الأمن "الديري" أظهر بسلوكه أنّه لا يعاقب الشاب على مشاركته المفترضة في الحراك، وخرق تعليمات السلطة السورية وزعزعة استقرارها، الذي يعتبر العنصر أحد المدافعين عنها بحكم وظيفته، بل من كونه كردياً والأكراد يكرهون بطبيعة الحال قاتلهم صدام وكلّ القتلة.
طبعاً لم ينفع الشاب أنّه قدّم ما يثبت عمله في اتحاد طلبة النظام، ولا انتماءه إلى حزب يدور في فلك حزب البعث الحاكم ويأتمر بأوامره، وإنّما سيق مدميّاً مليئاً بالجروح والكدمات إلى أقبية الأمن مثل الآلاف من أبناء الحي الكردي.
هذا مثال من أمثلة لا تعدّ ولا تحصى لدى جميع الفئات والأطراف، حتى لا يفهم أحد أننا نحصره بإخوتنا الديرية، الذين نعزهم ونحترمهم ونحب "ثرودهم" كما نحب فراتنا، نحبهم كما نحب كلّ السوريين بل كلّ إنسان في هذا العالم الفسيح، لكننا نقدّم هنا مثلاً عن استمرار وتعزيز الانتماءات ما قبل الوطنية في مجتمعاتنا، وتغليبها على الانتماءات الفكرية أو المهنية والوطنية طبعاً.
العشوائيات... مصانع العنف الراكدة
نعود إلى فكرة تأثير مناطق المخالفات أو العشوائيات أو سكّان الهامش على نشوء العنف وامتداده. يعيش في هذه المناطق غير المنظّمة والعشوائية التي بنيت بلا تخطيط ولا تنظيم من قبل السكّان على عجل أكثر من 40 في المئة من السوريين قبل 2011، وتتميز بسوء الخدمات أو انعدامها وضيق الشوارع والأزقّة حتى يكاد الجار يسمع همسات جاره، ويستطيع السلام مصافحة عليه من النافذة أو من الشرفة إن كانت هناك شرفات، وعدم وجود أرصفة أو أشجار، وانعدام أي مساحات خضراء، بل كتل بيتونية مشوَّهة ومشوِّهة تملأ المدى وتغلقه في وجه الإنسان.
كلّ هذه الظروف الضاغطة على الفرد، إضافة إلى الضغوط الاقتصادية الناتجة عن حالة الفقر التي قذفته إلى هذا القاع المزدحم، والضغوط الاجتماعية والدينية والسياسية، تعمِّق لديه مشاعر وأفكار العنف والتطرف ورفض الآخر، متسلحاً بذلك الإرث الثقيل الذي تحدثنا عنه في بداية المقال.
وهكذا، ليس مستغرباً أن تنطلق حركات التطرف الديني والمذهبي والسياسي والقومي من هذه الأحياء بشكل أساسي، أي وقود هذه الحركات هم من شباب وشابات الأحياء المحرومة من ظروف الحياة الطبيعية والخدمات.
بيوت معتمة تفتقر إلى التهوية والضوء والدفء والخدمات، بيئةٌ خصبةٌ لنمو فطر التطرف والعنف والكراهية، والفطور لا تنبت إلّا في الظلام.
هنا يُضاف القمع والفقر والخوف إلى العيش في بيوت لا ترى منها أيّ أفق خارج جدرانه الأربعة، فحالة الاختناق المستمر تحوِّل الفرد إلى كائن مشوّه مليء بالعقد يمكن لأي شرارة حركةٍ اجتماعية أو سياسية أو حتى مشاجرة عادية أن تفجّر العنف الكامن داخله، وتؤدي إلى الكثير من الدماء والآلام مع وجود هذه الأعداد الهائلة الجاهزة لممارسة العنف لأتفه الأسباب.
وآخر الأمثلة ظهرت مع اندلاع الثورة السورية عام 2011 حيث جوبهت الاحتجاجات الشعبية السلمية بداية بإدخال العامل الطائفي في قمعها، فقامت السلطة بتجييش سكان العشوائيات ذات الغالبية العلوية (عش الورور، المزة 86، السومرية، شارع نسرين في حي التضامن) في دمشق، وحيي عكرمة والزهراء في حمص، وغيرها من التجمعات السكانية التي قدم سكانها من المحافظات والقرى الساحلية والداخلية إلى المدن الكبرى، ضد المحتجين السلميين بترويج خرافة أن السنة سيبيدون العلويين، وبدأت المذابح الطائفية تتوالد من الحولة في ريف حمص إلى البيضا في بانياس إلى التضامن وعرطوز وداريا في دمشق وريفها إلى مئات المذابح التي أشعلت نيران الحقد الطائفي، وأخرجت مارد العنف من قمقمه.
لا يتناقض هذا الطرح مع كون بعض قيادات الحركات المتطرفة هم من أبناء الذوات المنحدرين من بيئات اجتماعية ميسورة، ويسكنون أحياء نظيفة ومنازل جميلة، ويركبون سيارات فارهة، لكن عملهم ينحصر في تهيئة جيوش من المدمنين والعاطلين عن الأمل وفقراء المجتمع؛ للزجّ بهم في محارق الصراعات الطائفية والقومية والدينية والأيديولوجية، ثم يجنون ثمار كلّ عنف يحصل.
إنّ الجريمة الكبرى التي ارتكبتها الأنظمة التي جاءت تحت شعارات الثورة والتقدم والاشتراكية أنّها كرّست ثقافة الثأر والدين الواحد، والمذهب الواحد، والفكر الواحد البائس، ورفض الآخر، إضافة إلى أنّها هيأت للخراب والعنف جيوشاً جرارة من الجهلاء والخانعين من خلال تركها للعشوائيات تنمو بفعل فسادها وفساد الإدارات التي أقامتها، مُشَكّلة أحزمة فقر أسود تحاصر المدن والقيم المدنية بقيم عشائرية وقبلية ومذهبية تمجّد العنف وتؤبده، وهي -هذه السلطات- تجد في العنف ملاذها وملعبها المفضّل في التعامل مع أي حراك شعبي كما حصل في أكثر من بلد.
* تُنشر هذه المادة بالتعاون بين شبكة الصحفيين الكُرد السوريين (SKJN) ومجلة صور في برنامج تعاون ضمن مشروع "المرآة"، حول "حقوق الإنسان والحريات العامة".