info@suwar-magazine.org

صراع المظلوميات .. من نسخة عن جهنم إلى نسخة عن جهنم.

صراع المظلوميات .. من نسخة عن جهنم إلى نسخة عن جهنم.
Whatsapp
Facebook Share

 

في مسرحية "دائرة الطباشير القوقازية" للكاتب الألماني برتولد بريخت، نجد مشهداً يلخص مأساة البشرية حين تفسدها الأنانية والصراع الأعمى. امرأتان تتنازعان طفلاً صغيراً، كلتاهما تدّعي الأمومة، واحدة أنجبته وتخلّت عنه في لحظة خطر، والثانية فقيرة ربّته وأنقذته. القاضي يرسم دائرة على الأرض، يضع الطفل في وسطها، ويطلب من كل واحدة أن تجذبه نحوها، من تستطيع جذبه، تَفُز به. لكن المرأة التي أحبّت الطفل حقاً، رفضت أن تجذبه خوفاً عليه، فتبيّن للقاضي أنها الأحق به.

 

اليوم، يبدو المشهد نفسه يتكرّر في المشرق العربي، مع فارق جوهري:

ـ  لا توجد امرأة ترفض تمزيق الطفل، ولا قاضٍ حكيم يتدخّل ليحسم النزاع بحكمة وعدل.

 

منذ سقوط نظام صدام حسين في العراق، تصاعدت مظلومية الشيعة، الذين حُرموا لعقود من السلطة والتمثيل والحقوق، هذا الشعور العميق بالاضطهاد تحوّل، بعد سقوط النظام، إلى نزعة انتقامية أعادت إنتاج دوامة الإقصاء، لكن في الاتجاه المعاكس، ليصبح سنّة العراق اليوم من يرفعون راية المظلومية.

 

المشهد يتكرر، بمرآة معكوسة، في سوريا.. عقود من حكم آل الأسد، حيث استثمر بالأقلية العلوية الأكثر حرماناً وفقراً، ومعها أطراف من الأقليات الأخرى، بسلطة متصلّبة، عزّزت شعور الغالبية السنيّة بالتهميش والحرمان.

 

مع اندلاع الثورة، برزت مظلومية سنّة سوريا، مدفوعة بتاريخ طويل من القمع والإقصاء، لكنها حملت في طيّاتها بذور خطر، حين تحوّلت المظلومية على أيدي تيارات تكفيرية، إلى مشروع للانتقام لا إلى دعوة للعدالة.

 

واليوم، مع تغيّر موازين القوى، باتت الأقليات السورية، تخشى مظلومية جديدة، هذه المرة بيد الأكثرية المنتشية بسلطة قادمة إذا لم تعرف كيف ستبدأ فلن تعرف إلى أين ستنتهي والبلاد معها.

 

 

اقرأ أيضاً:

                         

                             من ينقذنا من ساعة التغيير المقبلة؟

               

         نتنياهو / خامنئي / ترامب: ثلاثة عقول تدفع العالم نحو حرب لا عقل فيها

   

في كل هذه الدوائر المتشابكة من المظلوميات، يبدو الوطن هو الطفل الذي يتجاذبه الجميع، كل طرف يعتقد أنه الأحق به، ليس حباً فيه، بل لأن فيه مكاسب، سلطة، موارد، نفوذ، أو حتى انتقاماً مؤجلاً.

 

لكن الحقيقة المُرّة أن أحداً لا يُبدي حرصاً حقيقياً على سلامة هذا الوطن، تماماً كما في مسرحية بريخت، لو أن كلتا الأمين جذبت الطفل بكل عنف، لتمزّق بينهما.

 

المشرق العربي، بين بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، يعيش اليوم صراع المظلوميات بلا قاضٍ حكيم، بلا عدالة انتقالية، بلا مشروع وطني يتجاوز الأحقاد المتوارثة.

 

الجميع يعيش داخل دائرة الطباشير، لكن لا أحد يملك شجاعة التوقف والتفكير في مصير الطفل قبل الشدّ عليه.

 

المشكلة ليست في الاعتراف بالمظلومية، بل في طريقة توظيفها، فمن لم يتعلّم من ألم الأمس، يصبح جلّاد اليوم، ومن يرى في معاناة ماضيه مبرراً لاضطهاد الآخر، يعيد تدوير المأساة جيلاً بعد جيل.

 

هذه المنطقة دفعت أثماناً باهظة في مسارح الدم والدمار، لا لأن الظالمين وحدهم أقوياء، بل لأن الضحايا حين انتصروا، حملوا معهم ميراث الجلاد، فاستنسخوا ظلمه بوجهٍ جديد (وأحداث الساحل وسواه تعطي المثال).

 

ربما آن الأوان لنسأل أنفسنا:

ـ من القاضي الذي ننتظره؟ هل هو مؤسسة دولة، دستور، عقد اجتماعي جديد؟ أم أننا لا زلنا أسرى عقليّة القبيلة والطائفة والحزب، حيث لا قانون إلا قانون الغلبة، ولا حق إلا ما تمنحه فوهة البندقية؟

 

الوطن ليس غنيمة ولا إرثاً يتنازعه ورثة الشرعية التاريخية أو الدينية أو السياسية، بل كيان هشّ، يتطلّب وعياً جماعياً يتجاوز جراح الأمس، ويؤمن أن الحفاظ عليه أهم من الانتصار الظرفي في معركة لا منتصر فيها.

 

دائرة الطباشير ما تزال مرسومة في أرض هذا الشرق، والطفل ـ أي البلد ـ ما يزال مهدداً بالتمزّق.

السؤال البسيط والمؤلم هو:

ـ من فينا يحبّه بما يكفي ليترك الحبل، قبل أن يُمزّق الجميع؟

 بالنتيجة من نسخة عن جهنم، إلى  نسخة عن جهنم، مع آلة ضخمة تشتغل على فبركة الكراهيات والغرائز والدماء.

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard