من ينقذنا من ساعة التغيير المقبلة؟

ليس وهماً الكلام، ثمة ما سيتغيّر، وما سيتغيّر لابد من أن يبدأ من مكان ما.
قبل هذه الحقبة، ابتدأ التغيير من "جدار برلين"، أما اليوم فلابد أن بدأ من مفاعل نووي يقبع في سلسلة جبلية من جبال طهران، يسمونه "مفاعل فوردو"، ليكون:
ـ اللحظة الفاصلة.
في اللحظاتٍ الفاصلة من مسار التاريخ، تتصدع البُنى الكبرى التي شكّلت وعي الشعوب لعقود، لتُفسح المجال أمام ملامح حقبة جديدة، هذه التحولات لا تحدث فجأة، بل تنبثق من التراكم، من التشقق البطيء في جدران السرديات الكبرى، أو من خيباتها، بل، ومن تعب الناس من المعاني القديمة.
لقد بدأ انهيار الحقبة التي حكمتها سرديات المرشد، الزعيم، الدولة المركزية، الحزب، الإعلام الرسمي، والدين المؤدلج.. هي حقبة بُنيت على ثنائية "الوطن أو الفوضى"، "الزعيم أو الطغيان الخارجي"، و"الاستقرار مقابل الحرية"، لكن في واقع الحال، ما وُعِد به الناس، قد لا يتحقق، وقد ينهار تحت وطأة القمع والفساد والاستبداد اللاحق لقمع وفساد واستبداد الأمس.
غير أن الانهيار، وأعني انهيار "الحقبة" سيحدث"، وقد رأينا هذا الانهيار، يوم خرج الناس بمطالب الحرية، لينكشف عمق الهوة بين الدولة والمجتمع، وبين المواطن المقموع والفرد الحالم.
حدث لحظة اندلعت احتجاجات بلا زعيم ولا حزب، بل بشعار: "كلن يعني كلن"، فكان ما يشير إلى قطيعة جذرية مع الماضي.
: حدث حيث أطاحت قوى شبابية بأنظمة تاريخية، لكنها وجدت نفسها في صراع مع الدولة العميقة التي لم تُرد أن تموت.
المثال الأكثر تكثيفًا، بدا اكثر وضوحاً في ثورة الشباب في طهران، حيث تحوّل الجيل الجديد من الحلم بدولة إسلامية عادلة، إلى الحلم بجسد حر، وحق في الحياة بلا وصاية.
ماشهدته طهران في ربيعها، وقد اشتغل الإعلام على التقليل من قيمته، كان إيذاناً بنهاية حقبة وبداية أخرى، ليس فقط على مستوى السياسة، بل في العمق النفسي والثقافي لأجيال كاملة، غير أنه وفي المآل، أُجهِض وانتهى إلى ولادة إيقونة اسمها "مهسا أميني".. إيقونة في ضمير الناس، وليس فعلاً متجدداً في حياتهم، فكانت:
ـ الولادة المجُهَضَة.
بين السقوط والانهيار البطيء:
في السياق، إذا ما ألقينا نظرة على النظام العربي التقليدي، فسنلاحظ أنه تلقى ضربات عنيفة منذ 2011، لكنه لم ينهَر بالكامل.
النموذج السلطوي القائم على الزعيم الأب، الدولة الأمنية، والاقتصاد الريعي، بات يتآكل لكنه لا يزال قائمًا بالعادة أو بالقمع.
المؤسسات القديمة مثل الإعلام الرسمي، النقابات، وحتى الأحزاب، فقدت حضورها المعنوي، دون أن تولد بدائل تحظى بثقة الناس.
فكان عنوان الحقبة:
ـ زمناً رمادياً بين زمنين: زمن يتهاوى، وزمن لم يُولد بعد.
اقرأ أيضاً:
نتنياهو / خامنئي / ترامب: ثلاثة عقول تدفع العالم نحو حرب لا عقل فيها
سرديات متكسّرة ومشاريع غير مكتملة:
في خضم التحولات، ظهرت محاولات سردية كبرى:
ـ الربيع العربي مثلاً، بشّر بمشروع الحرية والكرامة، لكنه لم يُنجز سردية كاملة متماسكة، واصطدم بالفوضى والتدخلات والأوهام.
على الضفة الأخرى، أعادت السلطات الوارثة لحقبة الأمس، تدوير سرديات قديمة تحت لافتات "الاستقرار" و"الأمن".
في المقابل، تشق الحركات بتسمياها (النسوية والبيئية والشبابية) سرديات صغيرة وموزعة، تحاول أن تعبّر عن أحلام جديدة، لكنها غالبًا ما تُحاصر أو تُهمَّش أو تبقى نخبوية منعزلة.
تحولات الحلم: من الأمة إلى الذات.
في السابق، كانت أحلام الشباب تدور حول الأمة، التحرير، الوحدة، العدالة الشاملة.
ـ هل بقي الأمر على ذاك النحو؟
لا، بات الحلم أكثر فردية، أكثر ارتباطًا بالكرامة الشخصية والحرية الجسدية والنفسية.
الشاب العربي اليوم يحلم بجواز سفر يحميه، بفرصة للهروب، أو بفضاء يعبّر فيه عن ذاته من دون أن يُسحق.
القيم تغيّرت، لم يعد الزعيم هو القدوة، بل صار صانع المحتوى، المغني، لاعب كرة القدم، هو رمز النجاح، لأنه نجح رغم الخراب لا بفضله.
الحلم لم يعُد عموديًا (من الأعلى إلى الأسفل)، بل أفقيًا، شخصيًا، مضادًا للسلطة، وهو ما يفسر تحوّل كثير من الطاقات الشابة إلى مشاريع فردية أو ثقافات مضادة.
إيران كنموذج مكثف:
التحول في إيران يقدم مثالاً حاداً لهذا المخاض، فجيل الثورة الإسلامية في 1979 حلم بدولة العدالة الإسلامية، بينما جيل 2022 يثور بشعار "المرأة، الحياة، الحرية"، من الأيديولوجيا إلى الجسد، ومن الأمة إلى الذات، ومن الطاعة إلى الرقص في الشارع.
الثورة الإيرانية الجديدة ليست سياسية فقط، بل جمالية، جسدية، شعرية التمرد في الشعر، في الملابس، في الرقص، في الحب.
لم يعد حلم الشباب إسقاط نظام فقط، بل كسر منظومة الحياة المفروضة من أعلى.
هل نحن على أعتاب حقبة جديدة؟
نعم، لكننا لم نعبر بعد، نعيش زمناً انتقاليًا، تتآكل فيه البنى القديمة، وتتشكل فيه أحلام جديدة لا تزال تبحث عن لغتها وأدواتها ومؤسساتها.
ما يمكن تأكيده هو أن الحلم تغيّر، بات مغموسًا بالذات، بالجسد، بالكرامة اليومية، ولم يعد الحلم أن نكون شعبًا واحدًا عظيمًا، بل أن ننجو بأرواحنا من سحق المعنى.
ملامح العالم القادم:
انهيار السرديات الكبرى لا يعني فقط سقوط أنظمة، بل ولادة شكل جديد من التاريخ:
ـ من الجماعة إلى الفرد.
ـ من الحزب إلى المبادرة.
ـ من الخطاب السياسي إلى التعبير الشخصي.
لم يعد السؤال:
ـ من يحكم؟
بل:
ـ كيف نعيش؟
العالم القديم انهار بعد سقوط جدار برلين، والعالم الجديد يتشكل اليوم وسط حروب مفتوحة (مثل الحرب الإسرائيلية – الإيرانية) وتصدّعات داخلية عميقة، لكن الملامح الجديدة لا تتشكل في قمم السياسة، بل في عمق النفس البشرية.
التاريخ القادم لن يُكتب في معسكرات السياسة فقط، بل في تفاصيل الحياة اليومية، في كيفية عيش الناس وتخيّلهم للنجاة.
مفتاح التاريخ القادم هو:
كيف سيحلم الإنسان بعد الآن؟ ومن سيمنحه المعنى؟ وكيف سيتشارك هذا المعنى مع آخرين؟
إنه تاريخ الفرد، لا فقط السلطة.
وقد لا يتشكّل غده إلاّ عبوراً بـ :
ـ الدم والفوضى.