info@suwar-magazine.org

ديون على سنابل القمح

ديون على سنابل القمح
Whatsapp
Facebook Share

 

لم يكن الأوّل من آب يوماً ما موعداً للعشّاق في الجزيرة السورية، بل كان الموعد الذي يُكشَف فيه المستور، وتُفتَح دفاتر العام الماضي على مصراعيها، دفاتر الديون، والعهود، والأمل الذي لطالما قُيّد باسم "الحصاد القادم".

أذكر جيداً ما قاله رجلٌ من حيّنا ذات صيف، حين اقترب منه صديقه وهمس بشيء، فردّ عليه بصوت عالٍ:

"يا صاح، بعد الواحد من الشهر الثامن، يلي بدّو يشوف أفلام هندية أو خالعة... يروح يقعد بتلّة شرمولا"

ضحك بعضهم، لكن لم يكن في كلامه دعابة.

 

شرمولا، تلك التلة الهادئة جنوب عامودا، قرب المقابر، صارت مزاراً مؤقتاً لكل مديون خائف من مواجهة دائن عنيد، فصوت الريح هناك أرحم من صوت الدائن حين يطالبك بالمال، ولا تملك سوى وعود مؤجلة.

في الجزيرة، لا يُنتظر الحصاد كما تُنتظر الولائم، بل كما يُنتظر الطبيب ليقول كلمته الأخيرة.

في شهر الحصاد، يُفصل بين من سينجو عاماً آخر، ومن سيغرق في بحر الدين حتى رأسه.

 

 

حكاية جارتنا… وقطعة ذهبها الأخيرة

كانت جارتنا قد تجاوزت الثلاثين قليلاً، لم تتزوّج، ليس لأنها لم تكن جميلة، بل لأن توقيت المواسم السيئة لم يكن يوماً في صالحها.

كانت تنتظر مثل كثيرات في القرى، أن يأتي أخوها في الصيف، يمدّها ببعض المال، فتشتري فستاناً جديداً، أو زجاجة عطر، أو حتى مرآة صغيرة تُقنع بها عريساً محتملاً بأنها ما زالت "تلمع".

 

لكن إذا ما خذلهم الموسم، كانت تفتح صندوقها الخشبي، وتُخرج منه قطعة ذهب ورثتها عن أمها، وتقول وهي تنظر إليها كأنها تودّعها: "الله يرزقني مثلها، بس خلي الناس تقول بنت فلان عرّضت للعريس"

ثم تنزل إلى سوق المدينة، وتعود بأكياس تلمع، تلوّح بها في الطريق، علّ أحدهم يراها و"يفتح النصيب".

في اليوم التالي، كانت تجلس عند باب إخوتها، تضع مساحيق كثيرة، وتلبس ثوباً يُشبه ثياب العيد... لكن لم يكن هناك عيد... ولا أحد مرّ.

الجميع كان مشغولاً في دفاتر الحسابات.

 

اقرأ أيضاً:

 

    يمكنك الجلوس أمام البيت الأزرق وتكون ضيفاً هناك..قراءة في رواية البيت الأزرق  

 

 

المزارع الذي نسي دائنيه

قالوا إنّ أحد المزارعين ظلّ يقترض المال لسنوات، كل سنة، يبدّل فقط الرقم في رأس الورقة: 2020، 2021، 2022...

الديون لا تتغير، بل تكبر مثل أولاده، ولكنها أكثر شراسة، لا تذهب للمدرسة بل تجلس على صدره.

باع أرضه، ثم جرّب أن يبيع ما تبقى له، وحين لم يتبقّ شيء، قرّر أن يهرب إلى بلد مجاور.

في مدينة غريبة، صادفه صديق قديم:

– "أهلاً! كيفك؟"

– "والله، سامحني، بس رح إدفعلك قريب، ما نسيت والله..."

ابتسم صديقه وقال:

– "بس أنا ما إلي شي عندك."

نظرا لبعضهما لحظة، ثم افترقا.

المديون صار لا يعرف من هو الدائن، ولا كم تبقى عليه.

 

 

الأرض لا تشكو، والسنابل لا تصرخ

في القرى، يُرهن البعض أراضيهم كحلٍّ مؤقت، على أمل أن ينهض الموسم القادم بالمعجزة، لكن المعجزات لا تحدث في الحقول، والمواسم لا تعوّض الخسارات القديمة، بل تكدّسها، فالديون في الجزيرة ليست فقط أرقاماً، إنها علاقات ملوّثة بالحذر، وندوب في السمعة، وأحاديث في السهرات لا تنتهي.

 

وهكذا...

يمرّ الصيف على الجزيرة، لا كما تمرّ الفصول على غيرها.

في الأوّل من آب، لا أحد يحتفل، لا أحد يغني.

بل تُقلَب دفاتر العام السابق، وتُوزَّع الأمل على أقساط.

في القرى، يُوزن القمح بالحساب، لا بالكيل، ويُحصد الحزن مع السنابل، ويُقاس العُمر بالفوائد.

هناك، حيث الهواء مبلّل بنداءات الدائنين، والبيوت متعبة من الوعود... يتعلّم الناس كيف يبتسمون بأقلّ قدر من الخسائر.

ولأنّ الأرض لا تشتكي، فقط نسمع أنينها في عيون الفلّاحين، في خطواتهم المثقلة، في كلماتهم التي تتهرّب من السؤال: "كيف كان الموسم؟"

ثم ينهضون، كأنهم لم ينكسروا، ويبدأ العدّ من جديد.

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard