info@suwar-magazine.org

من "سوريا الجغرافية" إلى "الوطنية السنيّة": تحولات الهوية والدولة في سوريا الحديثة

من "سوريا الجغرافية" إلى "الوطنية السنيّة": تحولات الهوية والدولة في سوريا الحديثة
Whatsapp
Facebook Share

 

شهدت سوريا منذ بداية تشكّلها كدولة تحولات سياسية واجتماعية عديدة، لكنها للأسف لم تتمكن أبداً من بناء هوية وطنية جامعة تعبّر عن كل مكوناتها الاجتماعية المتنوعة والمتعددة. فبين محاولات إقامة الدولة وتحديات التنوع الطائفي والقومي، برزت مفاهيم متناقضة حاولت ملء هذا الفراغ، من أبرزها سوريَا الجغرافية والوطنية السنيّة، التي تعكس الصراع الدائم بين الانتماء المدني الشامل والانتماء الديني المحدود.

 

ومع صعود  احمد الشرع (الجولاني) إلى السلطة في دمشق، تتضح هذه التحولات بشكل جلي، إذ تواجه الأرض والمواطنة تحديات جديدة في وقت يسعى فيه مشروع السلطة الجديد إلى إعادة تعريف الوطنية وفق معايير عقدية ضيقة.

 

"إن الواقع هو الذي يُنتج مفاهيمه، ويغرس بذور ثقافته الممكنة، وقد أفرز الواقع السوري خلال العقود الماضية مفهومين تأسيسيين متوازيين ومتعارضين في آن واحد ، سوريَا الجغرافية والوطنية السنيّة" على حد تعبير الكاتب والمفكر "جاد الكريم الجباعي". فالأولى تمثل إدراكاً متنامياً لمفهوم الدولة بوصفها كياناً جامعاً لتنوع اجتماعي وثقافي وقومي وديني تشكّل ضمن حدودٍ جغرافية محددة، لا ضمن عقيدة أو هوية أحادية. إنها وعيٌ بالأرض كحيّزٍ سياسي يحتضن الجميع، ويستمد شرعيته من مواطنيه، لا من الغلبة أو الامتياز التاريخي.

 

أما الثانية، أي الوطنية السنيّة، فهي التعبير التاريخي عن غلبةٍ اجتماعية وجدت في ذاتها انعكاساً لفكرة الوطن، لكنها لم تنجح في تجاوز حدودها المذهبية نحو مشروعٍ وطني جامع. ومع تفكك الدولة المركزية، وتراجع فكرة المواطنة، تحوّلت تلك الغلبة من تمثيلٍ رمزي إلى استحقاقٍ سياسي، ومن شعورٍ بالانتماء إلى تصورٍ للهوية الوطنية بوصفها امتداداً للأكثرية الدينية.

 

 

لقد جاء صعود الجولاني إلى السلطة في دمشق ليشكّل تتويجاً لهذا المسار المعكوس، إذ بدا وكأنه إعلانٌ لانهيار مفهوم سوريَا الجغرافية واحتكارٌ نهائي لمفهوم الوطنية السنيّة. فالدولة التي كان يُفترض أن تقوم على التنوع والتعدد تحولت إلى سلطةٍ مؤدلجة مغلقة على نفسها، تستمد شرعيتها من تأويلٍ دينيٍ ضيق، وتعيد تعريف الوطنية على أساس الولاء العقدي لا على أساس الانتماء السياسي. وبذلك، تراجعت فكرة الوطن كحيّزٍ مشترك، وانكمشت الجغرافيا السورية إلى حدود هوية واحدة، وانقلب التنوع من عنصر قوة إلى تهمةٍ تُبرر الإقصاء، فيما صار المواطن معياراً للولاء لا شريكاً في السيادة.

 

اقرأ أيضاً:

 

                 الفيدرالية وإمكانات إعادة بناء الوحدة الوطنية في سوريا

 

 

إن دولةً كـسوريا، بتنوعها القومي والديني والثقافي، لا يمكن أن تُوسم بهوية أكثرية، أكانت دينية أم قومية. فمثل هذا الوسم يختزل الدولة في جزءٍ من مكوناتها، وينفي عنها صفة الجامعة، ويقوّض أسس العقد الاجتماعي الذي يقوم على المساواة بين المواطنين. وحين تُختزل الدولة في هويةٍ واحدة، تتحول السلطة إلى أداةٍ للغلبة، ويُختزل الوطن في سرديةٍ فئوية تحكم باسم التفوق لا باسم الشراكة.

 

إن استعادة المعنى السياسي لسوريَا الجغرافية باتت اليوم ضرورةً وطنية، لأنها تمثل الإطار الوحيد القادر على جمع السوريين في مشروعٍ ديمقراطي يرفض اختزال الوطن في دينٍ أو طائفةٍ أو قومية. فالدولة التي تستمد شرعيتها من أرضها وشعبها لا من أيديولوجيتها، هي وحدها القادرة على إعادة بناء الثقة بين المكونات، وعلى فتح الطريق أمام عقدٍ وطنيٍ جديد يؤسس لجمهوريةٍ مدنيةٍ تعددية تقوم على اللامركزية والمواطنة المتساوية والعدالة في توزيع السلطة والثروة.

 

 بهذه العودة إلى الجغرافيا كهويةٍ جامعة، وإلى الإنسان كمصدرٍ للشرعية والسيادة، يمكن للسوريين أن يستعيدوا وطنهم من أسر الهويات المغلقة، وأن يكتبوا بداية جديدة لدولةٍ لا تحكم باسم الأكثرية، بل باسم المساواة والكرامة والحرية .

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
آخر المقالات
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard