info@suwar-magazine.org

سوريا بعد الأسد: صراع الشرعية وسؤال الاستقرار المعلّق

سوريا بعد الأسد: صراع الشرعية وسؤال الاستقرار المعلّق
Whatsapp
Facebook Share

 

 

من السقوط إلى الفراغ: تحوّل السلطة واستمرار الأزمة

حين انهار نظام بشار الأسد في نهاية ٢٠٢٤، لم يكن التحوّل الذي أعقب السقوط نتيجةَ ثورةٍ داخلية أو توافقٍ وطني، بل ثمرة اجتماع الإرادة الدولية وتحوّل التحالفات الإقليمية التي قرّرت إعادة تشكيل المشهد السوري وفق خريطةٍ جديدة.


فقد توافقت أطراف إقليمية مؤثرة إلى جانب قوى دولية كبرى على أن بقاء الأسد لم يعد ممكنًا، وأنّ نقل السلطة إلى قيادةٍ "محلية ذات مرجعية سنية" قادرة على احتواء الفصائل وضبط الشمال سيكون الخيار الأقلّ كلفة.

 

 

في هذا السياق، صعد أحمد الشرع (المعروف سابقًا بأبي محمد الجولاني) إلى الواجهة ممثّلًا لهيئة تحرير الشام، التي قُدّمت للعالم باعتبارها "نموذجًا إسلاميًا معتدلًا" يمكن التفاهم معه. وهكذا لم يأتِ التحوّل عبر صناديق الاقتراع، بل عبر تفاهمٍ دوليّ أتاح انتقال السلطة إليه بعد حلّ الجيش النظامي ودمج بقاياه في أجهزة الأمن والإدارة الجديدة.

 

 

أما الخطاب الذي روّج له النظام الجديد تحت عنوان "التحرير" و"استكمال الثورة" فلم يكن سوى أداةٍ لإضفاء الشرعية على واقعٍ صُنِع بقرارات فوقية خارجية. فالجميع يعلم أن الأسد سلّم مفاتيح الدولة طوعاً ضمن صفقةٍ أوسع أنهت مرحلةً وافتتحت أخرى، لا بوصفها انتصاراً للشعب بل كجزءٍ من إعادة توزيع النفوذ في المنطقة. وهكذا، سقط الأسد، لكن لم تنهض الدولة.

 

 

من الحلم إلى العقيدة: كيف تحوّل مشروع التحرير إلى منظومة إقصاء

واجه نظام أحمد الشرع منذ البداية سؤالاً مصيرياً: كيف يُضفي مشروعية على حكمٍ وُلد من رحم الجماعة المسلحة؟ فبعد أن تخلّى عن الخطاب الجهادي الصريح لصالح لغة "الإصلاح والتمكين"، حاول بناء شرعية جديدة على أساس ديني–هويّاتي، تُقدّم الأغلبية السنيّة بوصفها "المالك الطبيعي" للدولة السورية المستقبلية.

 

إلا أنّ هذا الطرح، وإن تم تلميعه بشعارات "تصحيح المسار" و"الهوية الإسلامية الجامعة"، قاد عملياً إلى إقصاء الأقليات الدينية والعرقية عن أي دور حقيقي في صياغة مستقبل البلاد. فالمسيحيون والدروز والإسماعيليون والعلويون، فضلاً عن الأكراد، وجدوا أنفسهم خارج أي تمثيل سياسي جاد.

 

 

وبدل أن يفتح النظام الجديد الباب لحوار وطني شامل، أعاد إنتاج منطق الأكثرية المتسلّطة التي تحتكر تعريف الوطنية والدين في آنٍ معاً. وهكذا صار الانتماء الطائفي معياراً غير معلن للمواطنة، مما قضى على فكرة الدولة الجامعة التي يسكنها الجميع على قدم المساواة.

 

يقدّم نظام أحمد الشرع نموذجاً مغايراً لما سُمّي بالإسلام السياسي: فهو لا يسعى إلى دولة دينية خالصة بل إلى سلطة هجينة تمزج بين الشريعة والإدارة الحديثة. غير أن هذا التهجين لا يُنتج اعتدالًا بل ازدواجيةً تُفرغ الدولة من مضمونها المدني وتُبقيها رهينة الولاء الديني.
بهذا المعنى، لم تُبنَ الدولة السورية الجديدة على مفهوم "المواطنة الجامعة"، بل على هوية أيديولوجية مغلقة تعيد إنتاج الانقسام وتشرعن الإقصاء.

 

اقرأ أيضاً:

 

                           من هيمنة المركز إلى سيادة المواطن

 

 

غياب العقد الاجتماعي وصعود الولاءات الفرعية

لم تشهد سوريا بعد سقوط النظام السابق أيّ عملية حوار وطني تُفضي إلى عقدٍ اجتماعي جديد. فالسلطة الحالية، التي تصف نفسها بأنها "نتاج الثورة"، لم تُجرِ أي عملية تشاركية لصياغة دستورٍ أو قانونٍ انتخابي، بل اكتفت بإدارة المناطق الخاضعة لها من خلال مجالس ولجانٍ مرتبطة بالمؤسسة الأمنية والشرعية التابعة للحكومة.

 

 

وفي ظل غياب الدستور والمواطنة، عادت الهويات الفرعية لتملأ الفراغ: الطائفة، العشيرة، والعرق. ومع كل محاولة للنقد أو المعارضة، تُستدعى لغة "التهديد للأغلبية" لتبرير القمع والإقصاء.
هكذا انتقلت سوريا من الاستبداد البعثي ذي الطابع الأمني إلى سلطوية جهادية ذات طابع طائفي مضمَر، لا تقل انغلاقاً أو إقصاءً.

 

 

 

سيناريوهات مستقبل الدولة السورية

السيناريو الأول: الدولة السلطوية الجديدة (الأكثر ترجيحًا)

وفق المعطيات الراهنة، يميل المسار السياسي إلى ترسيخ حكم مركزي جديد بقيادة أحمد الشرع، يعتمد على الأمن والدين لتثبيت شرعيته. هذا النموذج يسعى إلى توحيد مؤسسات الدولة تحت سلطة واحدة، لكنه في الجوهر يُعيد إنتاج الاستبداد بأدوات مختلفة.


فالدولة في هذا السيناريو ليست دولة مواطنين بل "إمارة موسّعة" تُدار وفق منطق الولاء والطاعة، ويُعاد تشكيل التعليم والإعلام والقضاء بما يخدم تصوراً دينياً واحداً للهوية السورية.
قد ينجح هذا النموذج في فرض "الاستقرار الأمني"، لكنه يفشل في إنتاج استقرار سياسي حقيقي، لأن الأخير لا يقوم على القهر بل على المشاركة والرضا العام.

 

 

السيناريو الثاني: التفكك المديد (الاحتمال الأخطر)

في حال استمرار العزلة الدولية وتدهور العلاقات مع القوى الكردية والجنوبية، قد تدخل البلاد في طور من التفكك الطويل الأمد، حيث تتوزع السلطة فعلياً بين ثلاث مناطق نفوذ:

  • الشمال والغرب تحت حكم حكومة الشرع.
  • الشرق والشمال الشرقي تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية بدعم أميركي.
  • الجنوب بمزيج من النفوذ الأردني والإسرائيلي والإيراني غير المباشر.

في هذا السيناريو، تغيب الدولة كمركز موحد، ويحلّ مكانها توازن هشّ بين سلطات الأمر الواقع. قد يوفّر ذلك هدوءا نسبيا لكنه لا يرقى إلى الاستقرار، إذ تبقى الحرب كامنة في النفوس والمؤسسات على السواء.

 

 

 

السيناريو الثالث: الدولة التوافقية/الفيدرالية (الاحتمال الإصلاحي)

يحتاج هذا النموذج إلى قطيعة فكرية مع منطق الغلبة، وإلى إدراك جماعي بأن لا مخرج إلا عبر الشراكة. يقوم السيناريو التوافقي على تأسيس نظام سياسي فيدرالي أو لا مركزي يضمن تمثيل المكونات جميعها — الدينية والعرقية والمناطقية — في مؤسسات الحكم.


هذا النموذج قد يكون الشكل الوحيد القادر على ضمان الاستقرار طويل المدى، لأنه يُحوّل الصراع من صراع وجود إلى صراع برامج داخل أطر سياسية مشروعة.
لكن نجاحه مشروط بتفكيك الميليشيات، وبتخلي القوى الخارجية عن توظيف سوريا كساحة نفوذ، وهذان الشرطان لا يزالان بعيدين.

 

 

الوصاية الدولية الجديدة: من إدارة الحرب إلى إدارة الدولة

لم يعد الصراع في سوريا بعد 2024 شأناً سورياً خالصاً، بل تحوّل إلى مختبرٍ لإعادة توزيع النفوذ الإقليمي بين القوى الكبرى والأطراف الإقليمية المؤثرة، في ظل غياب إرادة وطنية مستقلة.
لقد أُعيد تشكيل الدولة السورية على مائدة التفاهمات الأمنية لا عبر إرادة شعبية، مما جعل النظام الجديد أداة في صراع الآخرين أكثر منه فاعلاً سيادياً.
وحتى اليوم، لم تستطع الحكومة الجديدة ترسيخ سياسة خارجية متوازنة أو مشروع وطني جامع؛ فهي محكومة بمعادلات الممول والداعم والحليف، لا بمصلحة الدولة أو إرادة الشعب.

 

 

 من الطائفية إلى الوطنية: معركة الوعي

بعد سقوط الأسد، برز خطاب طائفي حاد غذّاه نظام أحمد الشرع، أراد به ترسيخ فكرة أن "الأغلبية السنية" وحدها مؤهلة لقيادة الدولة، وأن مشاركة الأقليات تُهدد "هوية الأمة". هذا الخطاب لم يأتِ من فراغ، بل استند إلى تراكمات عقودٍ من الانقسام والتهميش التي صنعها النظام السابق نفسه.

لكن استمرار هذا المنطق يعني إعادة إنتاج المأساة ذاتها بوجهٍ آخر. فالدولة التي تُبنى على استبعاد الآخر محكومة بالانقسام. إنّ البديل الحقيقي للطائفية ليس طائفية مضادة، بل دولة مدنية عادلة تضمن للجميع مكاناً متساوياً في المجال العام.

 

تولّد جيلٌ سوري جديد لم يعرف إلا الحرب والانقسام، جيلٌ يعيش في فضاء رقمي عابر للطوائف. إن هذا الجيل هو الرأسمال الحقيقي لأي مشروع وطني جديد، لكنه اليوم مهدّد بالتطرف أو الاغتراب، ما لم يجد في دولته القادمة معنى للانتماء والمواطنة.


إنّ تجاوز هذا الخطاب يتطلّب مشروعاً وطنياً يعيد تعريف "الأغلبية" بوصفها أغلبية سياسية منفتحة لا هوية دينية مغلقة، ويؤسس لثقافةٍ تُعلي من شأن المواطنة لا الانتماء الطائفي.

 

 

 

تحديات الاستقرار البنيوي

حتى مع فرض النظام الجديد سيطرته العسكرية، تبقى معوقات الاستقرار قائمة:

  1. انعدام الثقة بين المكوّنات بعد حرب طويلة وجرائم متبادلة.
  2. تغوّل الأجهزة الأمنية التي تحكم بعقلية الجماعة لا الدولة.
  3. تهميش الأقليات من أي دور سياسي أو إداري فعّال.
  4. تديين المجال العام مما يقصي الكفاءات المدنية ويحوّل السياسة إلى ساحة فقهية.
  5. الانقسام الجغرافي الذي يمنع التواصل بين المراكز والمناطق.
  6. غياب العدالة الانتقالية التي وحدها يمكن أن تفتح باب المصالحة.

 

 

 

نحو عقدٍ وطني جديد: شروط الاستقرار الممكن

إن أيّ أفق لاستقرارٍ سياسي في سوريا لا يمكن أن يقوم على الغلبة العسكرية أو الخطاب الديني، بل على عقد اجتماعي جديد يقوم على المبادئ التالية:

  • فصل الدين عن السلطة السياسية وإعادة تعريف الشرعية على أساس المواطنة.
  • تضمين الأقليات في مؤسسات الحكم عبر نظام تمثيلي عادل.
  • تفكيك المنظومات الميليشياوية وإعادة بناء جيش وطني غير عقائدي.
  • صياغة دستور مدني جديد يضمن حقوق الإنسان والتعددية.
  • إطلاق مسار مصالحة وعدالة انتقالية يُنهي منطق الثأر ويعيد الثقة بين المكونات.
  • ضمان مظلة دولية متوازنة تحمي هذا التحول من عبث القوى الخارجية.

 

 

لن يكون الاستقرار ممكناً ما لم تُفتح ملفات العدالة والمساءلة. فالمصالحة الحقيقية لا تُبنى على النسيان، بل على اعترافٍ متبادلٍ بالضحايا والحقوق.
ما لم تتحول العدالة الانتقالية إلى ركيزة للنظام الجديد، فإن سوريا ستبقى تعيش سلاماً مؤجلاً مغطى بالسكوت والخوف.

 

 

الخاتمة: بين الممكن والمأمول

منذ سقوط الأسد، لم تتوقف سوريا عن البحث عن نفسها. فالنظام القديم انهار، لكن الدولة لم تولد بعد.

إنّ نظام أحمد الشرع لم يحقق أمناً ولا استقراراً، بل أعاد إنتاج مناخ الخوف والعنف على نطاقٍ أوسع.
فالمجازر التي ارتُكبت في الساحل السوري ومحافظة السويداء، وما رافقها من حملات قمع واعتقالات واسعة، كشفت أن النظام الجديد لم يرث أدوات الدولة بل أعاد توظيف أدوات الحرب في إدارة المجتمع.


لم يعد "الأمن" وسيلة لحماية الناس، بل غطاءً للعقاب الجماعي وتصفية الخصوم. وبذلك، لم ينجح النظام في بناء دولةٍ مشروعة، لأنه أسّس سلطته على منطق الإكراه والإقصاء لا على قاعدة الشراكة والمواطنة، فحوّل سوريا إلى فضاء تُدار فيه الحياة اليومية بالخوف لا بالقانون.

 

 

في النهاية، لا يحتاج السوريون إلى بطلٍ جديد أو رايةٍ جديدة، بل إلى دولةٍ تُشبه وجوههم المتعبة وتعيد لهم حقّهم في الحياة دون خوف. فكل دولةٍ لا تعترف بإنسانها، تُعيد إنتاج استبدادها مهما تغيّر وجه الحاكم.
وإلى أن يتحقق ذلك، ستظل سوريا، رغم كل الخراب، أفقاً مفتوحاً بين الممكن والمأمول — بين إرادة البقاء واستحالة العودة إلى الوراء.

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
آخر المقالات
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard