info@suwar-magazine.org

من هيمنة المركز إلى سيادة المواطن

من هيمنة المركز إلى سيادة المواطن
Whatsapp
Facebook Share

 

من بين أكثر المفاهيم التباساً في التاريخ السياسي السوري يبرز الخلط العميق بين الدولة والسلطة، وبين المركزية التي تعبّر عن السيادة الوطنية، والمركزية السلطوية التي تعبّر عن السيطرة والإكراه. هذا الالتباس لم يكن مجرّد خطأ لغوي أو مفهومي، بل هو جوهر المأزق السوري منذ أكثر من ستة عقود، حين تحوّلت السلطة إلى بديل عن الدولة، والسياسة إلى أداة لإدارة العنف لا لبناء السيادة.

 

 

الدولة، في معناها الأصيل، هي الكيان الذي يجسّد سيادة المجتمع على نفسه، أي قدرته على تنظيم شؤونه العامة ضمن إطار قانوني يضمن الحرية والمساواة والعدالة. الدولة ليست شخصاً ولا حزباً ولا طائفة؛ إنها التعبير المؤسسي عن الإرادة العامة. أما السيادة فهي ملك للشعب، لا تُمارس باسمه بل عبر مؤسساته المنتخبة التي تخضع للمساءلة والمحاسبة. لكن في التجربة السورية، جرى اختزال الدولة في السلطة، والسيادة في الحاكم، فأصبحت الدولة جهازاً أمنياً وبيروقراطياً يُدار من المركز، لا بنيةً وطنية تتشاركها المكوّنات والأقاليم والمواطنون على قدم المساواة.

 

 

السلطة، بطبيعتها، تميل إلى التمركز والتوسع، فهي تسعى إلى السيطرة على كل ما يمكنها الوصول إليه وتحويله إلى امتدادٍ لذاتها. وهذا الميل طبيعي إذا بقي ضمن حدود الإدارة والتنظيم، لكنه يتحول إلى خطرٍ وجودي حين يتجاوز تلك الحدود ليبتلع الدولة والمجتمع معاً. في سوريا، تحوّلت مركزية السلطة من وسيلةٍ لتوحيد القرار الوطني إلى أداةٍ لاحتكار القرار السياسي والاقتصادي والثقافي. فالمركز لم يعد نقطة توازن، بل صار نقطة احتكار، يراقب الأطراف ويقيس ولاءها بمقدار طاعتها. وهكذا تقلّصت الوطنية إلى طاعة، والمواطنة إلى تبعية، والسيادة إلى سلطة أمنية مطلقة باسم حماية الدولة.

 

اقرأ أيضاً:

 

من"سوريا الجغرافية"إلى"الوطنية السنيّة" تحولات الهوية والدولة في سوريا الحديثة

 

                 الفيدرالية وإمكانات إعادة بناء الوحدة الوطنية في سوريا

 

 

لقد برّرت النخب الحاكمة هذه المركزية بذرائع الوحدة الوطنية، لكن النتيجة كانت عكسية تماماً، تفكك المجتمع، وتآكل الدولة، وولادة نزعات محلية وطائفية كردّ فعلٍ على احتكار المركز لكل سلطة ومعنى. فالمركز الذي ابتلع الدولة والمجتمع معاً، لم يحمِ وحدتها بل أضعفها، ولم يصن سيادتها بل صادرها.

 

 

المركزية السياسية ليست سوى وجه من وجوه الاستحواذ، فهناك أيضاً مركزيات دينية وثقافية وأيديولوجية، تشترك جميعها في جوهرٍ واحد، الخوف من الحرية والرغبة في السيطرة على المعنى. حين تتحول العقيدة إلى سلطة، أو الثقافة إلى هوية مغلقة، أو الأيديولوجيا إلى تفسيرٍ وحيد للعالم، فإنها تنتج استبداداً جديداً يختلف في شكله لا في جوهره عن الاستبداد السياسي. فالمركزية، في كل صورها، ترفض التعدد والتنوع، وتُخضع الإنسان لمقياس واحد، هو القرب من “المركز” لا من الحقيقة أو العدالة.

 

 

إن نقد المركزيات لا يعني الدعوة إلى تفكيك الدولة، بل إلى تحريرها من احتكار السلطة. فاللامركزية ليست مشروع تفتيت، بل مشروع توازن، وهي إعادة توزيعٍ للقرار والمسؤولية بين الدولة والمجتمع، بحيث تستعيد الأقاليم والبلدات والهيئات المنتخبة حقها الطبيعي في المشاركة في إدارة الشأن العام.

 

 

اللامركزية الديمقراطية، في الحالة السورية، تمثل طريقاً لإعادة بناء الدولة على أسس المواطنة والمشاركة والشفافية. دولة لا يُختزل فيها الوطن في العاصمة، ولا الشعب في الحزب، ولا السيادة في الحاكم. إنها دولة تعترف بتعدد مكوّناتها، وتحوّل تنوعها من مصدر تهديد إلى مصدر غنى. وبهذا المعنى، فإن اللامركزية هي التعبير العملي عن السيادة الشعبية، إذ تعيد السياسة إلى الناس، وتضع السلطة في حجمها الطبيعي، إدارة لخدمة المجتمع، لا هيمنة عليه.

 

 

لقد آن للسوريين أن يتحرروا من وهم المركز الواحد، ومن فكرة أن الوحدة لا تقوم إلا على الخضوع. فالوطن لا يُبنى من الأعلى إلى الأسفل، بل من الناس إلى الدولة، ومن المجتمع إلى السلطة. إن الخروج من منطق المركزيات هو الشرط الأول لولادة السياسة من جديد، ولتحرير الدولة من هيمنة السلطة، ولتحرير الإنسان من الخوف. عندها فقط يمكن للجمهورية السورية أن تكون دولة مواطنين أحرار، لا رعايا مطيعين. دولة تتسع لكل مكوّناتها دون أن يبتلع أحدها الآخر، وتستمد شرعيتها من إرادة مواطنيها لا من مركزٍ يخنقهم باسم وحدتها.

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
آخر المقالات
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard