التعليم الأيديولوجي ومناهج الإقصاء في سوريا
لا يوفّر الحقل الدلالي لمفهوم الأيديولوجيا أي إحالة على الاختلاف، باستثناء الدلالة النكوصيّة التي لا ترى في المختلِف سوى تهديداً مباشراً، وضمنياً لمنظومة الأفكار والأجوبة النهائية التي تتأسس عليها، بالتالي إن مناهج التعليم الأيديولوجي تمارس إقصاءً مزدوجاً منذ البداية، إقصاءً للإمكانية المعرفية التي لا تنفتحُ إلّا بالتجربة والبحث والسؤال، والتي يشكل الخطأ الجزء الفعّال من تاريخ تطورها، وإقصاءً للآخر الذي يحمل حقيقة مغايرة تهدد سلفاً أنساقها المعرفية، ولهذا فإن عمليتي الاختزال والتعميم التي تنتهجها الأيديولوجيا، تبقي العقل خارجها، وتضفي عقلانية مزيّفة على محتوى تغذي الجانب العميق منه نزعة تعصبيّة متسلطة.
في سوريا وخلال العقود السابقة الأخيرة، وعلى الرغم من انتشار التعليم وتوسعه أفقياً، ظلَّ المجتمع السوري هشاً ومنقسماً على نفسه، لم يرتقِ إلى مستوى المجتمع المدني، وظلّ نظامه السياسي متخلفاً، استبدادياً وتسلطياً، لم يرتقِ إلى مستوى الدولة الوطنية الديمقراطية، وظلَّ العنف والتطرف وإمكانات النزاع كامنة في ثنايا المجتمع، تنفجر وتخمد، حتى انفجرت الانفجار الكبير عام 2011، وأدت إلى كارثة إنسانية وحضارية غير مسبوقة، في التاريخ المعاصر، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وما تزال مستمرة.
هذه المفارقة وضعت النظم والمؤسسات التربوية والتعليمية تحت السؤال، باعتبارها الأساس الذي ينهض عليه المجتمع الحديث، وباعتبار أن هذه النظم والمؤسسات كانت من الأسباب الخافية وغير المباشرة في تعزيز النزاع واستمراره.
في الواقع فإن النظام السوري عمل على الاستثمار في مبدأ إلزامية التعليم واحتكار المناهج والسياسات التعليمية والتربوية لتكوين هوية الأفراد القومية والسياسية والدينية وفق رؤيته ومصالحه، في إطار أيدولوجي عقائدي يسعى لتسخير المجتمع كاملاً لخدمة هذه الرؤية وتلك المصالح. ولقد هدفت المناهج التعليمية في سوريا لإعادة تشكيل مجتمع من لون واحد،) قومياً كجزء من الأمة العربية، ودينياً كمجتمع مسلم وجزء من الأمة الإسلامية (بالقفز فوق التعقيدات الطبقية والمجتمعية التي تتفاوت بين محافظة وأخرى بما فيها من تنوع إثني وطائفي، وأكثر ما تظهر هذه الأدلجة بشكل واضح ومباشر في مادتي التربية القومية والتربية الإسلامية، وبشكل خفي وراء كل المواد والمناهج الأخرى التي يتم تلقينها للأطفال في عمر مبكر، الأمر الذي أنتج هوية إيديولوجية متعالية عن الواقع، ومنفصلة عنه، وبعيدة كل البعد عن أهداف التربية ومقاصد التعليم.
وإذا كان من المعروف أن المجتمع السوري يتميز بالتنوع والتعدد الثقافي أو كما تحب أن تسميه السلطة (لوحة الفسيفساء) والذي مجدته بدورها، وأصبح محط فخر واعتزاز عند السوريين، فإن الواقع قد أنتج مفارقة عجيبة أفقرت هذا التنوع وجعلت منه مكمناً للتوجس والخوف، عبر اختزال كل أشكاله بالأيديولوجيا البعثية، التي أصبحت نموذجاً للوطنية والولاء والأخلاق والجغرافيا والتاريخ، والرياضة...الخ. لذلك فقد كان مجرد ذكر أسماء هذه الإثنيات بمثابة تهمة جاهزة في الطائفية والرجعية وتمزيق للنسيج الوطني، وكان التصريح بخلفية الفرد الاجتماعية أو الإثنية مشوبة بالخجل حيناً والتوجس أحياناً. إن هذه المفارقة التي صدقناها في مرحلة من المراحل (التعالي فوق الواقع واعتباره دنساً وتكريساً للطائفية البغيضة) لم تنتج إلا عماءً وإفقاراً، وتخوفاً من ذاك الآخر المختلِف.
اقرأ أيضاً:
ولعلَّ القضية الكردية مثالٌ بارزٌ في هذه المسألة، فحجم التهميش والإقصاء الذي مورس بحقهم لا يحتاج إلى تدليل وهو واضح في منع تعليم اللغة الكردية، وطمس الهوية الثقافية للأكراد وفرض ثقافة وهوية مغايرة عليهم قسراً. لقد عانى الأكراد مثلما عانت وماتزال تعاني كل مكونات الشعب السوري من السلطة الحاكمة وسياساتها التسلطية والقهرية، ولا شك أن للأكراد مظلومية تاريخية، ليس فقط في سوريا بل في كل الدول المجاورة.
لذلك نجد أن ما يحصل اليوم في مناطق سيطرة قوات قسد في شمال وشرق سوريا، من فرض مناهج جديدة ذات طابع أيديولوجي، ليس إلا انعكاساً وردّة فعل على هذا التاريخ السابق من التهميش والإقصاء. فمن الواضح أن هذه المناهج الجديدة وإن كانت تحمل بعض الجوانب الإيجابية والتقدمية في طياتها (التربية الجنسية) إلا أنها في المقابل غارقة في الأيديولوجيا إلى أذنيها، تقصي التاريخ العربي لصالح إظهار تاريخ مهمش ومطموس للأكراد، وترسم جغرافيا غير واقعية على حساب خرائط الواقع الحالي. أي إنها تعيد إنتاج أيديولوجيتها الخاصة بإقصاء وتهميش كل مغاير، وتعيد تكرار التجربة عبر فرض سياستها وتوجهاتها من خلال مناهج التربية والتعليم، وتفرض هذه المناهج وهذه الأيديولوجيا على كل المكونات التي تعيش في مناطق سيطرتها الحالية في الرقة، ودير الزور، ذات الأغلبية العربية بالإضافة إلى الحسكة - ومن المفارقة أن يتم فرض هذه المناهج في مناطق هي أصلاً خارج الخريطة المصورة لكردستان - وبالتالي فهي تمارس نفس الدور وتعيد إنتاج الحالة القهرية التي تعرضت لها بمشابهتها بمن اضطهدها، ولعل هذه الحالة مفهومة في سياق علم النفس الاجتماعي والفردي.
إن سيطرة الأيديولوجيا على التعليم هي احتقار للتعليم وأهدافه أولاً، وهي عملية تدجين ممنهج للأجيال ثانياً، الأمر الذي يعمق الانقسام، ويزيد من أسباب التفرقة، والعنصرية، ويغذي العنف والتطرف، ويقتل كل إمكانية لخلق جيل مبدع يتمتع بالحس النقدي والروح والوطنية والإنسانية. وإذا كان الكفاح الذي تخوضه الشعوب لنيل الكرامة الإنسانية، وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية، مسعىً حقيقياً فإن هذا الكفاح لا يتوّج إلا بتأسيس مستدام، ينطلق من بناء الفرد الإنسان خارج الأيديولوجيا، وداخل قيم العلم، وعبر فلسفة الاختلاف والاعتراف. الأمر الذي يعزز تماسك المجتمع ونموه وتقدمه واستقراره السياسي، وازدهاره الاقتصادي، وليس أجدى من ذلك سبيلاً لارتقائه المعرفي والثقافي والأخلاقي، وبنائه على قيم الحرية، وترسيخ قواعد الحقوق المدنية والسياسية، والحماية القانونية والاجتماعية والأمن والسلم والرخاء.