(بدنا نعيش) الحملة التي لم تنتهِ
مع دخول العام الجديد 2022 تكون قد مرّت سنتان على حملة "بدنا نعيش"، التي أطلقها شباب محافظة السويداء وشاباتها في الشهر الأول من عام 2020، والتي قوبلت باستهجان محازبي السلطة المتسيِّدة ومواليها، وموالي "قوى الثورة والمعارضة" أو موالي السلطة المستحيلة، أيضاً. في غضون الزمن الفاصل بين تلك الحملة وبين ذكراها الثانية حيث عادت المظاهرات الى شوارع السويداء مرّة أخرى، كانت السلطة تضيِّق الخناق على سكّان المحافظة عموماً وعلى شبابها وشابّاتها خصوصاً، دونما تمييز بين معارضة وموالاة هذه المرة، لأنّ سكّان المحافظة كلّهم خونة وعملاء للإمبرياليّة والصهيونيّة والرجعيّة العربية، حسب تعريف جديد للوطنيّة مفاده: الوطنيّون هم الذين يدافعون عن "الوطن"، أي الذين يدافعون عن السلطة، التي صارت وطناً اسمه "سوريا الأسد"، كالميليشيات والعصابات المسلّحة من ميليشيا حزب الله إلى فاطميون وزينبيون وغيرهما، علاوة على ميليشيا فاغنر الروسيّة و"الخبراء" الإيرانيّين.
الدلالة المضمرة لتعريف "الوطنيّة" المستحدث من قبل السلطة هي جعل سوريا بيئة وموطناً لما تسمّى مقاومة وممانعة، وجعل جنوب سوريا كجنوب لبنان؛ أدوات هذه السياسة هي القمع والتجويع والحرمان لا من الخدمات الضروريّة، كالماء والدواء والوقود والكهرباء..، لا نتحدّث عن الموارد الماديّة والموارد المعرفيّة والثقافيّة، بل الحرمان من كلّ شيء من أجل التهجير غير المعلن وإحلال سكّان جُدد محل المهجّرين والمهاجرين. فقد دخلت إلى القاموس السياسي عبارة سوريّي الداخل، مقابل سوريّي الخارج، أو سوريّي الشتات، على غرار فلسطينيي الداخل وفلسطينيي الشتات. والداخل، كما عرّفته الكاتبة رشا الأطرش، هو الداخل الذي تُنتجه ظاهرتان، أولاً: الشتات، الذي هو بالضرورة تسرّب بشريّ ممنهج إلى الخارج، سواء كان نزوحاً أو لجوءاً، هجرة شرعيّة أو غير شرعيّة، قسريّة أو اختياريّة (إن كان هناك ما تصحّ تسميته بالاختياري في مثل الحالات الفلسطينية والسورية والآن اللبنانية). وبذلك، فإنّ الخارج، كوعاء يمتلئ بما يرشح ويفيض عن إناء مكسور، هو الذي يخلق الداخل المُعتلّ، يُعَرِّفه. أمّا الظاهرة الثانية: فهي الحصار بأنواعه، ليس بالضرورة الحصار من قوّة معادية واضحة، كإسرائيل بالنسبة للفلسطينيّين مثلاً، وإن كان الاحتلال هو السّمة الأعمّ لقوة الحصار المُفضي إلى خلق ثنائيّة خارج وداخل" (المدن، 21 – 12 – 2021). القوّات التي تحاصر السوريّين والسوريّات هي قوّات مركبة ومتعددة الجنسيات: إيراني وروسي و"لبناني"، ممثّلاً بحزب الله الذي يحكم لبنان، و"عراقي" مثلّاً بميليشيا الحشد الشعبي، وتركي وأمريكي ولا ندري ماذا بعد.
في الزمن الفاصل بين حملة "بدنا نعيش" بين ذكراها الثانية ضاقت سبل العيش على السوريّات والسوريّين عموماً أضعاف ما كانت عليه قبل سنتين، وصار شعار بدنا نعيش، ولو بلا كرامة، علامة على صعوبة مجرّد العيش، فلا كرامة في اللاوطن واللادولة، ومع التسلّط والاستبداد والفساد.
من أبرز مؤشّرات الحصار المعيشي لسوريّي وسوريّات الداخل نسبة زيادة الرواتب والأجور الأخيرة إلى زيادة أسعار السلع والخدمات الضروريّة، إذا توفرت. لا يحتاج الأمر إلى علماء اقتصاد ومحلّلين اقتصاديين، إذ تكفي مقارنة زيادة الرواتب والأجور بنسبة 30% بزيادة سعر الخبز أو سعر الغاز المنزلي أو سعر الكهرباء أو أسعار الوقود والمواصلات... إلخ.
لقد تجاوزت السلطة ذاتها من سلطة سوريّة إلى سلطة مختلطة، أو كوسموبوليتيّة، أمميّة بعثيّة مقاومة وممانعة، تجاوزت سياسة التجويع من أجل التركيع نفسها إلى سياسة التجويع من أجل التهجير، فالسلطة تضغط على الناس معاشيّاً وأمنيّاً من جانب وتسهّل معاملات الهجرة "الطوعيّة"، وتستثمر فيها وتتربّح منها وتمعن في عمليّات التهجير، من جانب آخر. وتكافئ -في الوقت نفسه- المستوطنين الجدد، الذين دافعوا عنها بالثروات الوطنيّة والمرافق العامّة والأراضي والعقارات والنفوذ.
اقرأ أيضاً:
حملة "بدنا نعيش" ربّما تجاوزت طابعها المحلّي، وصارت حملة ضمنيّة عامّة، تشمل من يوصفون بالموالين والمعارضين، هي حملة من أجل عيش غير مشروط وغير موصوف بأيّ صفة، حملة من أجل مجرّد العيش، عيش بلا كرامة، أي بلا حريّة، قد لا تظلّ ضمنيّة وصامتة وقد لا تظل سلميّة، إذا تعذّر تهجير من تبقّى في الداخل السوري. هنالك تجويع سياسي وأيديولوجي متعمّد وممنهج، لكنّ الجوع محايد سياسيّاً وأيديولوجيّاً.
ما الكرامة التي خرج من أجلها السوريّون والسوريّات؟
قبل حملة "بدنا نعيش" بعقود طويلة؛ كان السوريّون والسوريّات مُنتَهَكي الكرامة، "الكرامة الإنسانيّة الكاملة" التي هي حق طبيعي لكلّ فرد (ذكر وأنثى) وكان المجتمع السوري مغيّباً قسريّاً عن حقوقه الطبيعية، ومُطالَباً بواجبات غير مشكورة تجاه سلطة تستعبده، وكان قد فقد هويّته الوطنية وانتُزع من انتمائه. خرج السوريّون والسوريّات لاستعادة كرامتهم المهدورة. والكرامة؛ هي المساواة والحريّة والعدالة، هي المواطنة المتساوية بحدّ ذاتها، هي أن يكون الأفراد مواطنين ومواطنات يتمتّعون ويتمتّعن بحقوق المواطنة وحقوق الإنسان. كان السوريّون غرباء منفيين في وطنهم، في حين كانت أبواب الوطن مفتوحة على مصرعيها للغرباء، من الإيرانيّين والروس وميليشيات حزب الله، وهم جميعاً يتمتّعون بامتيازات سياسيّة وعسكريّة أكثر بكثير من الجيش السوري الذي ذهب ضحيّة الاستبداد كما ذهب غالبيّة أفراد المجتمع السوري، سواء بالهجرة أو النزوح أو اللجوء. استباحة البلاد من قِبل "الغزاة والفاتحين" جعلتها مستوطنات لا ترقى إلى وطن، وبلداً لا يرقى إلى دولة.
شباب السويداء وشابّاتها حالهم كحال معظم الشباب السوري والشابّات السوريّات المهدور شبابهم/ـنّ، أو كحال شباب الظلّ، حسب مصطفى حجازي، يعملون كلّ ما بوسعهم لمغادرة البلاد، لا من أجل الخلاص الفردي فحسب، إنّما بحثاً عن ذواتهم المغتربة في مستوطنة الجوع الكافر، والبطالة الزنديقة. والذين يدفعونهم إلى الهجرة دفعاً يعتبرونهم عملاء للغرب، ولأمريكا بالتحديد، فيصيرون عرضة لقانون الإرهاب.
قائمة الاعتقالات والموت تحت التعذيب في السويداء طويلة، والناس يداوون آلامهم بدواء "العين لا تقاوم المخرز" أو "لا نريد أن تصبح السويداء كبقية المحافظات كومة أحجار"، هذا يعني أنّهم على دراية كاملة بأفعال النظام. الاعتقالات التي لم تتوقّف حرّكت ذاكرة السويداء التاريخيّة، فاستحضرت التصفيات التي قامت بها السلطة السياسية منذ كان حافظ الأسد وزيراً للدفاع، وإعدام "سليم حاطوم" بتاريخ 18 حزيران عام 1967، وبعد النكبة بأسبوعين تقريباً، زجّ نايف العاقل في أحداث حماه.
السويداء اليوم تحترق من الداخل، جرّاء سياسات السلطة التي صارت واضحة للقاصي والداني، وللمعارض والموالي، وقد لا تتراجع السلطة السياسيّة عن هذا النهج قبل أن تحقّق غايتها من بسط سيطرتها العسكريّة والأمنيّة على المحافظة، مع أنّ النزاع على السويداء وعلى المنطقة الجنوبيّة عموماً لا يقتصر على السلطة، بل هو نزاع إيرانيّ روسي وإسرائيلي أيضاً، فهل ستحرّك الذاكرة التاريخيّة مياه السويداء الراكدة، وتغيّر واجهة النهر إلى مجراه الصحيح؟