info@suwar-magazine.org

وضّاح الخاطر.. وردّدت الجبال صداه

وضّاح الخاطر.. وردّدت الجبال صداه
Whatsapp
Facebook Share

 

خطر لي وأنا أكتب أنّ أحداً لن يأبه أو يهتم بما أكتبه حيال إنسان أشعر تجاهه بعاطفة نبيلة نابعة من صفات امتلكها هذا الإنسان وتفرّد بها، ربما يقرأ أحدكم ويقول باستخفاف: ما شأننا نحن؟ لا ، أبداً، الأمر ليس بسهولة إطلاق هذا السؤال وبساطته على الإطلاق، شأنك أنت الذي تقرأ أنّك لم تعرف وضاح الخاطر ولم تتعرّف عليه، وشأنك أيضاً أنّك تعيش في بلدٍ فقيرة بالرجال، حيث ليس بمقدورك إن عثرت على أحدهم أن تُبدِله بآخر إن هو غاب فجأة أو رحل، وليس بمقدورك والحال هكذا أن تعثر على من تكشف نفسك أمامه، ذاك الذي يصنع لك مساحة آمنة للتعبير وتحكي له دون أن تقول كلمة "بلكي"، ذاك الذي تبكي في حضوره فيضيء العتمة الجاثمة في قلبك، ذاك الذي تشعر أنّه بقربك، إلى جانبك، يعتني بك، يعتني بهمك، يعتني بأبيك وأمك، يعتني حتى بجيبك ..

 

في المرة الأولى التي التقيته فيها، اكتفينا بالترحيب، لم أكن يومها على ما يبدو في حال جيدة، كنت أحرّر خبراً وآخذ بين الحين والآخر رشفة من مشروب الطاقة كما أخبرني هو فيما بعد، أظنّ أنّه أُعجب بفكرة وجود المشروب وكوّن فكرة مسبقة عني من خلاله، تكرّرت اللقاءات فيما بعد، لكنّها اقتصرت على السلام العابر، لم أكن أعلم من هو هذا الشاب الخلوق بالغ اللطافة، كنت أسمع عبارات تتردد باستمرار من قبيل "حيث يكون هذا الرجل أريد أن أكون" و"أنا مَدين لهذا الرجل بالكثير"، إلى جانب الكثير من عبارات الامتنان لصاحب الأيدي البيضاء التي مسحت على جباه الكثيرين، فترة قصيرة مرّت بعدها لم أكد أتعرّف فيها إلى وضّاح حتى رحل، وكان السؤال الذي تردّد، وبقيت إجابته معلّقة: ما الذي قاد كلّ تلك الجموع إلى كلّ تلك الدموع؟

لم يكن وضّاح الخاطر مديراً لإذاعة محليّة، كان حالة فريدة حفرت عميقاً في الإعلام الرسمي السوري، وعبّرتْ عن مرحلة لم يتجاوز عمرها ثلاث سنوات لكنّها كانت "ذهبية"، أعادت وصلنا بزمن الكبار، زمن الستينات والسبعينات، تلك الحقبة التي حظيت فيها وزارة الإعلام بأبرز وجوه الثقافة والسياسة والدبلوماسيّة ممن تعاقبوا على إدارتها، أمثال عبد السلام العجيلي وسامي الجندي ومشهور زيتون وجورج صدقني وجميل شيا، استطاع الخاطر خلال عمله كمدير لإذاعة سوريانا أن يفتح نافذة في جدار الممكن، والممكن في الإعلام الرسمي كما هو معروف (ضيّق جدّاً)، فكيف إذا كان الإعلام السوري هو ميدان التجربة؟ وكيف إذا كان المتاح هو العمل الإذاعي؟ وكيف إذا كان الزمن هو زمن اشتعال الأزمة السوريّة حيث التجاذبات السياسية قد تودي بصاحبها إلى القتل، والعقل السوري لم يهضم بعد فكرة وجود معارضين له ومختلفين عنه في القناعات والرأي والتوجّه، وحيث العقليات التي تتحكم في مفاصل الإعلام تُدير الشاشة من ثكنتها العسكريّة، وضاح الخاطر ذكّرنا بفؤاد بلاط (للمفارقة أن وضّاح الخاطر وفؤاد بلاط كلاهما من دير الزور، وكأن قَدَر هذه المدينة ألّا تنجب سوى الرجال والسمعة الحسنة).

 

استلم فؤاد بلاط إدارة التلفزيون عام 1976، وتمكن ومن خلفه أحمد إسكندر، أحمد صاحب أطول ولاية كوزير للإعلام في سوريا، من نقل التلفزيون إلى الألوان، نجحت ثنائية "المدير والوزير" بإحداث خرق في عمل الإعلام في ذلك الوقت وسمحت بإظهار التميّز والإبداع الذي يعود بمعظمه إلى صفات امتلكها بلاط في شخصيته وسلوكه. استلم وضّاح الخاطر إدارة سوريانا عام 2015، كانت الألوان في عهده متوفرة بكثرة، تراها في شارات المرور وعلى حبال الغسيل، في علم البلاد وأحمر الشفاه، لكن! لم يسبق لك أن عشتها كحقيقة في الحياة والسياسة، ما فعله وضّاح أنّه أعطى لهذه الألوان معنى وقيمة، التقط اللحظة والزمن ونجح ومن خلفه الوزير عمران الزعبي في تكرار جديد لثنائية "المدير والوزير"، بفتح ثغرة في جدار الإعلام المُغلق إلّا على من يشبهه، وخلق عبر أثير الإذاعة الفتيّة هامشاً من الحرية والثقة في التعاطي مع الناس والشأن العام واقترب من تجسيد فكرة أنّ الإعلام هو المسؤول عن تغيير عقلية الدولة لناحية المرونة في التعاطي مع الآخر، وتقبّل اللون المختلف خاصّة بعد عشر سنوات من الحرب، لكن هذا النهار الحُلُم لم يستمر طويلاً، أُبعد المدير الشاب، هكذا كما كلّ شيء في هذا البلد، بدون أيّة أسباب منطقيّة سوى أنّ وضّاح كان نجماً هوى من ثقب في السماء إلى بلدٍ يجبرك العيش فيه على مقاومة فكرة أنّك إنسان.

 

لُوِيت ذراع سوريانا في عُمرٍ مُبكّر وخبا صوتها وحُكِم على أول تجربة إعلاميّة حقيقيّة في سوريا بالدفن، عاد الإعلام الرسمي إلى ثكنته العسكريّة، وتحوّل الخبر إلى مُقعدٍ في كرسي متحرك، عاد العاملون في التلفزيون إلى موظّفين حضورهم مرهون بـالشكر من آلة البصمة، هُزِم منهم الكثير، وماتت الأحلام لدى من تبقّى ولم يكن حلمهم سوى بلد أقل ألماً، لكن الوجع زاد واليأس أيضاً وبتنا معلّقين في منتصف الأشياء لا نحب ما يحدث ولا يحدث ما نحب، في تلك اللحظة بالذات، أدركت أنّ تلك الجموع لم تكن تبكي وضّاح، كانت تبكي صديق الشخص البائس الموجود في داخل كلّ منا، وضّاح كان يخاطبنا باكتراث، يلتفت إلينا، يصافحنا، ينظر في عيوننا، ولأنّ الوضّاح امتلك كلّ هذا الحضور الطاغي كان لغيابه كلّ هذا الأثر ..

 

- أسأله: وضّاح.. من أين تأتي بالتوازن؟

  • من قال لك أنّني متوازن؟ أيّ شخص متوازن في هذه الأيام إمّا مجنون أو خالص (يضحك)، القصّة ليست قصّة توازن أبداً، فعدم طلب المساعدة لا يعني أنّك شجاع، القصّة أنّ هناك أشخاصاً يحبونك ويستحقّوا أن تكون بخير لأجلهم، وألّا تدعهم يشاهدوك وأنت ضعيف، في آخر سنتين فقدت أبي وأمي، توفيت أمي في 20 أيلول 2020، وتوفي أبي في 5 نيسان 2021 ، هذا الفقد بحاجة إلى وقت، أشعر بالفقد ولكن قد تُفاجَئي إذا قلت لك أنّني لا أعيش شعور الخوف أو القلق، أحياناً أنزعج من أنّني يجب أن أخاف، أن أقلق من شيء ما، أنا لا أبالغ، ولكن صدقاً ليس لدي ما يخيفني، أنا لست متفائلاً بالعموم، لكنّني أشعر دائماً أنّ هناك شيء جيد سيحدث، ويجب أن يحدث مهما كان الظرف العام سيئاً، لا أخفي عليك، أضحك على نفسي أحياناً وهذا ليس عيباً، نحن بحاجة لأن نضحك على أنفسنا لا أن نخدع أنفسنا كي نستطيع الاستمرار، سوريانا كان شعارها "صوت للأمل"، لماذا؟ لأنّ الأمل هو ما كنّا نفتقده كثيراً ونحتاج إليه. في عام 2015 ثلاثة أرباع السوريين هاجروا في ذلك العام، وكنّا نسأل أنفسنا ونحن نشاهد: إلى أيّ درجة وصل الحال بذاك الأب حتى غامر بحياة أولاده وركب البحر وهو يعلم تمام المعرفة أنّ نسبة الغرق أعلى من نسبة النجاة؟ الحقيقة أنّه كان يتأرجح بين اليأس والأمل، اليأس كان يدفعه للهروب والأمل كان يعده بالوصول، نحن بحاجة للأمل، عندما نتوقف عن بناء الأمل، يعني أنه لم يعد لدينا ما نطارده في حياتنا الكئيبة، الأمل مهم وربما يكتب لآمالنا يوماً ما آلا تخيب..

- كيف حالك الآن في هذه اللحظة؟

  • سادة.. لا أشعر بشيء تقريباً

 

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard